أشَّرت لحظة ولادة القانون الوضعي على بداية مرحلة أساسية في تطور المجتمعات الإنسانية؛ حيث سهلت انتقال هذه المجتمعات من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع؛ فخلقت القواعد القانونية الشرط الأساسي لإرساء لبنات المجتمع الحداثي، حيث تتأسس العلاقات الاجتماعية على منطق قانوني يضفي صبغة العقلانية على الاجتماع الإنساني. هكذا ضمنت القواعد القانونية حريات الافراد بما يقنن مفاهيم الحق والسلطة، فشكل ذلك الأمر تطورا في مسار الشعوب، حيث أتاح لها الحسم مع لحظة قانون القوة وإعمال قوة القانون المستمدة من توافقات المجتمع، فشكل القانون ضمانتها الأساسية بما أنتجه من آليات عقلانية حافظت للأفراد على حقوقهم الطبيعية. لقد شكلت هذه التحولات محور المقاربات الفلسفية والسوسيولوجية التي اهتمت بالأبعاد الأخلاقية والاجتماعية للقانون الوضعي، ومن تم النظر إليه كحل تقني ضروري لتحديث ودمقرطة المجتمعات والدول، وتحديدا الغربية منها بالأساس. حيث لم يكن تطور هذه الاخيرة ممكنا إلا بفضل نظرية التعاقد الاجتماعي، التي تعتبر في نفس الوقت نظرية القانون التعاقدي، أي أن أليات ترجمة هذا التعاقد على مستوى الواقع ليست سوى قواعد القانون الوضعي التي خولت لأجهزة الدولة وحدها حق ممارسة العنف المشروع بغية حماية الحقوق الطبيعية لأفراد الشعب في إطار علاقة توافقية بين الدولة والمجتمع. لقد انبثقت الدولة الوطنية في الغرب في سياق تاريخي جعل منها إفرازا موضوعيا لشروط تاريخية ميزتها التدافع بين الأنظمة السلطوية والنخب البرجوازية التي تشكلت على خلفية التحول المادي الذي عرفته أوروبا والذي شكل الشرط المادي لهذا التطور، حيث تضافرت هذه المعطيات المادية والسياسية لتشكل سياقا معرفيا جعل من ارتباط القانون بمؤسسات الدولة ارتباطا عضويا و وظيفيا، تتحكم بموجبه القواعد القانونية ذات الطبيعة الآمرة و العامة و المجردة في طرق اشتغال هذه المؤسسات. الأمر الذي دفع الكثير من الباحثين مثل جورج بيردو Georges Burdeauإلى عدم الفصل بين الدولة الحديثة و دولة القانون. وبالفعل، فقد أفرز لنا العقد الاجتماعي ترسانة من القوانين، كان لها دور أساسي في إخراج المجتمعات الغربية من نفق وصاية الأنظمة السلطوية والثيوقراطية التي كانت تتعامل مع المواطنين كرعايا؛ ومؤسسات الدولة كممتلكات خاصة. لقد شكل التطور القانوني بعدا من أبعاد الحداثة التي ارتبطت في نشأتها بتاريخ أوروبا الغربية وتطورها خلال الحقبة الحديثة، ففي سياق هذه السيرورة اقترنت نشأة وتطور قواعد القانون الوضعي، تاريخيا بدمقرطة جل الأنظمة السياسية ومأسسة أجهزة الدولة بالغرب، المشتغلة وفق منطق عقلاني وبيروقراطي حسب نظرية ماكس فيبرMax Weber، لكن استيراد وتبيئة هذه القواعد القانونية في العالم العربي تمخضت عنه أزمة مزدوجة تتعلق أساسا بتكييف وملائمة القانون الوضعي'' المستورد'' مع خصوصيات انساق ثقافية واجتماعية مختلفة عن النسق الأصلي، ناهيك عن تلك المرتبطة بإمكانية مأسسة الدولة في ظل استمرارية شروط تاريخية وسوسيوثقافية مازالت تنتج تبريرات قيمية لتحكم أنظمة سلطوية وإن صح التعبير ثيوقراطية في مسار ممارسة السلطة بالدول العربية، وبذلك تطرح مسألة استنبات هذا المنطق المؤسساتي والقانوني في شروط ثقافية مفارقة لسياق نشأة ونجاح هذا التجربة اكراهات كبيرة تفسر واقع تمثل القانون الوضعي ودولة الحق والقانون في هذه الدول الموسومة بالنامية، حيث يرهن الاختلاف الموجود بين القانون والشروط الثقافية هذا التطور، كما تحد هذه المفارقة من ضمانات نجاح التجربة الديمقراطية، بالنظر لعجز هذه الدول عن تكييف هذه الخلفية القانونية مع خصوصيات مجتمعاتها. وبذلك لا يمكننا بلورة فهم أعمق لهذه الأزمة المزدوجة دون أخذ بعين الاعتبار للظروف التاريخية والأهداف السياسية التي واكبت مسيرة انفتاح هذه الدول بعد استقلالها على القانون الوضعي ''الغربي''. يتطلب الحديث عن هذا الإشكال دراسات معمقة تلامس أبعاده المعرفية المختلفة في أفق القطع مع تفرد المقاربات الوضعية و القانونية التي هيمنت معرفيا على دراسة تاريخ وكيفية إعادة إنتاج قواعد القانون الوضعي داخل النسق السوسيوثقافي العربي. لأن فهم وتحليل وظائف قواعد القانون الوضعي'' المستورد '' يكاد يكون مستحيلا في غياب تقييم فعاليتها الاجتماعية حسب تعبير جون كاربونيي Jean Carbonnier، وبعبارة أخرى تبرز الحاجة إلى المقاربة السوسيولوجية من أجل فهم طبيعة التفاعل القائم بين القانون والمجتمع، وكذلك شرح أسباب عدم قدرة قواعده على التسريع بظهور دولة المؤسسات. فمند حصول الدول العربية على الاستقلال ظل إشكال تحديثها ودمقرطتها مرتبطا بضرورة صياغة قانون تعاقدي وليس بالممنوح، وهو ما نجد تفسيره في طبيعة الأزمات السياسية التي عاشتها و لا زالت العديد من الدول العربية. حيث بقيت إشكالية صياغة دستور ديمقراطي من طرف هيئة تأسيسية منتخبة من الشعب مطلبا أسياسيا ومدخلا لإعادة تكييف قواعد القانون الوضعي ''المستورد '' مع الخصوصيات المحلية. فإلى حدود الآن يمثل الدستور التونسي لسنة2014 النموذج الفريد للدستور الديمقراطي بالعالم العربي باعتبار أن هيئة تأسيسية منتخبة من الشعب التونسي هي التي قامت بصياغته. يتخذ القانون معنى سياسي مصاحب للطابع التنظيمي الذي يضفيه على عمل الفاعلين، بالموازاة مع الدور الذي تلعبه المقتضيات والقواعد القانونية في شرعنة الفعل السياسي وتبريره، وضبط الية اشتغال السلطة في توازن مع الحرية وحقوق الأفراد التي تشكل ضمانة لضبط التفاعل بين الفاعلين وعلاقتهم بالمؤسسات.فقد ساهم استيراد القانون الوضعي ''الغربي '' (القانون الدستوري أو الإداري أو الجنائي) فعلا في تغيير شكل الدول العربية مثلما شكل مرجعية قيمية بررت استعمال هذه الأخيرة للعنف المشروع.غير أن هذا الأخير لازال يثير عدة إشكالات أساسية مرتبطة بطرق تنزيل أو تطبيق مقتضيات ''القانون المستورد'' و التي تشكل عائقا بنيويا أمام دمقرطة بنيات الدولة العربية نظرا لدورها في توفير ضمانات قانونية و ''شرعية'' تستخدم غالبا بشكل عكسي بغية إخفاء الشكل السلطوي لأجهزة الدولة، وتمكينها أيضا من استعمال قواعد ''القانون المستورد'' بشكل أداتي يخدم السلطوية أكثر ما يخدم الديمقراطية. وهذا ما يشكل هنا جوهر الإشكال المطروح؛ لأنه يساعدنا على النبش والتساؤل حول مشروعية وجود ''القانون المستورد'' بأنساق تاريخية وسياسية يعتبر فيها القانونين الوضعي والإسلامي مجرد أدوات تستخدم وفق منطق سلطاني يعيق أي محاولة لبناء دولة المؤسسات على حساب دولة الأشخاص. من هذا المنطلق يمكننا القول بأن أزمة مشروعية ''القانون المستورد'' هي امتداد لأزمة الدولة الحديثة بالعالم العربي، فهي أزمة ثقافية تكمن في تمثل الإفراد للقانون والمؤسسات في سياق استمرار تأثير البنيات التقليدية وثقافتها التي تخلق شرطا ثقافيا محافظا وممانعا للتحديث، وهو وعي يؤثر سلبا على شروط عمل مؤسسات الدولة و يغير من مسار علاقتها مع المجتمع. لقد نتج عن انعدام الثقة في القانون الوضعي ''المستورد '' بروز تأويل سلبي لهذه القواعد، عبر بحث المواطنين المتواصل عن جميع الطرق الكفيلة بتجنب تطبيقها أو الالتزام بها، وهذه الإستراتيجية التي قد توضح طبيعة التصورات الاجتماعية حول القانون الوضعي كأداة للسلطة ورمز للدولة، تفسر عدم تجدر الوعي والثقافة القانونية داخل المجتمع وكذلك عدم فعالية ''القانون المستورد''. إذ لم يساهم تبني قواعده من طرف الأنظمة السلطوية بالعالم العربي إلا في تعميق الإحساس لدى المجتمع بكون الدولة الحديثة التي يؤطرها ''القانون المستورد '' ليست دولة قانون بل دولة مشخصنة تستخدم هذا الأخير من أجل عقلنة منطقها الباتريمونيالي، حتى يصبح متوافقا مع ضرورة تحديث بنيات الدولة السلطانية. بَيْد أنه إذا كان تاريخ القانون الوضعي بالغرب قائم على دوره لإيجابي في بناء مجتمع المواطنة وأيضا في مواكبة الانتقال من الجماعة المرتكزة على التضامن الميكانيكي إلى المجتمع الحداثي المعتمد على التضامن العضوي كأسلوب لتوزيع الأدوار الاجتماعية حسب تصور دوركايم Durkheim ،فإنه لازال غير قادر على تحويل مسار المجتمعات العربية التي سبق فيها بناء الدولة بناء المواطن، إذ تقف الاستعمالات الاجتماعية والسياسية لقواعد ''القانون المستورد'' كحجرة عثرة أمام كل محاولة تصبو نحو إعادة تشكل هذه القواعد حسب تصور براغماتي يشحن تأويلها بجرعات حداثية تفرز معها طاقات إيجابية عندما يتم إفراغها داخل شرايين و تمفصلات العلاقة القائمة بين الدولة والمجتمع .فعلى الرغم من التحولات التي شهدتها بعض المجتمعات بعد أحداث الربيع العربي والتي أفرزت وعيا سياسيا جديدا لدى المواطنين، تشير تجلياته المادية وحمولاته الرمزية إلى رغبة هذه المجتمعات في إعادة الاعتبار للقانون الوضعي عبر إعادة طرق صياغته بشكل ديمقراطي، لايزال مسلسل بناء دولة القانون ومجتمع المواطنة طويلا وشاقا يتطلب مجهودات تنظيرية وكذلك تطبيقية في مجال صناعة المرجعيات القانونية القادرة على إحداث القطيعة مع المنطق السلطوي والتأويل الانتهازي اللذين جعلا القانون الوضعي رهينة تصورات واستعمالات زادت من حدة أزمته. *باحث في العلوم السياسية