قبالة الفرن الموصد في انتظار نضج الخبز على ناره الهادئة، داخل أحد المخابز التقليدية في مدينة القيروان وسط تونس، يتدافع عشرات من الشباب والنسوة والأطفال يترقبون خروج أرغفة خبز فاحت رائحتها الشهية. فجأة ينفتح منفذ الفرن، فتمدد الأيادي متلهفة، وتنطلق الحناجر هاتفة، وقبل أن يقع الخبز الذهبي الساخن كقطعة جمر على اللوح الخشبي، تنقض عليه جميع الأيادي دفعة واحدة، وكأنها تخشى نفاد رغيف تترقبه العائلة على مائدة الإفطار مساء كل يوم في شهر رمضان المبارك. يتكرر مشهد الانتظار يوميا في رمضان، داخل المخابز العتيقة القليلة في القيروان، والتي ما تزال تحافظ على الخبز التقليدي، الذي تتلاءم نكهاته وأنواعه مع مزاج الصائمين وأذواقهم. نكهة الماضي من حيث المبنى والتجهيزات والأفران من حجر الطوب الطبيعي وطريقة صنع الخبز، تحافظ المخابز التقليدية على طابعها العتيق، العائد إلى عقود مضت، ما يفسر سرّ انجذاب الحرفاء (الزبائن) إلى هذا الخبز المتميز بنكهة الماضي وصنعة الأجداد أكثر من إقبالهم على 134 مخبزا عصريا في المدينة، حسب الإدارة الجهوية للتجارة (حكومية). ينسجم الخبز العتيق، الذي يتم إعداده بشكل تقليدي ومواد طبيعية نباتية، مع الطراز المعماري للمخابز وأدواتها اليدوية الموروثة عن الآباء والأجداد، وصولا إلى المعمار المميز للقيروان منذ فتحها وتأسيسها عام 50 للهجرة (670 م) على يد الفاتح التابعي، عقبة بن نافع. مع اقتراب موعد الإفطار، الذي أعلن عنه المدفع العتيق في القيروان، في مخبز وسط المدينة، على مشارف سور المدينة العتيقة، أمام مبنى قديم مكون من طابق واحد ترك الزمن عليه آثاره رغم محاولات الصيانة والتجديد، يتدفق الناس إلى الداخل مسرعين متسائلين عن موعد إخراج الخبز، ثم يخرجون محملين بأكياس وقفاف مثقلة بالخبز. مهنة الأجداد أمام مصطبة خشبية يعلوها سطح مرمري، وقف صلاح عمرانية، وهو خمسيني يشرف على عملية بيع الخبز، ويتفقد تفاصيل العمل عن كثب، وهو يتدخل بهدوء ورصانة عند أي إشكال، لكنه لا يبدو متسامحا في جوانب النظافة وحسن معاملة الحرفاء. ويقول عمرانية في تصريح صحافي: "ورثت المخبزة عن والدي، وهي مهنة الأجداد التي أبذل قصارى جهدي للمحافظة عليها". ويتابع: "عائلتي تشتغل بصناعة الخبز.. أحفاظ أنا وأشقائي على مخابز عتيقة ووصفة تقليدية لصناعة الخبز، لقد قدم القدماء تضحيات للحفاظ على هذا الطابع القيرواني". ويوضح عمرانية أن "سرّ نكهة الخبز التقليدي وجودته العالية ترجع إلى إبقائه على المكونات الطبيعية للخبز من بهارات وتوابل وإضافات أخرى، مثل زيت الزيتون البكر المنتج في القيروان والسمن الطبيعي، بجانب مميزات الفرن العتيق، الذي يحول العجين الطري إلى خبز ذي بريق ذهبي". ويشير إلى "وجود تطوّر في صناعة الخبز وإبداع في ابتكار أصناف جديدة بنكهات تقليدية". وتقدم المخابز التقليدية أصنافا عدة من الخبز، منه المدور بأحجام مختلفة حسب الحاجة، وترسم عليها نقوش تربيعية وخطوط مجوفة مستلهمة من الفن المعماري ونقوش "الزربية" (السجاد) القيروانية. *وكالة أنباء الأناضول