في وقت اختار العالم يوم العاشر من شتنبر مناسبة لتخليد "اليوم العالمي لمحاربة الانتحار"، باعتباره محطة سنوية لتشخيص الظاهرة وتتبعها وتقييمها ومحاصرتها والحدّ من وتيرة انتشارها بين أفراد المجتمع، تمرّ المناسبة بين الأوساط المغربية كغيرها من أيام السنة، دون أن تبصم على مبادرات كفيلة بتسليط الضوء على ظاهرة الانتحار ومقاربتها من مختف جوانبها، باستثناء مبادرات نادرة ومحتشمة لا يصل صداها إلى باقي المدن والمناطق. وبخلاف مجموعة من الظواهر التي أثارت حفيظة المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة، وأفرزت هيئات جمعوية وحقوقية جديدة تعنى بتتبع مسار وأسباب ونتائج وسبل معالجتها، ك"التشرميل"، والتفكك الأسري، والتحرش الجنسي، وزواج القاصرات... اتّسم التعاطي مع ملف الانتحار بالاحتشام وعدم المواكبة، بالرغم من خطورة انتشاره بسرعة بين أفراد المجتمع، خاصة بين المصنفين ضمن الفئة الشابة. تصدّي المجتمع المدني للانتحار وعن أسباب محدودية تفاعل الهيئات الجمعوية مع ظاهرة الانتحار بالشكل المطلوب، أوضح عبد الهادي حنين، رئيس جمعية مغرب المستقبل، أن "المجتمع المدني لا يمكن أن يحل محل الدولة في تسطير البرامج الرامية إلى القضاء على الظواهر المجتمعية، باعتباره مجرد أداة موازية تعالج الجزئيات التي غفلتها المخططات الإستراتيجية للدولة، من خلال إثارة الظاهرة ومناقشتها في الندوات والموائد المستديرة". وأكّد المتحدث ذاته، في تصريح لهسبريس، أن "الدولة بمختلف مكوناتها تتحمل المسؤولية اليوم تجاه ظاهرة الانتحار، باعتبارها كيانا جامعا لمختلف منظومات التنشئة، إذ تغيب البرامج الملائمة للتكوين والتأطير والمواكبة ضمن مخططات التنمية الترابية، ما يفرض على جميع مؤسسات الدولة إعادة النظر في الإستراتيجيات والمناهج التربوية أولا، ثم الحرص على وضع مخططات لمحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء التي ترتبط بشكل أو بآخر بانتشار ظاهرة الانتحار". وأوضح حنين أن "الهيئات الجمعوية غير قادرة على تحقيق نتائج كبيرة في مواجهتها لانتشار ظاهرة الانتحار، نظرا لارتباط الملف بعدة عوامل متداخلة في ما بينها، كفقدان الأمل في العيش الكريم داخل وطن مشترك من المفروض أن تتساوى فيه الحقوق مع الواجبات، وتوزع الثروة بشكل عادل بين أبنائه، إضافة إلى تخلي منظومة التربية على مواد الفلسفة التي تحدد العلاقة بين مكونات الذات الإنسانية في علاقتها مع المجتمع بصفة عامة". محاربة الانتحار بالدين والتربية أما من الناحية الدينية والتربوية، فأوضح يوسف أكجيم، بصفته واعظا ومرشدا دينيا، أن "جميع الأديان ومختلف الشرائع تؤكد على صيانة الكليات الخمس، ومن بينها "حفظ النفس" التي وضعت التشريعات السماوية سياجا حولها، واعتبرت صونها واجبا شرعيا مؤطَّرا بالكتاب والسنة، ومرتبطا بالأجر والثواب في حال المحافظة على الروح الإنسانية، وبالعقاب والعذاب متى أقدم المرء على وضع حدّ لحياته، مهما كانت الدوافع المادية والمعنوية، لأن قتل النفس كبيرة من الكبائر التي لا يغفرها الله إلا إن شاء". وعن مسؤولية المشتغلين في الحقل الديني ودورهم في محاربة الظاهرة، أشار المتحدث ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، إلى أن "وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تخصص الدروس والندوات حول الموضوع، وتمدّ الخطباء والوعاظ والمرشدين بمذكرات وخطب لكي يتحدثوا عن ظاهرة الانتحار، ويساهموا كل من موقعه في الحد من انتشارها، عبر التوعية الدينية والتربوية". وأكّد أكجيم أن "وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تحرص على القيام بما يجب عليها فعله في شأن الانتحار، حيث تقوم بمجهودات كبيرة في المساجد وعدد من المراكز والمؤسسات، من أجل الحد من ظاهرة الانتحار التي استفحلت في الآونة الأخيرة بين أفراد المجتمع، ولو أن ذلك غير كاف، إذ من المفروض على جميع مكونات المجتمع التصدي للظاهرة كل بحسب قدرته ومسؤوليته وحدود تدخّله". وشدّد المتحدث ذاته على أن "الانتحار يرتبط في الغالب بالبطالة واليأس والقنوط من رحمة الله والبعد عن شرعه"، مستدركا بأن "بعض الأشخاص أقدموا على الانتحار أو حاولوا ذلك بالرغم من أن ظاهرهم يوحي بالتزامهم بأداء الصلوات وباقي العبادات، لكنهم في حقيقة أنفسهم بعيدون عن الله"، مشيرا في السياق ذاته إلى ضرورة "الاقتراب أكثر من الشباب، والاستماع لآلامهم وآمالهم، وزرع الأمل والتفاؤل وحب الحياة في نفوسهم، حتى يبتعدوا عما هم فيه من الوحشة والغربة داخل بلدهم". الانتحار.. "طابو" اجتماعي أما محسن بنزاكور، بصفته أستاذا في علم النفس الاجتماعي، فأشار إلى أن "مجرد استعمال مصطلح الانتحار يعتبر من الطابوهات في المجتمع المغربي"، ضاربا مثالا بمبادرة أجراها مع منظمة الصحة العالمية، قبل سنوات، تروم مقاربة ظاهرة الكآبة في الوسط التعليمي، ليكتشف في تواصله مع مدير أكاديمية جهوية للتربية والتكوين أن سبب تأخر البت في مبادرته راجع إلى استعمال كلمة انتحار في إحدى الاستمارات. وأوضح المتحدث ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن "بوادر انتشار ظاهرة الانتحار قديمة جدّا، نتيجة تغيّر مجموعة من القيم والمبادئ الاجتماعية، واعتبار ذلك الموضوع واحدا من الطابوهات التي تؤثّر سلبا على المجتمع المغربي"، مضيفا أن "عددا من الظاهر المرتبطة بالانتحار أصبحت حاضرة بقوة في الآونة الأخيرة، كالقلق والعزلة والكآبة وتراجع مفاهيم الجماعة والتضامن...ما يتطلب تنظيم ندوات وإجراء حوارات مباشرة لمقاربة الموضوع وإيجاد حلول له". ولفت بنزاكور إلى أن "الانتحار تطور بشكل خطير في الآونة الأخيرة، إلى درجة أصبح المقدم على الانتحار يلجأ إلى توثيق العملية بالصوت والصورة، ما تسبب في تصغير وتبسيط وتسهيل المرور إلى الفعل في حدّ ذاته، وتراجع الهالة والخوف الذي كان ينتاب الجميع كلما وقعت حالة انتحار في مكان ما"، مشيرا إلى أن "وجود شقين متناقضين للانتحار، وهما "الطّابو" وتسهيل المرور إلى الفعل، يستوجب فتح نقاش جدّي حول الظاهرة وتعريتها، مع ضرورة وضع أسس لبناء الشخصية انطلاقا من المدرسة المغربية".