بعد نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الفكرة السائدة هي ان السياسات الحمائية أدت الى نشوب الحرب وأن تحرير المبادلات التجارية سيشكل خطوة جريئة نحو النمو الاقتصادي، الا ان عدم استقرار أسعار الصرف سيؤدي حتما الى غياب فرضية التقدم والرخاء. منذ مدة ليست بالقصيرة واشكالية تقلبات الصرف تثير جدلا واسعا بين الاقتصاديين وخاصة أولئك المدافعين عن تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية عبر سياسات نقدية ملائمة كأداة من أدوات السياسة الاقتصادية للدول المنفتحة على الخارج في الوقت الراهن. بعد التحرير الكامل للسلع والخدمات، صارت الدول تبحث عن آلية جديدة للدفاع عن صناعتها وتأمين السوق الداخلية من المنافسة الخارجية الشرسة وحماية الصناعات الناشئة (فريدريك ليست). فهل أتاك حديث التلاعب بأسعار الصرف الدي جعل من الصين قوة لا تضاهى. وعليه فان تحرير سعر صرف الدرهم أصبح خيار لا محيد عنه، اذ تجري الاستعدادات على قدم وساق ومن المقرر أن يخوض المغرب تجربة نقدية غاية في التعقيد تهم بشكل رسمي العمل بنظام تحرير سعر صرف الدرهم، فما هو مفهوم التعويم؟ وعن أي نوع من التعويم نتحدث في الحالة المغربية وهل المغرب مستعد للقيام بهكذا مجازفات؟ وماذا عن التجارب المقارنة؟ الإجابة على هكذا تساؤلات ليست سهلة بالبتة نظرا للتشعبات الكثيرة التي تتمحور حولها، مما يحتم علينا وضع بعض الفرضيات كتلك التي وضعها البنك المركزي وهو سيناريو الازمة، لأن أي سياسة اقتصادية تهدف إلى استباق ازمة كما يقول "كينز" خاصة وأن المغرب يعاني الأمرين جراء أزمة الصرف. يرتبط سعر الصرف الحالي بسلة عملات مكونة من الأورو بنسبة 60% والدولار بنسبة 40% بناءا على المعاملات التجارية وهو ما يعني بشكل أو بآخر الاختباء وراء هذه العملات الأجنبية وغياب الاستقلالية. وبالتالي فإن التعويم يعني وضع الدرهم وجها لوجه مع باقي العملات وفقا لنظام للعرض والطلب. وبشكل مبسط فإن تعويم الدرهم هو تحرير سعر صرفه في مقابل العملات الأجنبية الأخرى، مثل الأورو والدولار، وهو التوجه الذي يروم إرساء نظام تخضع فيه العملة لألية العرض والطلب دون تدخل من البنك المركزي أو السلطات الحكومية. وتحرير سعر صرف العملة يشبه إلى حد كبير تحرير أسعار السلع والخدمات، إذ تخضع السلعة أو الخدمة لقانون العرض والطلب، فإذا زاد الطلب ارتفع السعر، وإذا زاد العرض انخفض السعر. يجب الإشارة في البداية إلى وجود فرق شاسع بين التعويم والتحرير. ففي الحالة المغربية نتحدث عن تحرير تدريجي، مقنن ومنظم حيث يبقى الهدف النهائي هو التعويم خلال حيز زمني لا يقل عن 15 سنة. أما نظام الصرف الحالي فهو نظام مثبت وليس ثابت نظرا للتدخلات المباشرة والمستمرة للبنك المركزي، حيث لا تتجاوز تغيرات العملة 3 في الأف. وحسب تصنيفات صندوق النقد الدولي، يتواجد 8 أصناف من أنواع الصرف الا أننا سنتطرق فقط الى 2 وهما: تعويم كامل flottement pur، ويعني ترك العملة الوطنية لتسبح في السوق دون أن ينقذها أحد أو يحدد وجهتها، بل تخضع لآلية العرض والطلب، فتارة ترتفع، وتارة تنخفض أمام العملات الأخرى. وتعويم مدارflottement administré، ويعني ترك سعر صرف العملة إلى قانون العرض والطلب مع تسجيل بعض التدخلات من طرف البنك المركزي عند الحاجة ولأخبار المضاربين بسعر الصرف المرغوب فيه، عبر التأثير على مستويات الطلب بضخ مزيد من العملات الاجنبية في السوق لتخفيف الضغط، أو بالشراء من السوق لامتصاص الفائض من المعروض النقدي. فنظام الصرف الثابت أو المثبت يعتمد على تدخل السلطات المالية لضبط سعر الصرف عن طريق احتياطي الصرف وهو ما قد يؤدي إلى نفاده (الحالة المصرية). وللتغلب على هذه المعضلة يتم غالبا اللجوء إلى الاستدانة، إلا أن هذا لا يتم بالسهولة التي يتصورها العامة وإنما عن طريق أشواط طويلة من المفاوضات تنتهي بفرض شروط الطرف الأقوى (صندوق النقد الدولي...) الذي يرفض تقديم قروض للدول التي تعاني من الهشاشة وغياب ضمانات حقيقية ويطالبها بتعويم عملتها. قوة العملة اذن تتحدد بمدى قوة الاقتصاد وخاصة من ناحية الشق التصديري والعرض التصديريoffre exportable وهو ما سيؤدي إلى خلق نسيج مقاولاتي جد تنافسي وسيقضي على المقاولات التي تنتعش من الريع و التي تكلف الدولة ملايير الدراهم سنويا دون جدوى. والواقع أن تحرير العملة خيار لا محيد عنه مهما طال الزمن أو قصر مثله مثل باقي الإصلاحات كصندوق المقاصة الدي يستفيد منه فقط 9 في المئة من الساكنة المستهدفة، في المقابل يستفيد منه فقط 49 في المئة من الأغنياء ومن الطبيعي ان ينتج هذا الإصلاح رابحون وخاسرون ألفو البقرة الحلوب. وإدا كان هناك قطاع اختفى من الوجود في السنوات الأخيرة اسمه الصناعة التقليدية فبسبب سعر الصرف الحالي الذي يدعم المنتوجات القادمة من الخارج وتقديمها بسعر أرخص من المنتوجات المحلية. من ناحية الجاهزية تبقى المؤشرات الماكرو اقتصادية مطمئنة جدا نظرا لانحصار نسبة التضخم في 2 في المئة وتجاوز احتياطي الصرف حاجز 25 مليار دولار وهو ما يعني حوالي 7 أشهر من الواردات. بالإضافة الى خط السيولة الممنوح من طرف المؤسسات المالية الدولية. إلا أن المسألة تبدو أكثر تعقيدا من الناحية الميكرو اقتصادية. هل المقاولات؟ السوق المغربية؟ القدرة الشرائية للمواطنين؟ مستعدون لهكذا سياسات. وإذا كان هناك هامش للكذب في السياسة فان الاقتصاد لا يسمح بذلك ولغة الأرقام هي الوحيدة القادرة على ترجمة المجرد إلى واقع. واقع قد يرفع المغرب الى أعلى عليين وقد يهوي به أربعين خريفا. كونه يسعى للتحول من بلد يعتمد على القطاع الفلاحي الذي يعتمد بدوره على التساقطات إلى اقتصاد صناعي يعتمد على الصادرات ذات القيمة العالية (السيارات، قطاع غيار الطائرات...) وهذا لا يمكن أن يتم إلا بالتوفر على سياسة نقدية أكثر استقلالية ومرونة. وفي الختام رفع الدعم المالي وتحرير سعر الصرف يشكل أول خطوة للقطع مع الريع الاقتصادي وخلق مقاولات جديدة لها ثقافة التعامل مع المخاطر والابتكار والتجديد وهو ما سيفرز قطاعات إنتاجية جديدة. إلا أن المسألة الجوهرية التي تتوخها هذه السياسة هي التربية الاقتصادية أو المواطنة الاقتصادية (فعندما يقوم المواطن مثلا بشراء قطع الشوكولاتة فهو يقوم بخلق مناصب شغل في سويسرا وبالتالي فالأولى به أن يقوم بشراء "الكرموس"). فدولة كتركيا لم ولن تصل الى ما وصلت إليه دون أن تربي الاتراك على استهلاك المنتوجات الداخلية. التعويم يعني الدخول إلى نادي الكبار وهو ما يتطلب جملة من الإجراءات المصاحبة كتقوية القاعدة الإنتاجية وتعزيز الديمقراطية، حقوق الإنسان، الشفافية والتصالح بين الدولة والمواطن. فرغم الطابع التقني لهذا الاجراء وصعوبة شرحه وتبسيطه لكن الأكيد أنه لم يخلق ليكون في الكواليس. وعليه وجب وجوبا على الدولة أن تقوم بمجهود بيداغوجي للتواصل مع الناس وإقناعهم بأن هذه السياسة ستعود عليهم بالنفع ولو على المدى البعيد.