كشفت الأحداث الأخيرة في المغرب على ضعف بارز للعلماء الرسميين، مقابل حركية قوية للعلماء المستقلين أو المرتبطين بحركات جمعوية، وهو ما يطرح دور مؤسسة العلماء الرسمية في النسق السياسي والديني بالمغرب، خصوصا وأن تسارع المستجدات وتعقد القضايا كان يفترض أن يكون للعلماء فيها رأي يحسم في مواقف الناس المترددة بخصوص عدد من القضايا. من الناحية النظرية، يمتلك العلماء في المجتمع الإسلامي وظائف سياسية ودينية، تتجلى أساسا في وظيفة تمثل القيم وإبرازها للمؤمنين، والمؤتمنون على شرح وتفسير وتأويل النصوص الدينية، بالإضافة إلى الدور السياسي الاستشاري الذي يمنحهم سلطة دينية-سياسية دالة، تتمثل في كونهم "أهل الحل والعقد"، أي أنهم المؤتمنون على الشرعية وإليهم ترد أمورها. أي أنهم يساهمون في التزكية والتعيين أو حتى العزل، وهي سلطة معنوية ورمزية وفعلية قوية. إلا أنه من الناحية العملية، فإن السلطة التي يمتلكها العلماء كما يذهب إلى ذلك ارنست كيلنر، تأتي لتزكية سلطة قائمة، لا لتكون حكما في قيامها أو عدم قيامها، وذلك لأنهم مضطرون في نهاية الأمر على تزكية من توصل إلى الحكم بقوة السلاح، ولهذا فإن يوضعون أمام تحديين، الأول مرتبط بوظيفتهم السياسية، التي تجعلهم مجردين من كل قوة مادية فعلية نظرا لعدم توفرهم على سلطة تنفيذية تمكنهم من اتخاذ القرار، فهم لا يمتلكون أدوات ومؤسسات تمكنهم من الحسم في طبيعة النظام السياسي القائم وتحديد أو عزل السلطة السياسية القائمة، وبالتالي فهم يتعاملون مع الأمر الواقع ويحاولون إضفاء المشروعية عليه، أما التحدي الثاني فيرتبط بوظيفتهم الإجتماعية، نظرا لعدم قدرتهم على تلبية رغبات جميع أفراد المجتمع، مما يحد من نفوذهم وقدرتهم على التأثير في المجتمع، وهو مرتبط بالبنية العامة للمجتمع، بالنظر إلى أن العديد من أفراد المجتمع يتجهون إلى عالم الصوفية، أو الهجرة إلى الفضائيات الأجنبية والعلماء من خارج للحصول على الفتوى والإجابة عن الأسئلة اليومية التي تطرح في عالم الإنسان المعاصر. عبر التاريخ الإسلامي كانت تتأرجح مؤسسة العلماء بين موقفين، إما الدفاع عن مصالح المجتمع والانخراط في قضاياه العادلة والتعبير عن تطلعاته الواسعة في المجال الديني والدنيوي، وهو ما تحكيه قصص التراث الإسلامي، مثل معاناة الإمام أحمد بن حنبل بخصوص موقفه من قضية "خلق القرآن"، ومعاناته تحت سياط الخليفة المأمون، وإما الإرتماء في أحضان الدولة ليصبحوا جزاء من النظام السياسي القائم، يشرعن ممارساته-حتى وإن كانت مخالفة للشرع- ويبرر وجوده. الدولة وسياسة الإحتواء انطلقت هذه الرغبة في احتواء مؤسسة العلماء من خلال التحكم أولا في مؤسسة إنتاج العلماء من خلال تأسيس دار الحديث الحسنية سنة 1964، بعد ضعف المكانة الاعتبارية لجامعة القرويين، ثم ثانيا ضمان قرب مؤسسة العلماء من المواطنين، بحيث عمل الملك الحسن الثاني على تأسيس المجالس العلمية سنة 1981، كرد فعل على الثورة الإيرانية والرغبة في الحد من انتشار تأثيرها، ثم جاء مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني سنة 2004 ليدشن مرحلة جديدة لإحكام سيطرة الدولة على مؤسسة العلماء والعمل على احتكار الدولة لإنتاج الخطاب الديني، والذي يتجلى بشكل أساسي في إنتاج الفتوى والكلام باسم الدين، بحيث أن مؤسسة العلماء التي يرأسها الملك بصفته أمير المؤمنين تصبح هي المؤسسة الوحيدة التي تعبر عن العلماء، وبالتالي لم يعد العلماء هم أهل الحل والعقد، باعتبارها مؤسسة تنتمي إلى المجتمع وتعبر عنه وتستمد مشروعيتها منه، ويزودها بالسند الشعبي لممارسة وظيفتها الإجتماعية والسياسية المطلوبة، بل أصبحت جهازا أيديولوجيا للدولة، توظفه لصالحها لممارسة عنف رمزي على باقي الفاعلين الآخرين من داخل الحقل الديني أو خارجه. لقد قامت الدولة بعدد الإجرائات الكفيلة بإحكام سيطرتها الكلية على الحقل الديني، ومنافسة جميع الفاعلين الإجتماعيين الآخرين من التأثير في هذا الحقل، وجعله من الإختصاصات الحصرية للدولة، فقد تم رفع عدد المجالس العلمية من 14 مجلسا إلى 30 مجلسا، ثم إلى 70 مجلسا حاليا، ليصيح لكل عمالة مجلسها العلمي، وتضاعف الميزانية المقدرة لها، من أقل من نصف مليون درهم سنة 1999 على أكثر من 60 مليون درهم حاليا، كما تم وضع ظهير (الظهير الشريف رقم 1.03.300 الصادر في 2 ربيع الأول 1425 (22 أبريل 2004) ينظم طريقة اشتغال المجالس العلمية المحلية والمجلس العلمي الأعلى، ثم مع إعادة هيكلة/تأسيس الرابطة المحمدية للعلماء سنة 2006، التي تعتبر امتدادا للرابطة علماء المغرب التي تأسست سنة 1961 والتي كان يرأسها الأستاذ عبد الله كنون، وبذلك يكتمل إحكام الدولة على جميع مدخلات إنتاج العلماء. التوجيه الفوقي والعقاب تهدف استراتيجية إعادة الحقل الديني إلى تحقيق هدفين، أولا ضبط الحقل الديني واحتواء العلماء داخل أطر رسمية، تجعل منهم موظفين أو أطر تقنية، لا تتجاوز وظيفتهم الإستشارة وإعطاء المشروعية الدينية للنظام، وتضمن بذلك عدم حصول "مفاجئات" من طرف العلماء، وهذا الإطار المؤسساتي يعطي للدولة الحق في معاقبة كل من يخرجون عن التصور الديني الذي ترسمه الدولة، وهو ما حصل مثلا بالنسبة للشيخ رضوان بنشقرون الذي تم إعفائه من وظيفته كرئيس للمجلس المحلي لعين الشق بالدار البيضاء عندما انتقد مشاركة المغني إلتون حون في إحدى سهرات موازين، التي يشرف عليها منير المجيدي، الكاتب الخاص للملك. الهدف الثاني هو ضبط التوازنات الماكرو-سياسية، تتجلى أولا في توظيفهم لانتقاد "بعض" الجمعيات العلمانية، مثل ما حصل عند إصدار المجلس العلمي الأعلى ردا على الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب على خلفية النقاش الذي كان دائرا آنذاك حول المناصفة في الإرث، ولكنها لم تصدر ردودا أخرى على جمعيات قريبة من الدولة أو حزب السلطة، مثل جمعية "بيت الحكمة" أو غيرها، علما أنها كانت لديها نفس المواقف. وتسعى أيضا إلى العمل على سحب الشرعية من الفعاليات الدينية المجتمعية (الحركات الإسلامية والتعبيرات الدينية الجمعوية...) عبر احتكار إنتاج الفتوى باعتبارها أهم أداة صراع في الحقل الديني، بحيث يصبح المجلس العلمي الأعلى الذي يرأسه الملك باعتباره أمير المؤمنين الجهة الوحيدة المخولة لإصدار الفتوى، وهو ما أثار جدلا عندما أفتى الشيخ يوسف القرضاوي عند زيارته للمغرب سنة 2006، حول موضوع قروض السكن من البنوك الربوية في المغرب، حيث رد المجلس العلمي الأعلى على الشيخ بكونهم المؤسسة الوحيدة المخولة لإصدار الفتوى في المغرب، وبالتالي فإنه من غير المسموح به لأي مؤسسة أخرى مشاركته في هذه الوظيفة. نفس الأمر سيتكرر سنة 2008 مع تفجر الجدل حول فتوى الشيخ محمد المغراوي حول تزويج بنت التسع سنوات، إذ أصدر المجلس العلمي أيضا بلاغا يؤكد فيها نفس الأفكار السابقة. يكشف تحليل أزمة مؤسسة العلماء في المغرب على وجود عناصر ضعف ذاتية تتجلى في عدم امتلاك العلماء الشجاعة الكافية لفرض آرائهم وهذا راجع إلى ارتباطهم المادي والرمزي بالدولة بدل المجتمع، فالدولة هي التي تصرف رواتب العلماء، وهي التي تشرف على تدبير هذا القطاع، وبالتالي يصبح أي رأي مخالف للتوجه الرسمي محط عقاب، وهناك عناصر موضوعية مرتبطة بعدم ثقة الفاعل السياسي في العلماء وتهميشهم من صناعة القرار السياسي الإستراتيجي في المغرب، وهذا تجلى واضحا في تغييب العلماء من لجنة إعداد الدستور الجديد، واكتفاء المجلس العلمي الأعلى ببيان يثمن فيه الخطاب الملكي، رغم أن البعض يعتبر بأن هذا التهميش إهانة للعلماء في المغرب. **** إن مأزق مؤسسة العلماء حاليا هي أنها طلقت المجال الطبيعي لإشتغالها، الذي هو المجتمع، وارتبطت عضويا وماديا بالدولة التي حددت لها قواعد اللعبة وفرضت عليها منطقها الدولتي الصارم، ولم تعد الدولة هي التي تتبع العلماء واجتهاداتهم، بل العكس هو الصحيح، وهو ما يحتاج من العلماء أنفسهم إلى نقد ذاتي، قوامه التجديد في الفكر الديني والإنفتاح على مكتسبات العصر، والعمل على الإستقلالية أكثر فأكثر من هيمنة الدولة على الحقل الديني، مما سيرجع الثقة في مؤسسة العلماء، ويضفي عليها مصداقية، ويجعلها تلعب دورا في تحريك الشعوب من اجل التحرر من الفساد والإستبداد.