القدس مفتاح لفهم مسيرة التاريخ. ولا يمكن أن نفهم الواقع الحديث جيدا ما لم نعرف حقيقة القدس، وأدوارها الحاسمة مستقبلا؛ ولعل عدم ذكر اسمها في القرآن مباشرة هو هذا الدور الحاسم. لكن الكتابات لا تتحدث كثيرا عن "نبوءات القدس"، ولا "المسيح الدجال"، ولا "يأجوج ومأجوج" ولا "دابة الأرض"، كإشارات قرآنية. فالقرار الأمريكي يعجل بالنبوءات ويؤكد مركزية القدس والصراع الحضاري حولها، فهل استوعبنا حقيقة الصراع؟ وهل نتعامل مع ما يجري بمنطق العقيدة أم بمنطق السياسة؟ وهل أدركنا جيدا أطماع الكيان الصهيوني وإستراتيجياته؟ ولماذا يريد اتخاذ القدس عاصمة له؟ وما الأجوبة العربية المقدمة للشعب الفلسطيني وللمقدسيين؟. نبوءات حول القدس و"حركة المسيح الدجال": تشير الأحاديث النبوية إلى أن حركة "المسيح الدجال" أخطر حركة للباطل، وهي التجلي الأعلى للحركة الصهيونية. يقول عليه الصلاة والسلام: "إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله آدم أعظم من فتنة الدجال"، فقالت أم شريك: يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال (ص): "العرب يومئذ قليل وجلهم في بيت المقدس وإمامهم رجل صالح"، رواه ابن ماجة. ويحدد حديث هوية الدجال أن أصله يهودي وأنه لا يولد له ولد، وأنه لا يدخل المدينة ولا مكة، رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري. وهناك أحاديث كثيرة تفصل في فتنة الدجال وامتلاكه للعالم ومحاصرته القدسوالمدينةومكة دون الدخول إليها؛ كما تشير إلى الصراع بين الحق والباطل القائم بهذه الأرض إلى يوم القيامة. يقول عليه الصلاة والسلام: "يا معاذ إن الله سيفتح عليكم الشام بعدي من العريش إلى الفرات، رجالها ونساؤها مرابطون، فمن اختار منكم ساحلا من سواحل الشام أو بيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة". وفي حديث رواه أبو داوود بسند عن عبد الله بن عمر عن رسول الله (ص) أنه قال: "ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم" (وهو القدس الشريف). للإشارة فالهجرة لا تنحصر في الارتحال المكاني بل في معرفة الحق والالتزام به. وستستمر حركة مواجهة الدجال إلى أن يبعث الله تعالى المسيح بن مريم فيقتله عند سور بيت المقدس بباب الله أو الرحمة، ويضع بذلك نهاية "للصراع الحضاري". وعلى أرض القدس ستقع المعركة الكبرى الفاصلة التي ذكرت في الأديان الثلاثة، وتعرف ب"الملحمة الكبرى"، وفي الإنجيل تعرف ب"معصرة غضب الله العظمى"، وعند اليهود ب"الخربة الأبدية". يقول ليندسي: سيبقى فقط 144 ألف يهودي على قيد الحياة بعد معركة "هرمجدون". ويقول كلايد: "سوف يحتاج اليهود الذين يعيشون في إسرائيل إلى سبعة أشهر لدفن جميع الجنود الموتى" ص 33.34.. (يمكن العودة إلى كتاب "النبوءة والسياسة" لغريش هالسل ترجمة محمد السماك). قرار ترامب هو اعتراف واقعي بمخطط تهويد القدس: كان الصهاينة يسعون إلى تزييف حقائق التاريخ والواقع والجغرافية والثقافة والعمران، وتهويد الذاكرة الفلسطينية بكل الوسائل، بالنهب والسرقة والإحراق والروايات الزائفة؛ تزوير مدروس لم يسلم منه الحجر ولا الشجر ولا البشر. في مقابل احتفال العرب بالقدس عاصمة للثقافة، بينما الجرافات تزيل ملامح تاريخهم، وتغير بوصلة تفكيرهم وإحساسهم. أصدر "مركز الزيتونة للدراسات" تقريرا في السنوات الأخيرة يتناول برنامج تهويد القدس منذ ما يزيد على أربعين عاماً، ويتجلى في: إقامة مشروع "القدس الكبرى" الذي أطلق عام 1993م ومساحتها600كم2، وهي تقابل 10% من مساحة الضفة الغربية؛ وذلك ببناء المستوطنات وهَدْم المقدسات الإسلامية والمسيحية، والاحتفال بالمناسبات اليهودية، والحيلولة دون وصول الفلسطينيين إلى الأماكن المقدسة والبلدة القديمة؛ حتى أصبح عدد اليهود 70% من سكان القدس. والتهويد يتجلى في البرامج السياحية والإعلامية والثقافية والقانونية لعزل القدس عن محيطها ومواجهة أي "فلسطنة" لها. لقد حقق الصهاينة مشاريعهم المائية ويريدون أن يعطوها طابعا قدسيا، "فلا قيمة للأنهار بدون القدس"؛ وهذا ما عبر عنه الصهيوني بيغن قائلا: "إذا كانت مياه النيل تتطلب التنازل عن القدس فلا نريده"؛ فلو عرضت عليهم كل أنهار العالم لما قبلوا، فهم يبحثون عن "التسويغ الديني" من خلال القدس. إن هدف الكيان الصهيوني هو تغيير المعالم الجغرافية للخريطة العربية، فأمن وسلامة "إسرائيل" أرضاً وشعباً يقتضي إلغاء جميع الخرائط الحدودية التي رُسمت للدولة زمن الهدنة 1948، كما يقول "إيجال ألون"، وذلك لا يتم إلا بسياسة الزحف الاستيطاني. فالاستيطان الصهيوني رؤية استئصالية في "خارطته الذهنية" تقوم على التهجير القسري للفلسطينيين أو قتلهم، والاستيلاء على منازلهم أو هدمها وإصدار قرارات قانونية تنفذها الدوائر الصهيونية أو الجيش. وقد تصاعد هذا الاستيطان بعد هزيمة حزيران (1967م) وفق مجموعة من القوانين لانتزاع الأراضي من الفلسطينيين مثل: "قانون سقوط الحق بمرور الزمن، وقانون أملاك الغائبين، وقانون الأراضي غير المزروعة، وقانون المناطق الخضراء والغابات، وقانون الطوارئ لمصادرة الأراضي...". (يمكن العودة إلى كتاب "المخططات الصهيونية الاحتلال، التهويد" سمير جريس مؤسسة الدراسات الفلسطينيةبيروت ص 79). فهناك أشكال من الاستيطان: العمودي وهو خطير، كما يجري في القدس، والاستيطان الأفقي في الضفة الغربية، بالاستيلاء على عشرات "الدونمات"، وتسييجها بالأسلاك. الاستيطان مشروع صهيوني استعماري ينال من الأرض والبشر والعادات والتقاليد والثقافة، وتهويدها بصورة كاملة في كل فلسطين. أما بعد: إن المطلوب من العرب تحديد المهام المستقبلية ووضع الأولويات والإستراتيجيات التي تقلل، إن لم تقض، من الشتات العربي والخصومة على الصعيد الفلسطيني، فقد جرت عادة الشعوب أن تتوحد أمام الخطر الأجنبي، فالصف الوطني القومي والإسلامي مطلب ضروري لمواجهة الكيان الصهيوني. على العرب والمسلمين تفعيل المؤسسات الفلسطينية التي تعنى بالهوية الوطنية والثقافة العربية الإسلامية بكل فنونها ومصنفاتها من أجل إنقاذ التراث العربي والإسلامي والمسيحي، باستغلال أي مناسبة وطنية وقومية وإقليمية ودولية لإبراز هوية القدس العربية والحفاظ على تراثها والتراث الفلسطيني. تجريم التطبيع بكل أشكاله وتحت أي ظرف أو تسمية، ووضع دراسات إستراتيجية لإبداع أفكار تخدم القضية الفلسطينية. تقديم الدعم المادي والمعنوي للمقدسيين بالقدس، حتى يتشبثوا بمنازلهم ويكثروا سوادهم، ويحافظوا على أوقاف المسلمين.