اعتمدت النيابة العامة في بيانها مجموعة من الاتهامات لرموز الحراك الشعبي بالريف، بناء على التحقيقات التي أنجزتها الضابطة القضائية بالدار البيضاء، حيث أشارت العديد من المواقع الإخبارية بناء على تسريبات بعض المحامين، إلى أن أفراد الفرقة الوطنية المشرفة على التحقيق مع المعتقلين ركزت على قضية عدم حمل العلم الوطني كقرينة إدانة وحجة ضد موكليهم، معتبرة ضمنيا أن حمل الأعلام المحلية دليل على الانفصال عن سيادة الوطن، ودعاية من شأنها المس بوحدة المملكة وسيادتها وزعزعة ولاء المواطنين للدولة المغربية ولمؤسسات الشعب المغربي. إن الطريقة التي تم التعامل بها رسميا مع استخدام الأعلام المحلية دليل على مدى سوء الفهم التاريخي المستفحل في صفوف عدد كبير من المغاربة، سواء العامة أو من هم في مراكز القرار والمسؤولية، ويتجلى ذلك في تشجيع السلطة المحلية لتظاهرات مناوئة للحراك في عدد من المدن المغربية تحمل العلم الوطني وتردد النشيد الوطني، حيث يبدو المشهد سرياليا، وكأنما الأمر يتعلق بعدوان خارجي على الوطن، أو أننا نعيش في ظل عهد الحماية. مما يستغرب له في هذا المضمار تنكر الدولة المغربية لتوصيات هيئة المصالحة والإنصاف، التي عبرت عن دعمها لمشروع مركز الريف لحفظ الذاكرة، وهي منظمة غير حكومية، تسيرها نخبة نشطة في مجال البحث التاريخي وحقوق الإنسان والمواطنة. كما قامت الهيأة بمبادرة مهمة اتجاه عائلة محمد بن عبد الكريم الخطابي من أجل تحقيق أمنية غالية لدى كل مغربي ومغربية، وتتجلى في العمل على استعادة رفاة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي من القاهرة ليدفن في التربة التي أنجبته والتي سقتها دماء الشهداء الريفيين الذين عضدوه. بل إن الهيئة عبرت عن استعداد الدولة الكامل، كما جاء في مذكرات من تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، لوضع إمكانياتها ليس فقط لنقل جثمان الأمير، بل إعادة الاعتبار لقيمته التاريخية والرمزية، وذلك بتنظيم جنازة وطنية رسمية تليق ببطل مغربي مقاوم، وبناء متحف قرب ضريحه لتذكير الأجيال بإنجازاته، والآن تضيق الدولة ضرعا بالعلم الذي اتخذه رمزا لحكومته إبان الاحتلال الاسباني للمنطقة الشمالية وتعتبر رفعه في الحراك الريفي الاجتماعي جريمة يعاقب عليها القانون. من المعلوم تاريخيا، كما جاء في كتاب دافيد هارت عن قبيلة بني ورياغل، أن ألوان شارات جنود وعساكر محمد بن عبد الكريم الخطابي التي قاتلت الإسبان المحتلين كانت مستوحاة من نفس ألوان علم الحكومة الريفية، الذي كان عبارة عن خلفية حمراء يتوسطها معين أبيض به نجمة سداسية خضراء وهلال أخضر يتموقع بجانب النجمة. وقد أورد الجنرال كوديد صورة لهذا العلم. وحتى في العملات التي لم تعرف التداول الفعلي من فئة واحد ريفان وخمسة ريفانات نجد الهلال الأخضر بجانبها النجمة السداسية. وانتشرت اليوم على شبكة الأنترنيت وفي الاحتجاجات الشعبية راية الريف أو راية عبد الكريم، والتي أورد صورتها أيضا محمد بن الحسن الوزاني في مذكراته "حياة وجهاد". وما تجدر إليه الإشارة وجود حالات سابقة لرايات مغربية تحمل نجمات سداسية رغم أن العلم الحالي للمملكة المغربية توجد به نجمة خماسية خضراء وراء خلفية حمراء. هذه الراية التي يعتبرها البعض رمزا للانفصال، هي جزء من تاريخ هذا البلد، بغض النظر عن التفاصيل والحيثيات والبراهين، هي باختصار رمز وذاكرة تاريخية لكل المغاربة، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي لم يكن انفصاليا، ولم يدع السلطنة يوما، بل كان مقاوما للاستعمار الإسباني الغاصب، وبطلا في نظر جميع المغاربة، بل ورمزا لحركات التحرر العالمية، قام بالكثير لأجل استقلال هذا الوطن، ولم يطمع في منصب زائل، فالصلاة لم تقم أبدا باسمه في مساجد الريف وفي باقي المناطق التابعة له. لقد كان مقاوما بطلا دافع رفقة أتباعه عن مغرب حر ومستقل. إن المزاعم بشأن الانفصال استنادا إلى رفع العلم الريفي لا تصمد أمام التاريخ. كما أن رفع صور الزعيم الخطابي لا تعني أكثر من اعتزاز وفخر بأحد أبرز قادة التحرر الوطني وأشهرهم على الإطلاق. نحن في المغرب متعددو الهويات والثقافات، ولدينا رموز متعددة نفتخر بها، والدستور يعترف بالخصوصيات الثقافية والتنوع اللغوي، والرموز والأعلام الهوياتية تدخل ضمن هذا الاختلاف الثقافي والتاريخي، ولا يجرم القانون المغربي الاحتفاء بالرموز المحلية ولا حملها، بل هي جزء من الذاكرة التاريخية للمغاربة جميعا. إن الذين اتخذوا مسألة الأعلام للتدليل على الانفصال لا يفقهون في التاريخ الوطني شيئا، ولم يواكبوا أبدا ما يجري اليوم في العالم من اهتمام محموم بالتاريخ المحلي ورموزه. ولذلك فهذا المدخل كان خاطئا منذ البداية، وغير سليم لإصدار الأحكام على نوايا نشطاء الحراك الريفي الذين ركزوا على المطالب الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية. ومن المعلوم أن كل الاحتجاجات والمسيرات الوطنية التي تقوم بها الجمعيات الحقوقية والجماعات ذات التأثير القوي في المغرب لا تحمل الرايات الوطنية لسبب لا علاقة له البتة بموضوع الانفصال. إن التاريخ اليوم يسعى إلى إعادة بناء ورسم الكثير من المعالم التاريخية للمناطق المحلية، وإزاحة الغبار عن شخصياتها ورموزها، اعتمادا على مصادر متعددة، وهذا نوع من العودة للتاريخ المحلي وللذاكرة الجهوية. هذا التوجه الجديد في البحث التاريخي يذكرنا بالتوجه الميكروسكوبي الذي تبنته مدرسة التاريخ المصغر الايطالي، حيث يتم تركيب وبناء معالم اندثرت وأخرى لا زالت تقاوم الدهر وتصارع لأجل البقاء. تنتعش اليوم كتابة التاريخ الجهوي بشكل مجهري في عدد من البلدان، حيث يتم الجمع بين "تاريخ أماكن الذاكرة" و"التاريخ المحلي". وما يهم المؤرخ حقا هو تحيين الذاكرة، فهو قبل كل شيء معني بالمواضيع التي يعالجها ويكتب عنها، غيرته على مدينته ومنطقته وعلى تاريخها. وإحساسه بأن هوية مجاله الجغرافي مهددة بالتفكك والانحلال في ظل التغيرات السريعة في اتجاه التمدن والتوسع حافز أساسي له. حسب المؤرخ فرانسوا دوس في أحد حواراته نحن نحيا في عصر «الكل ذاكرة». ولقد تحدث بيير نورا بدوره عن «طغيان الذاكرة» التي أضحت العلامة البارزة في زمننا الحاضر. حيث هناك عودة لافتة للنظر إلى الذاكرة وإعادة الاعتبار للتاريخ المحلي أواخر القرن العشرين. وفي هذا الإطار نسجل ملاحظة أساسية مهمة تتعلق بالإقبال الجماهيري الكبير على التاريخ المحلي ومواضيعه في العديد من المجتمعات الغربية اليوم، وبشكل محسوس أيضا في بعض البلدان العربية كالمغرب مثلا في مجال البحث التاريخي والتراثي، وهذا شيء إيجابي ومحمود في حد ذاته، بل إن ذلك يمثل في حقيقته علامة على أننا افتقدنا الإحساس بالذاكرة التاريخية والهوية المشتركة. كيف نجعل ذاكرتنا تستند إلى التاريخ المعيش وليس إلى التاريخ الذي نتعلمه وندرسه؟ هذا تحدي كبير يجب التفكير في أجوبة ومشاريع له على مستوى البرامج التعليمية والأنشطة الثقافية المحلية والوطنية. لا يجب أبدا إضفاء طابع الشخصنة على المعالم وأماكن الذاكرة، أو تعمد إقصاء بعضها لأسباب ما، إما لاعتبارات سياسية أو أيديولوجية، هذا شيء يساهم في التلاعب بالذاكرة. واجب الذاكرة يفرض العكس تماما، يفرض الاعتراف والحرص على إبراز التنوع بأشكاله التعبيرية المختلفة، ومنها التي سبق وجودها ظهور الدولة الحديثة نفسها إن معركة الحفاظ على هويتنا الوطنية والمحلية تتطلب تظافر جهود فردية وجماعية، ولعل الحفاظ على ما تبقى حتى لا يندثر هو بالطبع رهان يجب كسبه. أليس من حقنا التمتع بحيّزنا الجغرافي المحلي دون فصله عن إرثه التاريخي الوطني؟ واجب الحفاظ على ذاكرتنا المحلية اليوم ليس أمرا شخصيا أو ذاتيا، بل هو واجب عام وجماعي، إنه دين اتجاه أسلافنا. إننا مدينون لمن سبقونا في جزء مما نحن فيه اليوم، ونحن ملزمون ليس فقط بحفظ الآثار المادية أو المكتوبة في بوادينا ومدننا وجهاتنا، ولكن أيضا استحضار مساهمة الأسلاف ممن كانوا موجودين في السابق وإنصافهم، هذه هي رسالة المؤرخين اليوم. نحيي الذاكرة حين نراها تندثر أمامنا، تقتل يوميا بأيدينا، أين هي ذاكراتنا المحلية وأمكنتنا ومعالمنا الثقافية؟ غالبيتها مهملة ومقصية. كيف نجعل الماضي قريبا من الفهم بل ومعيشا في الحاضر؟ لا يتم ذلك إلا من خلال استحضار واستعادة الأماكن الغابرة والشخصيات المشهورة وأيضا المغمورة، ولابد من الاعتزاز بالتاريخ المحلي، لأن من لا يعتز بتاريخه المحلي لا يمكنه أن يعتز بتاريخه الوطني. *أكاديمي مختص في التاريخ