تلعب كتابة الضبط دورا مهما وحيويا في قيام المحاكم بعملها وتقديم خدماتها لعموم المتقاضين. فلا أحد ينكر هذا الدور الفعال والمتميز لكتابة الضبط، فهي تعتبر المساعد الأول للجهاز القضائي في أداء رسالته النبيلة، فمنها يبتدئ الملف القضائي وفيها ينتهي؛ لذلك حظيت باهتمام من أعلى سلطة في البلاد من خلال العديد من الخطب الملكية في هذا المجال لعل أبرزها خطاب 31 مارس لسنة 1982 وقوله صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله إن "مسؤولية القاضي ليست أجسم من مسؤولية كاتب الضبط...". بالرجوع إلى المقتضيات القانونية المنظمة لهاته الهيئة، فقد تم بداية تنظيمها عن طريق المرسوم الملكي رقم 1.181.66 الصادر بتاريخ 2 فبراير 1967 بمثابة نظام أساسي خاص بموظفي المحاكم، تلته بعد ذلك العديد من المراسيم آخرها مرسوم رقم 71-08-2 صادر في 5 رجب 1429 (9 يوليو 2008) بشأن النظام الأساسي الخاص بموظفي هيئة كتابة الضبط، الذي تم تعديله بمقتضى المرسوم الصادر في الجريدة الرسمية تحث عدد 5981 ليوم 26 شتنبر 2011. وقد جاء في الفصل الأول لهذا المرسوم أنه "تحدث هيئة لكتابة الضبط... ويخضع الموظفون المنتمون لهاته الهيئة للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل، وهي التي تقوم بتدبير شؤونهم وفقا للمقتضيات التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل". يتضح من هذا النص أن هاته الهيئة نظريا هي جهاز مستقل، أي إنه يمارس عمله باستقلالية وحيادية تامة عن مختلف الأطراف المكونة لمنظومة العدالة بصفة عامة من قضاة ومحامين...الخ. ويفترض هذا القول إن كاتب الضبط هو الأمين والحافظ لمجموع الوثائق التي توضع بكتابة الضبط، بمعنى أصح الأمين على حقوق المرتفقين، بل إنه الشاهد حتى على القضاة أنفسهم كما هو الحال لكاتب الضبط الجلسات عندما يدون ما يروج أمامه بكل تجرد وحياد دون أي إملاءات من أي جهة كانت. إذا كان دور كاتب الضبط واضحا ومؤطرا تشريعيا من قبل المشرع المغربي، فإن الواقع العملي لا يعكس هاته الرؤية التشريعية والقانونية ولا ينسجم معها. فمازالت بعض السلوكيات تصطبغ بطبيعة عمل هذا الجهاز تذهب إلى درجة اعتباره جهازا للسخرة وليس للمساعدة القضائية بالرغم من أن هذا النظام لم يعد معمولا به في مختلف الإدارات والمؤسسات العمومية. انطلاقا من هذا، ففي خضم النقاش الدائر حاليا حول مشاريع إصلاح منظومة العدالة وما أفرز من معطيات جديدة تخص أساسا القوانين المتعلقة بالسلطة القضائية، وقوانين المسطرة المدنية والتنظيم القضائي للمملكة المغربية ومالها من انعكاس على مختلف الفاعلين في مجال العدالة، أبرزها فرز استقلالية السلطة القضائية عن السلطة الحكومية المكلفة بالعدل وما نتج عنه أيضا من فك الارتباط بين النيابة العامة ووزير العدل وأصبح القضاة في وضعية قانونية مستقلة عن السلطة التنظيمية، هاته الأخيرة ابتعدت كليا عن تدبير المسار المهني للقضاة. هذه المعطيات وبلا شك خلفت آثارا على باقي المهن المساعدة للقضاء، وفي مقدمتها كتابة الضبط باعتبارها الجهاز التنفيذي التابع مباشرة للسلطة التنظيمية. فكما قلنا سابقا، فأول ما يقصده المتقاضي لعرض نزاعه وخصوماته هو هذا الجهاز، فلا يمكن تسجيل الدعوى إلا عن طريق كتابة الضبط. لذلك فإنه بالموازاة مع النقاش الدائر حول فك القضاة لارتباطهم مع وزارة العدل، طرح بشدة مسألة استقلالية كتابة الضبط، أو لنقل أيضا فك الارتباط مع القضاة بالرغم من أن الفصل التام بينهما يبقى شبه مستحيل، بل إن المقصود من ذلك أن يكون هناك نوع من التعاون والتناغم بينهما في ظل وحدة البيئة والعمل والهدف. تبعا لهذا القول ولظروف عدة أخرى مرتبطة بطبيعة الهيئة، اعتبرت العديد من الأطر العاملة بكتابة الضبط أنه لم يعد من المنطقي والمقبول أن تتدخل السلطة القضائية في شؤون هي من صميم أعمال السلطة التنفيذية. ونقصد هنا المهام التدبيرية لعمل المحاكم من قبيل تدبير الوضعية الفردية للموظفين، سواء في ما يتعلق بالترقية أو التأديب أو الرخص الإدارية والنقل من شعبة إلى أخرى، أو غيرها من الأمور التي تتعلق بالتجهيزات المكتبية والتقنية والمالية، وبصفة عامة التدبير المالي والبشري والإداري للمحاكم. فحسب النص القانوني سالف الذكر، فإن كتابة الضبط تابعة للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل، وليس هناك من تبرير لإخضاعها لسلطة أخرى؛ لذلك فإن طرح فك الارتباط مع السلطة القضائية يستند إلى أساس أن تؤدي كل سلطة مهامها في جو من التنسيق والتوازي والاحترام والتكامل أخدا بعين الاعتبار مسألة المصلحة العامة وخدمة المتقاضين من جهة، والمبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة. فكما هو معلوم، فإن المهمة الأساسية المنوطة بالقضاة هي الفصل في النزاعات وإصدار الأحكام في الخصومات المعروضة عليهم، ولا يمتد هذا العمل إلى القيام بأمور تدبيرية؛ فهذا الدور موكول للإدارة القضائية، أو بمعنى أصح لرجل الإدارة. صحيح أن ذلك يبقى مقبولا قبل صدور القوانين المتعلقة بالسلطة القضائية على اعتبار أن المسؤول القضائي آنداك يستمد سلطة التدبير والمراقبة والإشراف من سلطة وزير العدل، لكون هذا الأخير كان يعتبر المسؤول المباشر عن قضاة النيابة وغير المباشر عن قضاة الأحكام؛ لذلك من الطبيعي والمقبول القول بإشرافهم على القضاة والموظفين معا وعلى المحاكم بشكل عام، وتنفيذ سياسة وزير العدل عن طريق ما يتلقونه من تعليمات في هذا الشأن، سواء بشكل كتابي: مناشير، دوريات، أو بشكل شفوي، تروم تجويد الخدمات القضائية المقدمة لعموم المواطنين. غير أنه مع انتفاء صفة التبعية هاته بعد أن أصبح الجسم القضائي سلطة مستقلة عن السلطة التنفيذية وأصبح وزير العدل خارج إطار تشكيلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وبالتالي لم تعد له صلة بأعمال القضاة، سواء الحكم أو النيابة العامة، فإنه لا مجال للحديث عن الاشراف المباشر وغير المباشر للمسؤولين القضائيين على كتابة الضبط انسجاما مع المبدأ الدستوري القاضي بفصل السلط. فاستقلالية القضاء عن سلطة الوزير معناه سحب سلطة الإشراف والمراقبة وتدبير شؤون الموظفين بشكل تلقائي ومباشر منهم في ظل عدم التبعية، وتفويضها إلى سلطة إدارية أخرى تابعة مباشرة لسلطة الوزير. ولعل هذا المعطى هو ما دفع بالقائمين على إعداد المشاريع المتعلقة بمنظومة العدالة إلى التنصيص على استحداث منصب الكاتب العام للمحكمة، الذي يتولى، حسب المادة 21 من مشروع التنظيم القضائي الجديد، مهام التسيير والتدبير الإداري للمحكمة. غير أن هاته المؤسسة الإدارية الجديدة بالمحكمة لم تحظ بترحيب من جانب المسؤولين القضائيين الذين أبدوا، حسب تصريح السيد وزير العدل عندما حل ضيفا على قناة الأولى المغربية، تخوفا بحكم أن المحكمة سيتم تسييرها بثلاثة رؤوس؛ فمن جهة هناك إدارة جديدة تحت مسمى "رئاسة النيابة العامة"، لها استقلال مالي وإداري، سترى النور في الأفق القريب بعد مصادقة مجلس المستشارين على قانون تنظيم ونقل اختصاصات النيابة العامة التي منح لها الإشراف المباشر على قضاة النيابة العامة. ومن جهة أخرى، هناك المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي له حق الاشراف والمراقبة على مجموع القضاة، والذي بدوره يتمتع باستقلال مالي وإداري. ثم أخيرا، مؤسسة الكاتب العام للمحاكم التي يعمل الموظفون تحت سلطتها المباشرة. وهذا التخوف يبقى غير مشروع وغير منطقي ويطرح أكثر من علامة استفهام مادام أن القضاة أنفسهم دافعوا عن طرح استقلالية القضاة واستقلالية السلط عن بعضها البعض. وفي المقابل، عندما يتعلق الأمر باستقلالية الإدارة القضائية عارضوا الأمر بشده، وبعبارة أخرى يريدون الاستقلالية عن وزارة العدل وفي الوقت نفسه الاحتفاظ أو الابقاء على الجهاز الإداري المتمثل في كتابة الضبط تحت وصايتهم وإشرافهم، وهو تناقض غير منطقي وغير مبرر ويخالف مبدأ فصل السلط وغيرها من المبادئ المتعارف عليها في هذا المجال. إن هذا التنظيم ثلاثي الأضلاع لهو تجسيد فعلي للمبدأ الدستوري في هذا المجال الذي يقضي بمنع تدخل سلطة في شؤون سلطة أخرى، وضرورة أن يكون هناك نوع من الفصل المرن بين السلط وتعاونها. كما أن هذا التوجه يأتي انسجاما مع التوصيات التي أقرتها الهيئة العليا لإصلاح منظومة العدالة، والتي حظيت بموافقة أعلى سلطة في البلاد. فأساس هذا التقسيم الثلاثي أن مهام القاضي تنحصر في تطبيق القانون والرفع من جودة الأحكام وتقليص أمد التقاضي، في حين ينحصر الجانب الإداري والتدبيري لرجل الإدارة، ممثلا في مؤسسة الكاتب العام للمحكمة الذي يبقى خاضعا لسلطة مباشرة لوزير العدل. إن القول باستقلالية كتابة الضبط أو بالأحرى الإدارة القضائية عن السلطة القضائية أضحى مطلبا ضروريا وملحا يجد أسسه ومرتكزاته في المسببات التي سقناها أعلاه، والتي تقضي أن المهام الإدارية والتدبيرية تبقى من صميم اختصاص رجل الإدارة، والمهام القضائية المتمثلة في الحكم والفصل في النزاعات تبقى من اختصاص رجل القضاء؛ فلا يمكن الجمع بين صفتين: رجل إدارة ورجل قضاء في الوقت ذاته؛ وذلك لتناقضه مع المبادئ الدستورية في هذا المجال، أبرزها مبدأي الفصل بين السلطة القضائية والسلطة التنظيمية وربط المسؤولية بالمحاسبة. من هنا يجب على السلطة الحكومية المكلفة بالعدل ألّا تخطئ مرحلة تاريخية ومفصلية في علاقتها بالسلطة القضائية. فكما تم فك الارتباط بينهما بمقتضى القوانين المتعلقة بالسلطة القضائية واستقلالية النيابة العامة، وبالتالي كان من نتيجة ذلك أن سحب منها البساط لتدبير شؤون ووضعية القضاة، بل حتى رسم مقومات السياسة الجنائية الوطنية، فإنه من غير المعقول أن تفرط هاته السلطة التنفيذية في ما تبقى لها من مكون في الجهاز القضائي وإخضاعه لوصاية السلطة القضائية. من هنا، فإننا نقترح إدخال تعديلات نراها ذات أهمية في تجسيد منطق الاستقلالية هاته لكتابة الضبط، أهمها: - جعل مؤسسة الكاتب العام المنصوص عليها في المادة 21 من مشروع التنظيم القضائي الجديد تابعة مباشرة لسلطة وزير العدل، تمارس مهامها تحت إشرافه ومراقبته، بدل الصيغة التي وردت حاليا والتي تعطي هاته السلطة للمسؤولين القضائيين. - الاكتفاء فقط بإحداث هاته المؤسسة على صعيد كل دائرة قضائية وليس كل محكمة على حدة، يساعده في أداء مهامه رؤساء كتابة الضبط ورؤوسا كتابة النيابة العامة والمدراء الجهويون، مع اعتباره رئيسا أعلى لباقي الموظفين على مستوى الدائرة القضائية ككل. - نقل الاختصاصات التي يمارسها المسؤولون القضائيون (الرئيس الأول –الوكيل العام) إلى مؤسسة الكاتب العام، خاصة في ما يتعلق بالوضعية الفردية للموظفين (التنقيط –ترأس اللجان المتساوية الأعضاء المختصة بالتأديب والترقية والترسيم-الرخص الإدارية للموظفين – النقل من شعبة إلى أخرى أو من مصلحة إلى أخرى في ظل توحيد كتابة الضبط)؛ إذ من غير المنطقي في ظل مبدأ استقلالية السلطة القضائية النظر في الوضعيات الفردية للموظفين التابعين للسلطة التنظيمية من قبل المسؤول القضائي الذي يمثل السلطة القضائية؛ لأن التسليم بمثل هكذا قول معناه إخضاع السلطة التنظيمية لوصاية ورقابة القضاء، وهذا أمر غير منطقي وغير دستوري. - إسناد ترأس هاته المؤسسة لأطر كتابة الضبط من ذوي الشهادات العليا، خاصة شهادة الماستر والدكتوراه، مع جعل التعيين فيها يدخل ضمن دائرة المناصب العليا التي يتم التعيين فيها بظهير أو مرسوم، مع التنصيص على عقد جلسة رسمية للتنصيب يحضرها وزير العدل والرئيس الأول للمحكمة والوكيل العام لديها. وهذا أمر طبيعي لكون الكاتب العام يعتبرا ممثلا لوزير العدل داخل المحكمة في إطار توازن السلط وتعاونها بطبيعة الحال. - تعديل بعض المقتضيات القانونية الواردة في مشروع التنظيم القضائي بما ينسجم مع مكانة الكاتب العام، وبالأخص تلك المتعلقة بحضور أشغال الجمعية العمومية للمحكمة ومكتب المحكمة واللجان المستحدثة بها، بالتنصيص على انتدابه لأحد رؤساء كتابة الضبط لتمثيله فيها. - تمكين مؤسسة الكاتب العام من القيام بمهام التفتيش الدوري للمحاكم التابعة لدائرة نفوذه وإعداد تقرير بشأن ذلك يرفعه إلى وزير العدل، مع التنصيص كذلك على رفع تقرير سنوي إلى وزير العدل حول كل ما يتعلق بالتدبير المالي والإداري للمحاكم والمديريات الإقليمية واقتراح حاجيات المحاكم والمديريات من الموارد البشرية. ويبقى في الختام أن نشير إلى أنه من شأن تجسيد هاته الاستقلالية على أرض الواقع أن ينعكس ايجابا على مرتادي مرفق العدالة، كما أن من شأن ذلك أيضا إزالة التداخل الحاصل حاليا بين المهام القضائية والإدارية بشكل يوضح حدود تدخل كل مسؤول على حدة في إطار تجسيد مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. كما أن هذا لا يعني القول باشتغال كل سلطة بمعزل عن الأخرى، بل لا بد أن يكون هناك نوع من التكامل والتعاون بين السلطتين خدمة لمرفق القضاء. *حاصل على الماستر في القانون العام باحث في الشؤون القانونية والإدارية