في قلب حياتنا جميعاً سينبثق عالياً اسم مُحاصر بالتحديات، تقاطعت في مسيرته الشخصية والفنية ومنذ الهواء الأول تحولات من الأحداث المتلاحقة، وكلنا يُخيط مسافاته في شوارع الأحلام، التي أخذت حيزاً أوسع مع هذا الصوت الممتلئ نضارة والمتغلغل في جبين الأيام وسرّ الكلام.. كان يأتي من باب الحنين على غصن يخضرّ بالحكايات، مقتبساً من البحر وضفاف العاشقين وأحاديث الأوطان إيقاعه ورسائله، فنكون بين فرح وحزن وانتظار وأمل.. عبد الحليم علي شبانة (عبد الحليم حافظ 1929 / 1977) رسم خرائط أخرى إزاء دور الفن وقيمته، خلّفت مجالا للتفاعل، بعيداً عن تجسيد أكذوبة التفوق، نستحضر عبرها زمناً متوهجاً..كما نستحضر تلك النواحي الهادئة التي تشحذ الخيال برفقة عقول ماهرة من شعراء وملحنين (نزار قباني، صلاح عبد الصبور، صلاح جاهين، عبد الرحمان الأبنودي، صالح جودت، محمد عبد الوهاب، مرسي جميل عزيز، محمد حمزة، كمال الطويل، رياض السنباطي، محمد الموجي، بليغ حمدي، كامل الشناوي...)، الذين اتسع من خلالهم النهر ليحضن العالم، بعدما وضعوا في مجراه خبراتهم ومعارفهم وراهنوا على امتداداته في المعنى.. من قرية الحلوانية بمحافظة الشرقية التي رأى فيها سواد اليتم المبكر، ستكون المرآة والطريق في اتجاه هذا السفر فائق العذوبة، الطويل فناً والقصير عمراً، وسيكون الموسيقار عبد الحليم حافظ في إطلالاته المتقاربة يتوغّل في الجوهر، مُوسّعاً من بعده الإنساني مثل شجرة تورق على خد الأرض، مفتتنة بطيران فروعها، مواصلا حرث مشروعه الفني بنبض جديد، هو الذي لم تأته الحياة على طبق من ذهب أو فضة، ولكن على حروف من النايات.. منذ التحاقه بمعهد الموسيقى العربية بين سنوات (1943 / 1948)، كان عبد الحليم حافظ محرضاً على العمل وداعية له ومرحباً بتحققه وبنائه، فصار جداول ترعى بساقها الراسخة في منتصف الفصول، يكبر على وقع الكلمات الكبيرة، ويحرس مخيلة الفرح، مُسافراً في هواء المدن بدرره الفصيحة من: 1951 إلى الهزيع الأخير من سنة 1977، متخطياً المزيد من التقدير على إنتاج الدّهشة وباذراً حقلا فنياً مرموقاً على نحو خاص، ينطوي على جماليات ومقاصد، ويسعى سعياً في نزهات شجية يلفّها الأفق، ليدوّن بذلك تاريخ القلوب ورسائل الناس. بحث عبد الحليم عن طريقته في الأداء، بعدما استهوته الأنغام والتراتيل والأقاصي، فأضحى يقرأ وينطق ويفكر بلغة الموسيقى. كان قامة تتألق في النفوس وتبْنِي مداراتها في تعرجات الكلمات والألحان، يسكب من دمه لنداءات الأغنية العاطفية والوطنية والابتهالات، ويقيم صلات بالغة الإيحاء بينه وبين الذات العربية، وفق ملاحم متسارعة ومتصاعدة، تنقلنا إلى مستويات مختلفة من الجمال: قارئة الفنجان، رسالة تحت الماء، حاول تفتكرني، سوّاح، عدى النهار، على أرضها، الماء والخضرة، أنا من تراب... وغير ذلك من باقات الزّهر التي قدمها بكرم بليغٍ إلى جانب العديد من الأعمال السينمائية المُتوهجة. في مسار مُنتج أشعلته إرادة لا تترمّد، كان الفنان عبد الحليم الذي عاش عصراً برجاله ورموزه ومعاركه وأحلامه وإخفاقاته، ملتقطاً ذكياً لمتطلبات زمنه، فاهماً للخصوصيات التي تطبع العمل الفني وسيرة مبدعه، ما أهله أن يترك ذخائر من التراث الموسيقي العربي، ستظل قيد التاريخ والذاكرة متأهبة كورد الندى ويقظة كأصوات النّهار. فهل سنطلّ على زمن الكبار في توهجه مرة أخرى، بعيداً عن ابتكارات الوهم؟ ونسمع ربيعاً حائراً يدقّ علينا ليحرّك فينا قياثر الفراشات، يعمل على إيقاظ وإيقاد حواسنا بجرأة وبهاء هذا الفنان العظيم، الذي أحاط نفسه بالتميز والتفرد، وعلمنا "نبتدي منين الحكاية"؟.