بسم الله الرحمن الرحيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن رجالا يتخوّضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة "( رواه البخاري). بمناسبة شهر رمضان المبارك سنتناول مجموعة من النصوص الدينية، عبارة عن أحاديث نبوية، بالشرح والتحليل،تتطرق لقضايا المجتمع والشأن العام، وهي في تقديرنا أبلغ رد على من يسعون باسم العلمانية أو الحداثة أن يفصلوا الدين عن الحياة، ويحصروه في زاوية ضيقة هي علاقة العبد بربه، في انتظار الإجهاز عليه، كما حصل مع تجربة قتل الدين في أوروبا بالرغم من الجهود الضخمة التي تبدلها الكنيسة من أجل إحيائه ونشره عبر جيوش من المبشرين، لكن العلمانية استطاعت أن تهمش الدين من حياة الناس هناك،وتفرغه من كل مضمون، حتى أضحى مرتادو الكنيسة من الشيوخ والعجائز ليس إلا !! حديثنا اليوم عن خطورة تدبير المال العام،بمناسبة عزم الحكومة خوصصة 7 في المائة من حصة الدولة في اتصالات المغرب، وذلك بهدف جلب 9 ملايير درهم لخزينة الدولة، وهو تصرف أهوج لا ينظر للمدى البعيد بقدر ما يهمه حل بعض المشاكل الآنية والاستجابة لبعض المطالب الاجتماعية وإخماد التوترات الاحتجاجية، التي حتما ستعود إذا لم نفكك أسسها البنيوية ونضع لها الحلول الجذرية. النص الذي صدّرنا به هذه المقالة لا يعتبر فريدا في بابه، بل هناك ترسانة من النصوص التي تحث على حسن تدبير المال العام وتحذر من التخوّض فيه بغير حق أو إفساده وتبذيره فيما لا يعود بالنفع على البلاد والعباد. قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)، فالحكومة وهي مقبلة على مثل هذه الصفقات الضخمة ملزمة باستشارة الشعب عبر ممثليه ليحصل التراضي بين الطرفين، ولا ترهن الحكومات المقبلة بمثل هذه الصفقات التي تستنزف موارد الدولة أو تثقل كاهلها بمزيد من الديون الخارجية. في موضوع تدبير المال العام يحذر الإسلام من صنفين من الناس: صنف أوتي من جهة فساد العلم أو ضعف في الخبرة، وصنف آخر أوتي من جهة سوء القصد وفساد النية، وكلاهما يشير إليه الحديث الصحيح الذي رواه الألباني في صحيح الجامع عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيأتي على الناس سنوات خدّاعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة " قالوا ومالرويبضة؟ قال : " الرجل التافه في أمر العامّة "، وفي رواية أحمد : قيل ومالرويبضة ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " السفيه يتكلم في أمر العامة ". الصنف الأول يفسد المال بسبب جهله بمقتضيات التدبير أو بسبب اعتداده برأيه، فلا يشرك أهل الخبرة والاختصاص عند اتخاذ القرار، وهذا الصنف يسمى في أدبيات الشرع ب " الرويبضة "، وهو السفيه كما في رواية أحمد، والسفيه هو الذي لا يحسن التصرف في المال كما في قوله تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما). الصنف الثاني يفسد المال بسبب حرصه وسوء قصده، فهو يتخذ السياسة مطية لقضاء أغراضه وتحقيق رغباته، يقدم مصلحته الخاصة على المصلحة العامة، يرتع في المال العام ويستنزف خزينة الدولة ويتحين الفرص للانقضاض على مصالح الناس فيفتك بها فتكاً نزولا عند شهواته وتحقيقا لنزواته،لشدة رغبته في المال، ولهذا شبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إفساد هذا الصنف من المجرمين لدينهم ودنيا الناس بإفساد الذئاب الضارية لزريبة الغنم، فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي بسند حسن صحيح: " ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء في دينه على المال والشرف ". وهذا الصنف حذّر منه القرآن أيضا كما في قوله تعالى :(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). البرلمان اليوم مليء بالرويبضات وبالذئاب الجائعة، والإدارة المغربية كذلك تغص بهذه الأصناف الفاسدة المفسدة، وهذا أصل الفساد الإداري، والشعوب اليوم خرجت تطارد الذئاب وتحاكم الرويبضات، وتطالب برؤوس الفساد، ونحن في المغرب نتغنى بالاستثناء المغربي ولا نريد أن نقطع مع الماضي في صناعة الخرائط السياسية وصناعة النخب، نريد تجنب الاضطرابات في ظل استمرار الأوضاع على ما كانت عليه، وهذا مستحيل لأن العالم تغيّر، والشباب العربأمازيغي( بتعبير أختنا مايسة) بدأ يأخذ المبادرة ويساهم في التغيير بطرقه الخاصة والناجعة في نفس الوقت، غير واثق في المؤسسات الرسمية التي فقدت مصداقيتها عنده ما لم تشتغل وفق منطق الثورة الهادئة، لتنقلنا من تبذير المال إلى حسن تدبير المال. نحن بحاجة اليوم لأيادي نظيفة وقلوب نقية تتقي الله في هذا الشعب، فلا تتخوّض في المال العام، حتى إذا وقفت بين يدي ربها وسألتها الملائكة : ( ما سلككم في سقر؟) يكون جوابها : ( قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين)، ولات حين مندم. نريد مسؤولين يستصحبون أجواء رمضان الإيمانية وأجواء المسجد طوال السنة، وهم في الإدارة والبرلمان وفي السوق، يستشعرون عظم المسؤولية الملقاة عليهم، كما كان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول : " لو مات جمل ضياعا على شط الفرات، لخشيت أن يسألني الله عنه "!! نريد مسؤولين يقطعون مع ذاك السلوك العلماني القبيح الذي يسمح لهم بالجمع بين دخول المسجد وسماع خطبة الجمعة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام وبين أكل أموال الناس بالباطل وأخذ الرشاوى والفتك بالمال العام دون أن يجدوا حرجا في الجمع بين تلك المتناقضات، مع أن الذي أمر بالصلاة هو الذي حذر من أكل أموال الناس بالباطل، والذي أمر بالحج أمر أيضا بالزكاة ونهى عن الرشا ، والذي أمر بالصيام نهى عن الزنا والدعارة وأكل الربا وشرب الخمر والمتاجرة فيها...( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟). نريد مسؤولين يستوعبون الرسائل الملكية التي جاء بها خطاب العرش الأخير، وعلى رأسها تجديد النخب، لأن الدستور الجديد "يستلزم بالمقابل جيلا جديدا من النخب المؤهلة المتشبعة بثقافة وأخلاقيات سياسية جديدة، قوامها التحلي بروح الغيرة الوطنية، والمواطنة الملتزمة، والمسؤولية العالية، وخدمة الصالح العام"...