شكل خطاب العرش بمناسبة الذكرى 18 لتربع صاحب الجلالة على عرش أسلافه الميامين، نقطة تحول بارزة شكلا ومضمونا، وعلى الرغم من التطور الواضح والمشهود به له قاريا ودوليا. فإن الدينامية المحلية تعرف وضعا استثنائيا، بسبب ما يشوبها من اختلالات ومفارقات عميقة، لا يمكن قبولها أو القفز عليها، خاصة في المجالات الاجتماعية، كالتعليم والصحة والثقافة والتنمية البشرية والترابية، بالنظر إلى النتائج المخجلة التي لا تعكس مضمون وأبعاد المشاريع التنموية المسطرة، ولا تشرف المغرب والمغاربة قاطبة، وذلك مرده إلى سببين رئيسيين هما: 1 – يعيش القطاع العام أوضاعا مغايرة للقطاع الخاص، إذ يشكل عموما مرتعا للفوضى والارتجال الذي ساهمت فيه الدولة سابقا، من تجليات ذلك ضعف العمل المشترك بين قطاعاته، والاتكالية والمماطلة في معالجة المشاريع، وغياب البعد الوطني والاستراتيجي لدى الفاعلين، ناهيك عن ضعف الحكامة وما ينتج عنها من قلة المردودية، خلافا لما يتمتع به القطاع الخاص من مناعة، تسمح بتفعيل آليات المتابعة والمراقبة والتحفيز، باعتبارها شرطا يساعد على اتخاذ المبادرة، ومن ثم إدارة الفعل السياسي وفق قواعد المسؤولية والمحاسبة. 2 – لا يختلف اثنان اليوم، على الجدوى من هذه المؤسسات والانتخابات والحكومة والبرلمان، ودور العمال والسفراء والقناصلة، أليست ميزانياتهم الضخمة تشكل في كثير من الأحيان هدرا للمال العام نظرا لضعف نجاعتهم؟، خاصة إذا كان عمل "المسؤولين" في واد، وحاجيات المواطنين في واد آخر، إذ لا قيمة لكل المشاريع التي لا تشرك المواطنين، لما لذلك من أثر إيجابي على تعميق روابط الثقة بين كل مكونات المجتمع، رغم اختلاف مشاربهم السياسية، ما عدا ذلك فإن هذه الثقة ستظل مفقودة، وأساس تهديد الاستقرار، لذلك أصبحت الأحزاب السياسية محط مساءلة من قبل الشعب، ومن قبل الملك الذي أبدى امتعاضه واشمئزازه من الفاعل السياسي، والطريقة التي تمارس بها السياسة عموما، فلا يعقل أن تظل هذه الأحزاب مستمرة في رهن مستقبل المغرب وفق حسابات ضيقة، بما يفوت عليه فرص الالتحاق بمصاف الدول المتقدمة، وانعكاس آثار التنمية على المستوى المعيشي والفكري على المواطن، فعوض التواصل مع المواطنين لتأطيرهم ومساعدتهم على حل مشاكلهم، طفت على القاموس السياسي مصطلحات ومفاهيم شعبوية جديدة، وبعيدة عن حاجات واهتمامات الناس، تدخل في نطاق الفرجة و"الحلقة" التي لها مجالها الخاص، معلنة بذلك عن استقالتها من أهم الأدوار المنوطة بها. بذلك نسجل مفارقة أخرى، بين النموذج السياسي المتقدم لأعلى هرم في الدولة، وبين تخلف الفاعل السياسي وعجزه التام عن التدبير الأمثل لروح قانون الأحزاب، فيضطر إلى الإجهاز على الديموقراطية التشاركية خدمة لأغراض ذاتية وفئوية، من نتائجها عزوف الشباب والمثقفين على الممارسة السياسية، من شأن هذا الفراغ ألا يسمح بالانفتاح على الطاقات والكفاءات الضرورية لضمان إنجاح المشاريع التنموية، ولذلك فالفراغ يستهدف في العمق أمن واستقرار المواطنين ليس إلا، خاصة عندما تطفو من حين إلى آخر نزاعات ذات أبعاد اجتماعية، غالبا ما تفتقد إلى التأطير الحزبي والنضج السياسي الكافيين، تنتهي إلى مواجهات مفتوحة بين المحتجين وبين القوات العمومية، تفضي أحيانا إلى التدخل والاعتقال باعتباره خيارا من خيارات استتباب الأمن والاستقرار. ولذلك، يسائلنا الوضع المقلق لواقع الأحزاب السياسية اليوم، هل فعلا أنها قادرة على تطوير نفسها من الداخل، اعتمادا على إمكاناتها وآلياتها في تجديد النخب بما يسمح بتغيير العقليات؟، وإن كنت شخصيا أستبعد ذلك. أم أن هناك شروطا موضوعية تؤسس لإنشاء مؤسسة حزبية جديدة، كبديل عن هذه الأحزاب التي تفتقد غالبيتها إلى المشروعية السياسية في التأطير والممارسة؟. في تقديري ، فإن الأمر لابد أن يشغل بال الجميع، وفي مقدمتهم صناع القرار السياسي، في انتظار أن تتبلور كل الخيارات الممكنة، وما يتطلبه ذلك من رصد للموارد المالية، والإمكانات اللوجيستيكية الضخمة للتمويل، وفي نفس الوقت الحرص على صيانة القرار السياسي وحمايته من كل اللوبيات المحتملة التي قد تقايض بمشاكل وهموم المواطنين. وعليه، فإن الوضع الآني يقتضي: 1 – تفعيل الشق السياسي استنادا إلى الآليات الدستورية المتاحة: في مقدمتها تشكيل حكومة ائتلاف وطنية، تعتمد على الكفاءات المشهود لها، وإعلان حالة الاستثناء كمرحلة انتقالية، من شأنها أن تقطع مع كل الاختلالات المرصودة، وتؤسس لبروز نخبة سياسية مستوعبة للرهانات التنموية للبلاد. 2 - تفعيل لجن المراقبة في جميع الإدارات العمومية تفعيلا أمثل، واعتماد التكوين والتكوين المستمر، استنادا إلى الحاجات والمهام كضرورة إجرائية، والانتقال من مرتبة الزجر الإداري إلى القضائي إن اقتضى الحال دون تردد، بما في ذلك الوزراء والأمناء العامون للأحزاب وغيرهم، على غرار ما هو معمول به في الدول الديموقراطية. 3 - بموازاة ذلك، تشجيع كل المبادرات الناجحة وتحفيزها ماديا ومعنويا، بما يعزز ثقافة الاعتراف التي لا تستقيم إلاعلى مبدأ الجزاء والعقاب. تعتبر هذه الإجراءات والتدابير أولوية، في انتظار الإصلاحات الكبرى التي قد تستغرق وقتا أطويل لارتباطها المباشر بالعقليات، ربحا لهدر الزمان الذي ينبغي أن يدبر بعناية ودقة فائقة، لما فيه مصلحة الوطن.