يغيب التفاهم والاحترام ، وبعدهما تضيع المودة والألفة . ويتأكد الطرفان أو أحدهما أن علاقة الزواج قد أصبحت مستحيلة . لكل حالة قصة وسيناريو وحوار وإخراج تنفرد به عن غيرها من الحالات ، لكن ، تظل الشكوى واحدة وهي اختفاء الأركان التي تقوم عليها كل علاقة زواج ناجحة . وبما أن مؤسسة الزواج تبدأ بأن تكون علاقة بين طرفين ، وتنتهي بأن تكون علاقة بين ثلاثة أطراف هم الزوج والزوجة والأولاد ، فإن وجود الطرف الثالث قد يساهم في تأخر اتخاذ القرار بالانفصال سواء عند الرجل أو المرأة ، لكن ، عندما تستحيل العشرة ، ويستحيل الصبر الجميل والمصابرة ، يصبح لا مفر من اتخاذ القرار ومواجهة الطرف الثاني به . مواجهة ما قبل الطلاق من النادر جدا أن يكون هنالك اتفاق بين الطرفين على الطلاق . فهنالك دائما طرف في هذه العلاقة يرفضه . وهذا الطرف الذي يرفض يصاب بحالة الصدمة حينما يواجه لأول مرة برغبة الطرف الآخر في الطلاق ، وينتقل من الصدمة إلى الرفض ، إلى محاولة التفاوض مع الآخر لاستبعاد الفكرة وإيجاد الحلول الوسط المرضية للطرفين أو تقديم التنازلات ، وعندما تفشل محاولة التفاوض يصاب بالغضب ، ثم الاكتئاب . ويسمي علماء النفس رد الفعل هذا ( الصدمة – الرفض – التفاوض – الغضب – الاكتئاب ) بمرحلة الحداد . مرحلة لوم النفس يحدث الطلاق ، ويخرج الرجل والمرأة من التجربة بانكسار وألم وشعور بالفشل ، ويترتب عن هذا الشعور لوم كبير للنفس ، فيسعى كل من الطرفين إلى تبرئة نفسه بالهجوم على الآخر وتحميله المسؤولية في فشل العلاقة . ومن هنا تبدأ الأزمة ، ليجد كل من الطرفين نفسه في دوامة أخرى من مشاكل ذات نوع آخر ، قد تكون ربما أكثر حدة من تلك التي كانت خلال فترة الزواج وهربا منها إلى الطلاق . والجدير بالذكر أن من لم يستطيعا التفاهم أثناء الزواج ، من المتوقع أن لا يتفاهما أثناء الطلاق . فإمكانية التفاهم تلك لو كانت أمرا سهلا بينهما لما آلت الأممور بينهما إلى ما آلت إليه . وتفاديا للنزاعات المحتملة بين طرفين غير متفاهمين ، وضع الدين الإسلامي ضوابط تحدد علاقة الطرفين ما بعد الطلاق ، ومنه تستمد معظم قوانين الأسرة العربية المسلمة تشريعها . الضوابط التي وضعها الإسلام لمرحلة ما بعد الطلاق · منح الأم حضانة الأبناء ( إلا في حالات ) و فرض على الرجل النفقة عليها لكونها حاضن وعلى الأبناء ، واكتفى بمنح الرجل حق المراقبة عن بعد وحق الرؤية . · جعل حضانة الصغار دائما لامرأة فإن لم تكن للأم ( لأي سبب من الأسباب ) فهي للجدة أو الخالة ... · ترك للأبناء حرية الاختيار بين الإقامة مع الأب أو الأم عند سن معينة يستطيعون فيها الاستغناء عن خدمة النساء . وإلى هنا قد يبدو كل شيء سهلا وواضحا ، لكن نرجع ونقول أن من لم يحترم ضوابط الزواج كيف له أن يحترم ضوابط الطلاق ؟؟!! القانون ونزاعات الطلاق القانون هو اتفاق على حقوق وواجبات بين طرفي علاقة معينة . ولضمان أن يكون الاتفاق ملزما يكون هنالك عقاب . ومن يدعي عدم التزام الطرف الآخر بالاتفاق، عليه أن يأتي بالبينة . والمتهم كما هو شائع بريء حتى تثبت إدانته . وفي حالة العلاقات الأسرية ، العلاقة بين الأطراف يتحكم فيها الجانب الأدبي أكثر من المادي ، إضافة إلى أنها علاقات يطبعها الخصوصية تتم أهم معاملاتها وراء أبواب ونوافذ مغلقة ودون شهود . لذلك يصعب فيها إثبات الضرر . ويظل الملزم الوحيد في هذه العلاقات هو الضمير الحي . وهذا ما يجعل اللجوء إلى المحاكم في النزاعات الأسرية أمرا مخجلا عند معظم الناس باعتبار أن العلاقات الأسرية أسمى من أن يلزم باحترامها قانون . كما أن اللجوء إلى المحكمة قد يضمن الحقوق المادية، لكنه لا يضمن الحقوق المعنوية وهي الأهم . بل وحتى المادية منها من السهل التحايل على القانون من أجل التملص منها . فكما وجدت دائما قوانين سعت بها السماء أو الأشخاص إلى تنظيم حياة المجتمع والأفراد ، وجد أيضا دائما في المقابل أناس ظنوا أنهم فوق قوانين البشر والسماء . الطلاق المثالي والطلاق المعاش إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان إعجاز قرآني ، تلخيص للتجربتين( الزواج والطلاق ) في جملتين قصيرتين هما في قمة البلاغة . ذلك هو الزواج وذلك هو الطلاق الذي سعى إليه الإسلام . وفي الطلاق،كل يمضي إلى حال سبيله دون مشاكل أو إساءات ، وفاء لأيام العشرة ولأيام تقاسم فيها الطرفان الحياة بحلوها ومرها . لكن للأسف أن ما يحدث على أرض الواقع هو العكس تماما ، وذلك نتيجة للتكبر وغياب ثقافة الاعتراف بالخطأ و الاعتذار والتسامح ، ذاك الغياب الذي لا يستطيع أحد من الطرفين أن يعيش معه مرتاحا، ولا أن يبدأ صفحة جديدة في حياته ، فيسعى إلى الراحة بالانتقام . الانتقام ويكون الانتقام بثلاث طرق : · الإساءة إلى الشريك مباشرة ، وذلك بذكره بالسوء أمام المعارف أو أمام الأبناء . · الإساءة باستعمال ورقة الأبناء : شحنهم ضده ، أو حرمانه من رؤيتهم أو .... · الانتقام من الطرف الثاني في شخص الأبناء باعتبار أنهم نتاج تلك العلاقة الفاشلة . وإنه لمن أقصى درجات الانحطاط الإنساني أن يتخذ أحد الطرفين أو كلاهما الأطفال بيدقا لربح جولة في لعبة قذرة وتافهة . وإنه لمن أقصى درجات الانحطاط الإنساني أن يحرم طفل من أبيه أو أمه من أجل تصفية حسابات بين الطرفين المفروض أنها انتهت بالطلاق . وإنه لمن أقصى درجات الانحطاط الإنساني أن يأخذ طفل بذنب لم يقترفه . الطفل بين الاثنين مجرد أن يسأل الطفل أيهما يحب أكثر الأب أم الأم هو أمر ينهى عنه علماء النفس والتربية . فالطفل وإن اختار في إجابته أحد الطرفين ، هو في قرارة نفسه لا يستطيع الاختيار بينهما لأنه ببساطة يحبهما معا ، ويحتاج إليهما معا ،ويحتاج إلى كل واحد منهما لسد حاجات معينة . ولأن الطفل كائن ضعيف فإنه يضطر أن يراوغ فيستعمل دبلوماسية الضعيف التي ترتكز على اللعب على الحبلين . فيرضي أنانية الطرف الأول بأن يوهمه بأنه يحبه أكثر من الثاني ، ويوهم الثاني بنفس الشيء مقابل أن يحظى هو بحب الطرفين الذي هو في أمس الحاجة إليه ويخاف أن يفتقده إن هو عبر بصدق عما يدور بداخله . مواجهة الأبناء إضافة إلى اللوم الذي يوجهه كل من الطرفين إلى نفسه بسبب الفشل في العلاقة . قد يتعرض أيضا للوم من طرف الأبناء. ويأتي ذلك حسب الصورة التي تم بها تعريف الطلاق للطفل ، وحسب الصورة التي يكونها هو عن والديه بنفسه ، أو أوحي له بها من الطرف الآخر أو ممن يحيطون به من الناس . ومسألة اللوم تلك هي من أصعب ما يمكن أن يتعرض له الطرفان ، ومواجهتها تحتاج إلى الكثير من القوة والحكمة . فرصة الرجوع في جلسة صادقة مع النفس ، وبعيدا عن أي تأثيرات قد تتسبب فيها رؤية الطرف الثاني ، يستطيع الطرفان أن يعيدا حساباتهما ، وأن يقفا عند الأخطاء التي ارتكباها خلال التجربة . كما يستطيع كل منهما أن يعيد تقييم التجربة وتقييم الآخر . ليخلصا في النهاية إلى واحد من الأمرين : · إما محاولة الإصلاح ومعاودة التجربة · وإما الاقتناع بخيار الطلاق والتسليم النهائي له ومن رحمة ديننا بالطرفين أن جعل لهما فرصة واثنتين وثلاثة . الفرصة الثانية مع شريك جديد قد تساهم التجربة الثانية في إعادة التوازن إلى نفسية الطرفين والخروج بهما من الإحساس بالفشل واليأس إلى الأمل ومعاودة الثقة بالنفس . فيشعر الطرف الذي أحس أنه رفض من الآخر أنه إنسان مرغوب فيه . ويشعر الطرف الذي خاب ظنه في الآخر أنه من الممكن أن يجد شريكا يعوضه عما افتقده في العلاقة الأولى . لكن الفرصة الثانية قد يحكم عليها بالفشل إذا كان الهدف منها مجرد الهروب من آثار العلاقة الأولى ، أو مجرد الرد على الطرف الآخر . كما أن الفرصة الثانية قد تثير أحقاد الطرف الثاني خصوصا إذا ما كان عنده شعور بأنه الطرف المظلوم في العلاقة . وغالبا ما يكون هذا الطرف هو المرأة بحكم أنها هي من تتحمل حضانة الأولاد الشيء الذي يحد من فرصتها في الارتباط من جديد . ولكي يعرقل الأول للثاني زواجه أو الثاني للأول زواجه ، يستعمل الأطفال مرة أخرى ورقة ضغط ، وكرة بينج بونج يتقاذفها الطرفان من أجل إساءة كل منهما للآخر . الخلاصة إن الحل الوحيد لحروب ما بعد الطلاق هو نشر ثقافة الاعتراف بالخطأ ومنه الاعتذار فالتسامح، والتفكير في مصير كائنات بشرية تسبب الطرفان بالإتيان بها غير مخيرة إلى هذه الحياة ، وبالتالي كان لزاما عليهما تحمل مسؤولية تنشئتها في أحسن الظروف الممكنة .