المفهوم السياسي لدار المُلك: ظاهرة "السلطة" كنسق ثقافي داخل المجتمع يؤرخ الباحث المغربي عبد الله العروي للدولة المغربية الحديثة مع مطلع القرن العشرين بالقول: [ يبدأ المغرب الحديث في القرن العشرين، إذ أنه إذا كانت معرفته قد أصبحت مبهمة ب "الآخر" القريب جدا ... ] (1)، و هو بقوله هذا يجعلنا نتساءل ما إذا كان المغرب يعيش في غيبوبة تاريخية قبل هذه الفترة؟ فالكثير من الكتابات، عن جهل أو دراية أو خيانة للأمنة العلمية أو خبث، تؤرخ للدولة المغربية منذ عهد الأدارسة، منذ 12 قرنا، وهو أمر يدعو لكثير من الاستياء، لأن كتابة التاريخ يتوجب الرقي بها لمستوى التصريح بالحقائق والوقائع دون مواراة أو محاباة أو خذلان واستعلاء للباطل، والواقع أن المغرب عميق في التاريخ ... فالكتابة في أي صنف يتوجب على صاحبها ابتغاء بث المعرفة والفكر السليمين، وما رقي الشعوب إلا بالتصريح بتاريخها دون مركبات نقص أو تقصير في المصالحة معه وتقاسمه مع الآخر الذي هو شعبها أو الإنسانية جمعاء. وقد كانت لنا فرصة الخوض في جزء من تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، من خلال بحث متواضع عن جزء من ريف المغرب، وقادنا الأمر للاطلاع على عدد من الكتابات الموسومة بالكولونيالية، كتبا ومجلات وقصاصات جرائد وغيرها، من المكتبتين الفرنسية والإسبانية، لاحظنا أن القوم لا يخجلون من تاريخهم الأسود ببلاد المغرب أو بلدان أخرى عانت من وطأة احتلالهم لها وغطرستهم، ويذكرون الوقائع والصور يضعونها رهن إشارة الباحث، لأنه، في اعتقادنا، لابد من الإقرار بخطايا مرحلة تاريخية ما لاستشراف المستقبل. كان لابد من هذا الاستطراد لوضع المقال في سياقه، ثم لتبني خطاب القراءة المعاصرة للتاريخ وفق مناهج علمية تعتمد المقاربة الأنثروبولوجية للظواهر الثقافية، ومنها ظاهرة "السلطة" كنسق ثقافي داخل المجتمع، وقد اخترنا لهذا الغرض كتاب الشيخ والمريد للباحث المغربي المعاصر عبد الله حمودي، ليس على سبيل الحصر لأن الكتابات كثيرة، لتناول المفهوم السياسي لدار الملك؟ وما هي مقومات هذه المؤسسة؟ وكيف تختار دار المُلك أوفياءها و خدامها و تجعل منهم نخبة تشكل بنية لها وقوة ضاغطة؟ وما هو الدور الذي لعبه الشعب لتقوية دار المُلك عبر تشبثه القوي والخرافي بها؟ كيف تعامل السلاطين مع الشعب من خلال مفهومي المواطن والرعية؟ وما الدور الذي لعبته الحركة الوطنية في تعزيز دار المُلك؟ وما مدى النفوذ الاقتصادي لدار المُلك عبر جهاز المخزن؟ وكيف خدم الاستعمار الدولة الحديثة؟ وغيرها من الأسئلة التي تتناسل عند الحديث عن دار المُلك. المفهوم السياسي لدار المُلك في كتابه القيم "الشيخ و المريد"(2) يسلط الباحث الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي الضوء على خانة من نظمية السلطة بالمغرب وهي مؤسسة "دار المُلك" التي ظل تناولها محتشما ومن زاوية تاريخية، أو ربما ظل ينظر إلهيا من زاوية المقدس الذي لا يجوز الخوض فيه أو هي من الطابوات (Tabous) الكثيرة التي ظل المغرب الحديث يتميز بها، كالمؤسسة السجنية وميزانيات القصر والجيش والأوقاف وغيرها من الأمور التي لا يجوز الخوض فيها ... لأنها تتعلق بسيادة دار المُلك، أو من خلال الكتابات الكولونيالية. والحقيقة أنه إن كان هناك من شيء قد نال قيمة وتطورا على امتداد تاريخ المغرب، فإنه دار المُلك بأجهزتها، خاصة المخزن والجيش، ولو أن المؤسسة الأخيرة انكشفت هشاشتها مع هزيمتي إسلي 1844 وتطوان 1859، إذ تأكد أن الجيش كان ذا بأس كلما تعلق الأمر بإخضاع القبائل وإحباط المؤامرات والثورات ضد دار المُلك. ينطلق عبد الله حمودي من سؤال جوهري هو كيف نفسر موقف أغلبية شعبية خاضعة للحرمان، تبدو راضية رغم ذلك؟(3). فالأمر لا يبدو ناتجا عن القمع فقط ، إذ يمكن أن ينضاف إليه رسوخ العديد من المعتقدات، حسب حمودي، كالسعي الدائم وراء التقرب من السلطة للظفر بالنعم، و اعتبار الروحانية التي تسم المركز الموزع لهذه السلطة. وفي هذا إحالة على مفهوم "عقلية العبيد" و"عقلية الإنسان المقهور". فالعبد يسعى دائما نحو رضا سيده كسعي المريد نحو رضا شيخه داخل الزاوية ومنها إلى الولاءات داخل الأحزاب (فالزعيم داخل حزب ما، يبقى زعيما إلى أن يلقى ربه)، وبين الأفراد وفي ما بين دولة وأخرى ... هذه الثنائيات إذن، هي التي تنبني عليها العلاقات داخل المجتمع المغربي الحديث والتي تطال جميع المؤسسات (المؤسسة بمفهومها القائم، لأنه ليس هناك مؤسسات ناتجة عن ممارسة حرية الاختيار بما في ذالك مؤسسة الأسرة). إذن هناك اعتبار للروحانية التي تسم القائم على هذه السلطة والفئات المحرومة، يستطرد عبد الله حمودي في استغراب، كيف لها أن تصبر على الحرمان أملا في تحسن خارق لأوضاعها رغم خيبات الأمل التي ظلت تجترها منذ الأمد البعيد. و من خلال مقاربة عكسية لهذا الخضوع والخنوع، يشير صاحب "الشيخ والمريد" إلى ثورة الغضب التي تنتاب هذه الفئات المحرومة بين الحين والآخر على شكل مظاهرات أو انتفاضات تواجه في الغالب بالقمع والتغييب والسجن والدم والأمثلة لا حصر لها عبر تاريخ هذه السلطة، قبل الحماية الفرنسية أو بعدها، لأن دار المُلك تجعل الحفاظ على ذاتها وكيانها همّاً أساسا وفوق أي اعتبار، وهي أمور يتحلى بها أصحاب السلطة عامة، ليس المغرب وحده بل في مختلف البلدان وعبر تاريخ البشرية، لازال جوهر الصراع حول المال والسلطة بين الأفراد والجماعات والأمم ... إذ يقتضي الأمر الضرب بقسوة على يد كل مناوش أو معارض لهذه المؤسسة التي يصبح تحديد معالمها مبهما وفيه الكثير من الغموض واللبس، حيث يصعب للمحلل التمييز بين مفاهيم شتى، بين دار المُلك إلى المخزن إلى الدولة إلى دار الخلافة إلى إمارة المؤمنين إلى أب الأمة ... ومرد هذا اللبس كون دار المُلك تأخذ شكل كل هذه المؤسسات أو هي تجلياتها وأوجهها المتكررة. وفي سياق مشروعية العنف [يحدد ماكس ﭬيبر سلطة الدولة، بشكل عام، من خلال الاستئثار بالإكراه والقسر والعنف المشروع. فمن البديهي، إذن، أن يُظهر كل سلطان تلك القوة الدينية الخارقة عبر قوته الضاربة على حد تعبير ﯕيرتز 1968. C.Geertz ، فالسلطة العليا لا يمكن أن تدوم لوقت طويل بين يدي رجل عاجز أن يكون مقدسا وقويا في وقت واحد](4)، والسلطة هنا تتمركز حول ثالوث السلطان والبيروقراطية والجيش(5)، والبيروقراطية هنا هي التي يمثلها المخزن [لأن النظريات السوسيولوجية المتعددة حول المخزن، لم تستطع التمييز بين مختلف أوجه ومظاهر السلطة السلطانية أو حتى تعدد معاني الكلمة في حد ذاتها. و مهما يكن، فإنهم قد أسرفوا في تبسيط الخطايا](6). تعدد شرعيات دار المُلك الشرعية الدينية : و تتجلي في عنصر البيعة للأمير / الخليفة / الملك / السلطان ... والتي تؤدي بدورها إلى تحميله لقب أمير المؤمنين، و[البيعة هي العهد على الطاعة، كأن يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشِّط (كسر الشين المضعفة) والمكِره (ضم الميم وكسر الراء)](7)، فالسلطان يستمد شرعيته من البيعة لما تكتسيه من عمق ديني، أي أن البيعة هي وجوب الطاعة للإمام وأمير المؤمنين، من هذا المنظور لن يجرأ أحد على الخوض في وجوب وشرعية الطاعة، باعتبار أن البيعة أول ما كانت للنبي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالبيعة هنا ترتد زمنيا لعهد الرسول صلى الله عليه وسلم. هكذا يتحول السلطان إلى فاعل لما يريد لأنه أضحت تحوف به هالة من القدسية المستمدة من غطاء الشرعية الدينية، تفعيلا للآية الكريمة ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و الرسول و أولي الأمر منكم﴾(الآية). أما لقب أمير المؤمنين فيعود للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأنه هو أول من حظي به. إذا كانت البيعة عند ابن خلدون هي العهد على الطاعة، فإن عبد الله حمودي يجعل مفهومها أوسع و أشمل، إذ يرى أن البيعة المتجددة على رأس كل سنة، إنما [تربط بصورة دائمة الشعب بالملك، و تنزه هذا الأخير على الصراعات والتحزبات التي يمكن أن تعرفها الأمة / الجماعة، وترفع مكانته فوق الأغراض الخاصة](8). فالملك يمسك بزمام جميع المبادرات بما فيها وضع الدستور [دستور 1972 يسند إلى الملك سلطة التشريع خارج الأحكام الدستورية. إذ أن الدستور نفسه يكرس ثنائية المرجعية: البيعة من جهة، و القوانين الدستورية من جهة أخرى](9)، حتى على مستوى طقوس البيعة يظهر السلطان على الرعية من مختلف الأقاليم والفئات ممتطيا فرسا تظلله مظلة يحملها أحد الخدم مترجلا كغيره، إذ السلطان وحده من يركب الفرس دون سواه من الحاضرين. هذه البيعة هي التي تجعل من الملك أميرا للمؤمنين، ليس بالمفهوم الذي ظهرت به هذه الصفة مع خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإنما بشكل أقوى وأكثر قدسية وتأكيدا للشرعية الدينية والنسب الشريف، وبالتالي فإن طاعته واجبة [ ... والله يدعو إلى انتقاء من ترتضيه الأمة، ويأمر ألا تبقى الأمة بدون إمام](10)، فمؤسسة دار المُلك تستثمر، دائما، تاريخ السلف كونها من الشرفاء و تنحدر من آل البيت، وقد ظل العلماء ولا زالوا، يشكلون ذلك الدرع الواقي الذي يشرعن قرارات و توجيهات ومواقف وسياسة دار المُلك. هؤلاء العلماء والفقهاء يمكن اعتبارهم نخبة. أما الشيء المميز للبيعة فهو صيغة الإجماع. إجماع المسلمين على الولاء والطاعة للملك. فمهما بلغت درجة الاختلالات والخلافات، لن ترقى لدرجة التراجع عن البيعة و قدسيتها. لكن لا يجوز نسيان مؤسسة أخرى تجلى نجمها إلى جانب دار المُلك، إنها "الزوايا" وظاهرة "الشرفاء"، لهذا أقبلت دار المُلك على السعي وراء احتوائها أو اضطهادها أو خلق نقيض لها كما حدث عند استقدام الوهابية ... من هذا المنطلق يؤكد عبد الله حمودي على مقاربة أساس تهم اللدنية الشريفية التي اختفت [شيئا ما، بين 1894 و1927 لصالح حركات أخرى، وتنازع هذه الحركات معروف: مقاومة زعماء القبائل أو الزعماء الدينيين (المنحدرين من سلالات شريفة أو غير المنحدرين منها) ومؤسسات يتزعمها "أصحاب كرامات و خوارق" ومعارك بين قبائل رفضت الولاء وقبائل تمسكت به، ثم الكفاح الوطني الذي يمتح ديناميته من الإيمان](11). إن [نص البيعة، كتفويض غير محدود للسلطة، يستمد فعاليته، ليس من مضمونه، بل من تطابقه مع نموذج أصل يتمتع بقداسة لا يرقى إليها الشك من جهة، ومن سمو وجسامة المهمة التي يتم تكليف الإمام بها عادة، وهي حفظ وحدة الأمة والسعي إلى تحقيق إجماعها الدائم](12). لا ننسى أيضا أن "أمير المؤمنين" و"سبط الرسول" يتولى ذبح أضحية العيد لنفسه وشعبه كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم نيابة عن المسلمين المعوزين الذين لا يجدون ما ينفقونه لشراء أضحية العيد. الشرعية التاريخية : لم يكن هناك مجال للممارسة الديمقراطية في ظل دولة المخزن ذات السيادة المطلقة. كانت هناك قوة ضاغطة أو "القوة الثالثة" على حد قول محمد عابد الجابري، هذه القوة هي التي تتحكم في مجريات الأحداث و تصنعها، هذه القوة الثالثة هي التي تشكل الركن الأساس في بنية دار المُلك، وهي التي أبعدت الحركة الوطنية عن المشاركة في تدبير الشأن العام، علما أن الحركة الوطنية هي التي ظلت وفية للعرش وكافحت من أجل عودة الملك، بل جعلت الاستقلال مشروطا بعودة الملك من منفاه. فالحركة الوطنية هي التي أكسبت دار المُلك تلك الشرعية التاريخية، وقد يبقى المغرب [ البلد الوحيد - تقريبا- من بين بلدان العالم الثالث الذي لم تتسلم فيه الحركة الوطنية التي حققت الاستقلال الحكم، أعني السلطة، بل لقد تسلمها ملك البلاد بتفويض من الحركة الوطنية تلك، بجناحيها السياسي والعسكري ](13). هذه الشرعية التاريخية يستثمرها كل السلاطين كونهم خاضوا حروبا ومعارك من أجل توحيد البلاد وجمع شتات الأمة وصد الخطر الأجنبي، فالسلطان بذلك يحظى بالإجماع ليس كالأحزاب أو زعامات القبائل والزوايا، فالسلطان هو الملاذ للمتخاصمين والحكم عند حدوث النزاعات، إذ بتدخله يتم إلغاء دور أية مؤسسة أخرى بما في ذلك القضاء. و يؤكد عبد الله حمودي (الشيخ و المريد) على أن الملكية دخلت في سبات طويل منذ وفاة المولى الحسن الأول أواخر القرن19 م إلى غاية ثلاثينيات القرن20 م، وقد استيقظت بفضل الحركة الوطنية الحضرية (الاحتجاج على الظهير البربري في ماي 1930)، وقد ترأس الراحل محمد الخامس هذا التيار ولم تمض على توليته أكثر من ثلاث سنوات، ثم الحماية الفرنسية، وعن غير قصد، ساعدت على نماء نوع من الالتحام بين الحركة الوطنية ومؤسسة القصر خلال [اللحظات الأولى من الكفاح وأيام الاستقلال، الذي ناله المغرب بعد ربع قرن تقريبا، نما التعاون بين القصر وزعماء الوطنية الجديدة، وبفضل هذا التعاون أعيد توطيد فكرة الملك بصفته رمزا لوحدة الأمة](14)، ربما لأن الحركة الوطنية كانت تعيش أزمة الصراع حول الزعامة، الشيء الذي سينجلي بعد الاستقلال في 1956 والانشقاقات التي عرفتها الحركة الوطنية بداية من حزب الاستقلال إلى الشورى والاستقلال إلى الاتحاد الوطني مع عبد الله إبراهيم… المهم أن الحركة الوطنية جعلت عودة ملك البلاد الراحل محمد الخامس من أولويات وثيقة المطالبة بالاستقلال، كما أن ذات الحركة هي التي أقرت الاحتفال بعيد العرش أول مرة سنة 1934، بدافع التحدي للمستعمر الفرنسي، هذا الأخير لم ير في دار المُلك أي خطر من شأنه تهديد مطامع فرنسا بالمنطقة لهذا[تم الإبقاء على السلطان بجميع المظاهر الخارجية والأبهة التقليدية المغربية للسيادة الدينية والسياسية، فاحتفظ بقصوره وبعدد كبير من الموظفين التابعين له وحده وبحرسه الأسود تحت إمرة الضباط الفرنسيين، كما ظل خليفة وأميرا للمؤمنين وبأمره كانت تسن القوانين والظهائر وتصدر الأحكام القضائية](15). هكذا ظل الملك "يسود و لا يحكم" إلى غاية 1944 حيث سيتقوى الشعور الوطني وما تلا ذلك من التفاف حول شخص الملك ولبوسه الصفة التاريخية كأب للأمة و محرر للبلاد. ومعلوم أن المغاربة لهم صلة وطيدة بالشرفاء والزوايا عبر مراحل التاريخ الآفلة، وكيف كان تدخل شيوخ الزوايا حاسما في حل النزاعات، خاصة بالعالم القروي، بطلب من الحكم، ويكفي تأمل هذا الانتشار الكبير للأضرحة على امتداد التراب المغربي و مدى إقبال الفئات الشعبية والخاصة عليها للتبرك أو طلب الوساطة. ثم ظهور السلطان في مراسيم الاحتفال بذكرى المولد النبوي باعتباره سبط الرسول وسليله، الشيء الذي يلاقي احتفاء شعبيا وتلاحما للرعية بالسلطان، وكأن الأمر يتعلق ببيعة غير معلنة. فالاحتفال وإن كان بمناسبة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمقه يحمل مدلول الاحتفال بالسلطان الذي هو الممثل الشرعي لبيت الرسول صلى الله عليه وسلم، [وتبين ذلك بجلاء الصورة التي قدمها المؤرخ ابن زيدان عن هذه الاحتفالات الرسمية في عهد الحسن الأول. ففي الموكب والاحتفالات لا يظهر السلطان بصفته الرجل الأقوى فحسب، بل يقدﱠم كذلك بصفته تجليا لبركة الرسول، و هي بركة حية و نافعة و قادرة بمفردها على بث الحياة في المملكة السعيدة التي تمثلها الجماهير المشاركة في هذه الاحتفالات](16)، وتتوالى مظاهر الاحتفال بطقوس مركبة ومضبوطة تجعل من السلطان محور المملكة والأمة والرعية باعتبار نسبه الشريف وكونه أمير المؤمنين يحوف به الشرفاء والعلماء وأصحاب البركة(17)، حيث تتلى الأمداح النبوية وتطلق أنواع البخور لتضفي على المكان ما يلزم من طقوس الهيبة والجلالة، وهي نفس الاحتفالات التي تمتد إلى يوم عيد الأضحى، يضيف حمودي نقلا عن ابن زيدان، حيث يتم بمناسبة عيد الأضحى إهداء [الألبسة للأسرة الملكية وللقواد والعمال والأعيان ... في الصباح يستقبل السلطان وفود القبائل لتهنئته وتقديم الهدايا المألوفة وتجديد البيعة](18)، هذه الطقوس وغيرها في مناسبات كهذه، من شأنها إلهاب مشاعر الحب والتقديس والتنزيه والتعظيم والهبة والخوف والتقرب والخدمة للسلطان، و تجعل منه الوصي على الأمة و "حامي حمى الملة والدين". هكذا [تشكّل المغرب وتنظّم حول شخص سلاطينه الذين ظلوا يمارسون سلطة روحية وتاريخية. في الواقع تقوم الدولة التقليدية على مبدأين أساسيين: في القاعدة توجد القبائل والتي كانت متساوية وتتمتع بسلطة مسخرة من طرف السلطان. 2 فوق الإطار القبَلي يوجد المستوى السياسي العام المتجسد في العاهل الذي هو زعيم روحي وتاريخي مع إدارته والتي يمثلها المخزن.](19). يبقى عنصر الثقة قائما داخل دار المُلك، بحيث يستلزم انتقاء الخدام داخل القصر وانتقاؤهم بكثير من الحذر، وتسند لهم مهام دقيقة وإن بدت شكلية، وهم يرتبون حسب هذه الأهمية في سلالم البلاط. و من بين موظفي القصر نجد قائد المشور، [ وهو باعتباره قائما على شؤون المراسيم، تعمل تحت أوامره عدة هيئات (حناطي) ... جماعة المشوريين (المشاورية)، وهم ينتسبون إلى "المشور"، و يطلق هذا الإسم على الساحة الكبرى التي بباب القصر السلطاني] (20). هكذا تقوم ثقافة راسخة تحظى بها دار الملك تشكل ركنا أساسا من نظمية السلطة داخل النسق الثقافي المغربي. الهوامش: 1 - عبد الله العروي : الإيديولوجية العربية المعاصرة. 2 - عبد الله حمودي : الشيخ و المريد. النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة. ترجمة عبد الحميد جحفة. الطبعة الأولى 2000 ضمن سلسلة المعرفة الاجتماعية. دار تبقال لنشر. 3 - نفسه. ص 35-36. 4 - Mohammed Berdouzi : Destinées démocratiques.analyse et prospective du Maroc politique Publication ; Renouveau 2000. p 22. 5 - عبد الله حمودي : الشيخ و المريد. النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة. ترجمة عبد الحميد جحفة. الطبعة الأولى 2000 ضمن سلسلة المعرفة الاجتماعية. دار تبقال لنشر. ص 73. 6 - Abdallah Laroui : Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain(1830-1912). Centre Culturel Arabe 1993.p 121. 7 - ابن خلدون : مقدمة ابن خلدون. الطبعة الرابعة 1981. الفصل 29 في معنى البيعة. ص 209. 8 - عبد الله حمودي : الشيخ و المريد. النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة. ترجمة عبد الحميد جحفة. الطبعة الأولى 2000 ضمن سلسلة المعرفة الاجتماعية. دار تبقال لنشر. 9- نفسه ص 37 . 10 - نفسه ص 37 . 11 - نفسه ص 39 . 12 - فريد لمريني : معيقات التحول الليبرالي في المغرب. صراع الحداثة والتقليد. منشورات دفاتر وجهة نظر. العدد 10. الطبعة الأولى 2006.مطبعة النجاح الجديدة. المغرب. ص 150-151. 13- محمد عابد الجابري : http://www.aljabriabed.net/MAROC5.HTM 14 - عبد الله حمودي : الشيخ و المريد. النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة. ترجمة عبد الحميد جحفة. الطبعة الأولى 2000 ضمن سلسلة المعرفة الاجتماعية. دار تبقال لنشر. ص 39. 15 - ألبير عياش : المغرب و الاستعمار، حصيلة السيطرة الفرنسية. ترجمة عبد القادر الشاوي و نور الدين سعودي. الطبعة الأولى 1985. دار الخطابي للطباعة و النشر. ص 96 – 97. 16 - نفسه ص 93 . 17 - نفسه ص 94 . 18 - نفسه ص 95 . 19 - Bernard Lugan : Histoire de Maroc des origines à nos jours. Librairie académique Perrin / Critérion. P 16. 20 - مصطفى الشابي : النخبة المخزنية في مغرب القرن التاسع عشر. منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط. 1995. ص 41.