ما كانت أمريكا لتجرأ على اتخاذ قرارا بنقل سفارتها إلى القدس لتكرسها عاصمة لإسرائيل، لو لم تلمس أن هناك هشاشة عربية شاملة وأوضاعا متأزمة، تصب في مصلحتها، ولولا أن الوحدة الفلسطينية مفكّكة والعلاقات العربية –العربية محتقنة، والأجواء ملغومة، واللغة المتداولة عربيا تقطر تخوينا وكراهية وحقدا، خصوصا في غياب مؤسسات ديمقراطية تنفيذية وتشريعية منتخبة، تستند إلى الشرعية الشعبية وتشتغل وفق منظوماتٍ قانونية ودستورية، تفصل بين السلطات، وتحدد أدوار كل مؤسسةٍ على حدة، وتؤمن بالحرية واحترام حقوق الإنسان. إن للقدس الشريف مكانة خاصة في مخيلات العرب والمسلمين، وهم يدركون أن المكان الذي يرمز إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى الرسول الكريم ومدينة الأنبياء والتسامح المليئة بالرموز التاريخية والدينية، والتي تجتهد إسرائيل للسيطرة عليها وامتلاكها بادعاء أن المدينة جزء من تاريخها، والعمل على تطويعها للتأويل الذي يخدم مصالحها وتفسيرها للصراع مع الفلسطينيين، بيد أن الإيمان وحده بقيمة القدس والمسجد الأقصى، ورمزيتهما، لا يكفي لكبح جماح سلطات الاحتلال، ولا الحد من أحلامها الهادفة إلى ضم القدس الشرقية، وطمس هويتها العربية وهذا يزكيه القرار المتهور لدونالد ترامب الذي يفتح أبواب الجحيم ويعرض المنطقة من أقصاها إلى أقصاها لحرائق مهولة، سيصعب إخمادها واحتواء امتداداتها إلى أكثر من منطقة في العالم. غير أن الحكومة والطبقة السياسية الإسرائيلية أشادت بخطوة ترامب وثمنتها عاليا، وهي الخطوة التي تطرح على الدول العربية والإسلامية تحديات كبيرة، تتطلب مواقف حاسمة وصريحة، علما أن الحكومة اليمينية الحالية، برئاسة بنيامين نتنياهو، مدعومة من طرف الإدارة الأمريكية، تتعمد إفشال أي محاولة أو مبادرة لحل الملف الفلسطيني، وكلما لاحت بوادر لتنشيط عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تعمد هذه الحكومة إلى افتعال احتقانات وإيجاد شروط توتر، للحيلولة دون تحقيق أي تقدم على طريق أي تسوية عادلة ومنصفة، بل تضرب عرض الحائط كل الجهود والمبادرات.. هناك فرصة تاريخية لتتغلب الفصائل الفلسطينية، لاسيما حركتا فتح وحماس، على الحواجز النفسية والموانع الذهنية، لاستثمار صراع عبثي عمر طويلا، لا معنى له تاريخيا وسياسيا واستراتيجيا، فحكومة التحالف اليميني التي يرسم خريطة طريقها نتنياهو، تعيش حالة ارتباك وتخبط، وعلى سبيل المثال ،وحسب صحيفة لوموند الفرنسة الرصينة، كان قرار إقامة البوابات الإلكترونية قرارا شخصيا اتخذه نتنياهو،والذي اعترضت عليه المخابرات الداخلية والمؤسسة العسكرية. وفي بالمقابل، ساندته المؤسسة الأمنية، وجاء لإرضاء الجناح المتشدّد في التحالف الذي يقوده نتنياهو، والذي يميل إلى نهج سياسة القبضة الحديدية تجاه الفلسطينيين. إن نزوع الحكومة الإسرائيلية إلى التقليل من حجم الغضب الفلسطيني، وقرار واشنطن نقل سفارتها إلى القدس، ينبع من كون الأوضاع المتردّية في المنطقة العربية ستساعدهما على تطبيق مخططهما، لكنهما ربما أخطئا الحساب، ولم يقرءا جيدا حساسية الفلسطينيين والمقدسيين بشكل خاص، حيال المساس بالمسجد الأقصى، فالمشكل لا ينطوي فقط على حمولة دينية، بل يكتسي بعدا هوياتيا، لآن القدس ترمز إلى المكان الذي يستطيع أن يشعر فيه الفلسطيني بأنه يتمتع بالسيادة، وهنا تأخذ الرمزية السياسية أهمية أكبر من المشاعر الدينية.. من شأن القرار الأمريكي أن يجعل الحكومة الإسرائيلية تجد نفسها في مواجهة شارع فلسطيني غاضب وملتهب،وقد يفرز نفس القرار موجة من الكراهية والعنف ضد أمريكا وإسرائيل في الشارعين العربي والإسلامي،خاصة وأن هناك حالة من الاستياء العام والتذمر العميق عبرت عنها الشعوب والأنظمة على حد سواء . . إذن المطلوب فلسطينياً وعربياً وإسلامياً التعامل بكثير من الحزم والجدية مع القرار الأمريكي، وتحويل تداعياته إلى مصدر قوة وضغط، لإشعار السلطات الأمريكية و الإسرائيلية بأن ما يعتبرانه فرصة للانقضاض على الحقوق التاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني، بعد سقوط عدد من الأنظمة، وانهيار دول بأكملها، اعتقاد خاطئ بكل المقاييس، لأن إرادة الشعب الفلسطيني وصموده وإيمانه بعدالة مطالبه وقضيته مسنودا بالضغط العربي والإسلامي الشعبي والرسمي هو العامل المؤثر فعلا على مسار الأحداث، والقادر على تغيير موازين القوى، والتصدي لكل المؤامرات.