في رائعة فيستس ايايي ”عنف ” يوظف ”الصمت“ باعتباره وظيفة جوهرية في نظام كلياني، إذ نقرأ في مقطع يرد فيه مستشار الدفاع عن سؤال القاضي حول فهمه للعنف: «في فهمي أن أفعال العنف ترتكب عندما تنكر على المرء فرصة التعليم والحصول على شغل، وإطعام نفسه وعائلته بشكل كاف، الحصول على الرعاية الطبية الرخيصة التكاليف، بسرعة وفورية. ونحن غالبا لا ندرك أن المجتمع، هذا النمط من الاقتصاد وبالتالي النظام السياسي الذي نديره في بلادنا اليوم، هو الذي يوحشن الفرد واغتصب رجولته نحن غالبا لا ندرك أنه عندما يرد بالفعل أناس كهؤلاء محرومين وذوي فرص نادرة، فإنهم يردون على العنف بالعنف، بمعنى معين وحسب“. إن المطلع على واقع المجتمع المغربي يفاجأ بسلطة كل أنواع العنف الرمزي والمادي، على كافة مناحي الحياة، وهو ما يندر بتحولات لا أحد يمكنه أن ينبأ بطبيعتها، ونتائجها، إن على مستوى القيم أو علاقات الأفراد والجماعات فيما بينها أو علاقاتهما مع المؤسسات والدولة. وإذا كان العديد من الباحثين يسلطون الأضواء على كل أنواع العلاقات، بحسب الاختصاص، فإننا نرى أنه من واجب المثقف أن يعيد بناء منظومة ”القيم“ من خلال ”الأسئلة التأسيسية“ التي لا يمكن تصور هوية أو إنتاج حضاري إيجابي من دونها؛ ذلك أنه وحده ”السؤال“ الذي يمكنه أن يهيئ الفرد/الإنسان لكي يمارس فعله وفعاليته على درجة عالية من التعقل. وحده ”السؤال“ الذي يمكنه أن يشكل المدخل الحقيقي لتجاوز البيادر الكبيرة من حصاد الإحباطات هو أن نكف عن لغة الشعارات، ونسائل بهدوء وعقلانية خطاباتنا السياسية والثقافية والاجتماعية، وأن تكون لدينا الشجاعة على استخدام عقولنا (كانط) وتغيير زوايا النظر التي أتعبنا أنفسنا وأجيالنا في النظر من خلالها إلى العالم. إن الضرورة تقتضي مراجعة ذواتنا قبل أن ننتقد الآخر. لأن هذا الآخر/ عدونا/ محتلنا/منتهك حرماتنا، هو يشتغل من زاويته، يخطط كما يرى هو مصالحه، ونحن ينبغي أن نخطط ونبحث عن مصالحنا، بل ينبغي أن نعرف، أولا، ما الذي نريده؟ وقبل ذلك، من نحن؟ وما هي مصالحنا، وأين تكمن؟ لأن العدو الذي يسكننا، والذي دفعنا إلى أن نصبح أعداء أنفسنا، قد أعمى بصائرنا وجعلنا نجتهد في البحث عن منافذ لتزجية الوقت. ينبغي أن نتحول من موقع الدفاع والاستهلاك إلى الإنتاج؛ لأن العالم تغير كثيرا، والمفاهيم أضحت لها مضامين أخرى مختلفة تماما. فما معنى "الانتصار" في بلد دمرت كل بنياته التحتية؟ وما معنى الصمود والعدو يمطرنا بالقنابل ونحن نرد بالرشاشات المستوردة من مصانع هذا العدو؟؟! وما معنى الشهامة ورؤوسنا تحت حوافر خيول منتهك حرماتنا. وما معنى مقاطعة الآخر وأسواقنا مليئة بسلعهم وخضرهم ولحومهم، وبرامجهم وأدويتهم ولقاحاتهم وعلومهم ومناهجهم في التسيير. ما معنى "الأمة" و"العروبة" و"القومية"؟ وما معنى أن نكون نحن كما نحن كائنون؟. إنها الأسئلة التي ينبغي الوقوف عليها، لأن طعم "النصر" الذي نتلذذ ونزهو به، لا يراه الآخر كما نراه نحن! ولأننا حين نرفع شعار ال"نصر" نكون قد رسمنا صليب الموت والفقدان والفراغ! بله، نكون قد عبرنا عن كل أنواع الهزائم والموت!؟ إننا عاجزون، حتى الآن، عن تحديد مشاريع واضحة قابلة للتطبيق على أرض الواقع، لها خصوصياتها، وهو الأمر الذي يجعلنا في منزلة التيه. فنحن نريد الحداثة، والآخر يريد لنا التحديث، ونحن نريد السيادة والاستقلال، وهو يجبرنا على التبعية. نحن نصبو إلى التحرر والوحدة وهو يدعم الأنظمة البدوية التي تقف في وجه التحرر والديمقراطية وتمنع الوحدة. ”العقلانية الحديثة تنمي اللاعقلانية في كل المجتمعات المتقاعسة. فكيف نقول هذا ولا ننتبه إلى ما يقع بيننا“. فالمنطق، الذي يشتغل اليوم، هو منطق مختلف عما يفكر فيه الخطاب العربي المهيمن، وهو ما تلخصه عبارة جاك دريدا: ”يمكنني أن أقتل الآخر، دون أن أضع حدا لحياته، ويمكنني أن أكون عدوانيا بشكل لا يمكن رصده“. لعل من أكبر المشاكل التي يتخبط فيها المجتمع المغربي/العربي تكمن ، بالأساس، في هزالة الخطاب السياسي الفاقد لكل معنى المدنية والحداثة والديمقراطية. إنه خطاب بئيس، وميؤوس منه ومحكوم بالديماغوجية البائدة التي لا تتوخى غير الحصول على قدر ما تستطيع هذه النخب المهيمنة من التسلط والامتيازات. "وهذا يفسر لماذا أخفقت جميع خطط الإصلاح وأجهضت عندما اصطدمت بمسألة الإصلاح السياسي. فالمساس بقواعد اللعبة السياسية القائمة على خرق القانون وتعليقه وإلغاء هوية المجتمعات السياسية، أي حل البنية الوطنية والمواطنية، وتخليد المواقع والمناصب والمرتبات، هو شرط بقاء أنظمة الإقصاء الجماعي واستمرارها“، أضف إلى ذلك كله، درجة الاستهتار الممنهج الذي أصبح متفشيا على كل الأصعدة والمستويات. ففي الوقت الذي كنا نجد أشخاصا ينادون بالديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، وإعمال تكافؤ الفرص والمساواة العادلة بين الجنسين والأفراد داخل المجتمع، نجدهم هم أنفسهم، وبمجرد انقضاضهم على مسؤوليات داخل المجتمع، يتحولون إلى أكبر محارب لتلك المبادئ التي ظلوا يهتفون بها، بل ويصبحون أكثر تسلطا، ويشكلون سدا منيعا أمام الآخرين، ويبقى المعيار الأوحد هو العصبية الإيديولوجية المتلاشية، واللاعقلانية، والولاء والمصلحة، وهكذا أضحت عملة العمالة والمال والجنس فوق كل اعتبار. وقد زاد من حدة تضخم هذا الداء، دخول ما يسمى ب"المجتمع المدني" في المغرب، في هذه اللعبة وانخراطه في إنتاج هذا النمط من الوعي الخرافي واللاعقلاني؛ إذ تحول إلى مجرد أداة طيعة في يد السلط الحاكمة، وهو ما جعل المجتمع المدني (في غالبيته) أكثر تخلفا وسوءا من الأنظمة السياسية المتخلفة والتسلطية. خصوصا حين أضحى قابلا للبيع والشراء في بورصة القيم النظامية. الأمر الذي حول "حركة المجتمع المدني إلى جيوب هوائية موزعة ومتباعدة، فاقدة للوزن والفاعلية، ومنقطعة عما حولها. وهو ما يفسر استمرار عجز هذه الهيئات المدنية، من أحزاب وجمعيات، عن اختراق الحواجز والتواصل مع المجتمعات التي تعمل فيها" بشكل فعال وصحيح. في حين أنه ينبغي أن يشكل مكونا وسيطا يقع بين الدولة والأسرة، تقطنه منظمات منفصلة عن الدولة، وتتمتع باستقلال ذاتي في علاقتها معها، وتتشكل طوعا من أفراد يهدفون إلى حماية مصالح أو قيم معينة. إن الخيانات المتكررة، والإحباطات المتراكمة، والتغييب الممنهج للعقل والذي تسهم فيه العديد من الجهات، لم تدفع الشعب إلا نحو التوتر والعنف والبحث عن مخارج لمآزقه، والحال أن النتيجة كما يتضح اليوم هي اليأس والإحباط وصب النقمة على الغرب واعتباره المسؤول الأول عن كل المآسي، بما يتضمنه، هذا الخطاب، من آليات التهرب من المسؤولية وتبرئة ساحة النخب المغربية الفاسدة أو المفتقرة للكفاءة والخبرة والأهلية القيادية. هكذا، صارت مشاكلنا كلها تعلق على الاستعمار وعلى الغرب، وصرنا، حكاما ومجتمعات، نعلق كل همومنا وإخفاقاتنا الحضارية والفكرية على مشجب الغرب، ونتفنن بل ونجتهد في فضح ديمقراطياته الهشة، كما نفضح البداوة الأمريكية، ونبحث في الجذور التاريخية التي تأسست عليها حضارة فاعلها الأساس كان هم "رعاة البقر"، وإننا نحن مهد الحضارة، والفضل في تقدمهم يعود إلينا نحن العرب الذين أنجبنا ابن رشد والكندي والخوارزمي، وشرحنا أرسطو وشكلنا مرجع النهضة الأوروبية. لكن أيننا نحن من كل هذا، وأين مسؤولياتنا؟ إن ما آلت إليه الأوضاع في المغرب، ومن خلال مؤسساتها السياسية والعلمية، والثقافية، تكشف بالملموس أننا لانعرف أنفسنا بالشكل المطلوب علميا وتاريخيا، وأننا أصبحنا ضحايا برانويا العداء، فاقتنع الجميع بأن العالم كله ضد المغرب، وأن المغرب يواجه حروبا متعددة الأشكال والألوان، وأننا ضحايا تمركز حضارة غربية تزعم لنفسها الحقيقة والكونية.. ومن ثم، فإن الغرب ليس سوى نتيجة ماضينا العربي الزاهر الذي ينخر فيهم ويشكل بالنسبة إليهم عقدة تاريخية. والحال أن كل هذه الصفات لا يمكنها أن تنسحب إلا على المزاج المغربي الذي لا يتوانى في تصديق ما اخترعه من أوهام بسبب عجزه وضعفه؛ لأن المسألة ليست في "التمركز" ولا في "الصدام الحضاري"، بقدر ما هي مسألة بشر يبدعون ويبنون العالم ويغيرونه ويقودونه، وآخرون لا يفعلون شيئا. ينوحون ويتوهون متكالبين على الرفاهية، لا أفق لهم ولا طموح يحركهم غير تكديس الثروات. فليس هنالك مال في العالم أغبى وأكثر انحطاطا بالمعنى الثقافي/الإنساني من المال الموجود بين غالبية النخب المغربية. لهذا، بدلا من الكلام على "شرور الآخرين" علينا أن نعمل على اقتلاع شرورنا؛ لأن نسياننا لشرورنا هو بالضبط ما يخدم الآخرين ويعزز هجومهم. المشكلة، في البداية والنهاية، فينا، وفي سياستنا وثقافتنا وفي إنساننا ذاته. فكم تمقرطنا لننتقد ديمقراطيات العالم؟ وما هو حجم المعرفة التي يتمتع بها المغربي لمعرفة حجم الضياع والتشتت الذي يتخبط فيه؟ إن الخطابات المغربية الرسمية أو غير الرسمية تتمخض في مروج من التناقضات المحكومة بعقلية الانتهازية والغلبة والشماتة والربح المادي السلطوي والتسلطي. كما أنها خطابات تعضد البنيات التقليدية المؤسسة على الحقيقة المطلقة الرافضة لكل اختلاف، والمشتغلة، بالأساس، على الإقصاء، والتهميش، ورفض الآخر. أضف إلى ذلك أنها خطابات تعمل على محو التعدد ولا تقبل به إلا إذا كان يندرج ضمن السائد والرسمي المهيمنين، ومدى خدمته له. ولعل التاريخ المغربي يقف شاهدا على ذلك، إذ إن التاريخ المتداول هو نوع فقط من التاريخ، أو إن شئنا جانب منه فقط، وهو الرسمي والمزور الذي يخدم مصالح الفئة المهيمنة. في حين أن التاريخ الحقيقي لم يتجرأ الباحثون على إشاعته. وبذلك صار الماضي ضربا من "المقدس" الذي لا يمكن أن تنتهك حرمته، ولا إعادة النظر فيه أو تأويله بأدوات مخالفة للسائد. إن اللاعقلانية والخرافة والفكر الأسطوري وحدها السلطة المعرفية السائدة، التي يدافع عنها سدنتها بكل أنواع التحريف والمقاومة. وهذه الاختلالات هي التي أنتجت لنا يساريين نادوا إلى زمن قريب، بحرية الرأي والتعبير، والقيم والعدالة وكل المثل العليا، وأصبحوا اليوم أكثر "تمخزنا" من أي مؤسسة مخزنية! أغلبهم يتاجر بالفقراء في صورة جمعيات المجتمع المدني!؟ كما أن الاعتزاز بفضل حضارتنا (العربية) على الغرب يأتي من استفادته (الغرب) من ابن رشد، في الوقت الذي نجد هذا الرجل وأمثاله من حملة مشعل العقلانية في الحضارة العربية، من أكبر المغضوب عليهم، إلى اليوم، في كل العالم العربي. هذا الانفصام الذي تحيا فيه الذات المغربية، قد غذته طبيعة المعرفة المتداولة التي يساهم الجميع بشكل مباشر أو غير مباشر في هيمنتها، بحيث انتشر نوع خطير من أنواع الجهل؛ ذلك أن الثقافة السيئة أشد بما لا يقدر خطرا من الجهل، لأن الجهلة متواضعون ولئن كانوا أصحاب حاجات مشروعة فإنهم ليسوا من أصحاب الادعاءات الخرقاء. أما أصحاب الثقافة السيئة فهم يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء وإذا ما تكاثروا، كما هو راهن الواقع المغربي، ذهب بهم الظن إلى أن لهم الحق في أن يسودوا كل شيء. وفي البلدان "المتأخرة" أي النامية، كما يقال، يرتكز أصحاب الثقافة السيئة -عندما يتمردون- على دوافع أساسها الجهل، وتمردهم يزيد من تعميق التخلف واستفحاله. وهذا ما يشكل إنهاكا للقوى الفاعلة داحل المجتمع المغربي، وهو ما يتجلى من خلال التهميش والتعنيف الرمزي عبر مفاهيم لوثت على مقاس واقع التحريف. من هنا باتت عدميتنا، اليوم، كما يرى محمد محجوب، تكمن في فضيحة الفعل من دون معنى. وعندما يتعمق المرء في قراءة تاريخ أمم أخرى، بما في ذلك الصين، لا الغرب فقط، فإنه يجد أن تاريخ الفكر لم يكن إلا تاريخ تسويغ الفعل، أي الإقامة الثقافية، لذا لا بد للبلاد العربية أن تعمل على أن "تؤثم" الوعي اليومي الذي يتوهم الفعل ممكنا من دون معنى، خصوصا أن السطلة تحتكر المكان، وطموحها أن تحتكر الزمان كلية؛ لأن هيمنتها تسمح لها بهذا الطموح، وهو ما يعزز فرصة الاستمرار عبر آلية القوة القمعية والصمت. إن السلطة لا تسكت وإنما تمارس الصمت باعتباره سلطة وأداة لتصريف احتوائها الزماني، مما يجعلها واعية بتوظيف آلية مصادرة الشعب في إرادته ورغبته في المشاركة في الاختيار؛ غير أن هذه السلطة تبقى محدودة، لأنها مفرغ من رصيدها الشعبي.. ومن ثم، فهي سرعان ما تصبح مهددة في أي لحظة تاريخية تتوفر فيها ”إمكانات“ اجتماعية قد تلاحظ بوادرها، لكنها، مثلها مثل الزلازل، لا يتم توقع حدوثها بشكل واضح، وإنما ”تفعل“ ”التاريخ“ في محاولة لاستعادة الرغبة الشعبية في المشاركة في الاختيار.