2017-2021 (الجزء 1) بين يوم السبت 8 أكتوبر 2016، تاريخ الإعلان الرسمي عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية المغربية التي أعلنت فوز حزب العدالة والتنمية "المحافظ" بالمرتبة الأولى، بمجموع 125 مقعد برلماني من أصل 395 مقعد بمجلس النواب، ويوم الأربعاء 26 أبريل 2017، تاريخ المصادقة على البرنامج الحكومي للولاية التشريعية (2016/2021)، تطبيقا لأحكام الفصل 88 من دستور المملكة، بمجموع أصوات بلغت 255 صوتا مقابل معارضة 91 نائبا وامتناع 40 عن التصويت، تاريخ طويل من المعارك الحزبية والتجاذبات السياسية التي انتهت أهم حلقاتها الوسطى بتدخّل القصر، وإعفاء الأمين العام لحزب العدالة والتنمية السيد عبد الإله بن كيران من قيادة مشروع تشكيل الحكومة الجديدة لما بعد انتخابات 7 أكتوبر 2016، وإحلال الدكتور سعد الدين العثماني، رئيس المجلس الوطني لنفس الحزب، مكان الأول، وفكّ عقدة ما كان يسمّى آنذاك ب"البلوكاج Blocage" السياسي التي استغرقت ما يزيد على خمسة أشهر من المزايدات الحزبية والانتظارات الشعبية. وإذا كان المقام هنا غير معني بتفصيل وتشخيص هذه الفترة الضائعة من الزمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وغير مطالب بتحديد الجهات المسؤولة تاريخيا وسياسيا وأخلاقيا على تبعات هذا "البلوكاج"، فإن الذي يهمّنا الآن هو زخم ونتائج الأربعين يوما التي استغرقتها عملية تعيين العثماني رئيسا جديدا للحكومة، وتنصيب الفريق الحكومي القديم الجديد، والمصادقة النهائية على برنامج حكومة أغلبيته في الفترة ما بين شهر مارس وشهر أبريل من السنة الجارية ؛ فخلافا لفترة "البلوكاج" السياسي التي استغرقت ما يزيد على خمسة أشهر كما ذكرنا سابقا، والتي لم تكن للأسف محكومة بأي مقتضى دستوري أو تنظيمي، لم تتجاوز فترة ما بين تعيين الدكتور العثماني رئيسا بديلا للحكومة الجديدة وتعيين أعضاء حكومته المكوّنة من أغلبية ستة أحزاب يسارية ويمينية وليبرالية 19 يوما، ولم تتعدّى فترة ما بين تنصيب الحكومة الجديدة وإعداد برنامجها الحكومي الاستراتيجي للسنوات الخمس المقبلة (2017-2021) وعرض هذا البرنامج على أنظار مجلسي النواب والمستشارين 14 يوما، بل لم تزد فترة عرض البرنامج الحكومي هذا ومناقشته والمصادقة عليه داخل قبّة البرلمان مدة 7 أيام فقط، لتنتهي بذلك الدورة السياسية الأولى التي توزّعت بين الاختيار الشعبي ليوم 7 أكتوبر 2016، والتعيين الملكي ليوم 5 أبريل 2017، والتنصيب البرلماني ليوم 26 أبريل 2017، وهي دورة، رغم أهميتها الدستورية والسياسية، فهي لا تعدو أن تكون دورة "الجهاد الأصغر" بما لها وما عليها، وفاتحة "الجهاد الأكبر" التي سترهن البلاد، لمدة خمس سنوات أخرى وربما أكثر، لكل احتمالات النجاح أو الفشل. فصحيح أن كل الإجراءات القانونية قد تمّ العمل بمقتضاها، وتم احترام منطوق كل فصول الدستور التي تتحدث عن تعيين الملك لرئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي يتصدّر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعن تعيينه لأعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، وعن تقديم رئيس الحكومة، أمام مجلسي البرلمان (مجلس النواب ومجلس المستشارين)، برنامج النشاط الوطني الذي يعتزم القيام به، وعن ضرورة حصول هذا البرنامج على ثقة مجلس النواب بتصويت الأغلبية المطلقة لصالحه، وبالتالي الإعلان عن التنصيب الرسمي لهذه الحكومة ؛ غير أن مشهد التعاقد ما بين الحكومة والشعب عبر ممثليه بمجلس النواب، وممثلي هيئاته بمجلس المستشارين، لتنفيذ هذا البرنامج الوطني العام، وخاصة في ميادين السياسة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية والخارجية المنصوص عليها دستوريا بالاسم والمعنى، ظل مبهما وبعيد المنال، إما بسبب ثغرة قانونية أو خصاص تشريعي تنظيمي لحقا بمقتضيات الفصل 88 من الدستور، الذي جعل الدكتور العثماني رئيس الحكومة المعين، قبيل عرض برنامجه الحكومي، والذي تمّ إعداده والمصادقة عليه في مجلسه الحكومي بسرعة فائقة، يصرّح إعلاميا أنه غير مطالب دستوريا، على الأقل أثناء مرحلة المناقشة والتصويت والتنصيب البرلماني، بتضمين هذا البرنامج لتفاصيل خطة عمل مستقبلية بتواريخ وأرقام وتوقّعات وأثر، وأن هذا الأمر سيظل متروكا لمرحلة ما بعد المصادقة البرلمانية على الخطوط الرئيسية للبرنامج المقترح، أي بمفهوم الدكتور العثماني ومن معه، الذين عثروا عن طريق الصدفة على المخرج القانوني والسياسي لميلاد وتنصيب حكومتهم، التعاقد على النوايا الحكومية التي لبست ثوب ما يزيد عن 400 هدف وإجراء وتدبير طالت مجالات : • دعم الخيار الديمقراطي، ودولة الحق والقانون، وترسيخ الجهوية المتقدمة ؛ • تعزيز قيم النزاهة، والعمل على إصلاح الإدارة، وترسيخ قيم الحكامة الجيدة ؛ • تطوير النموذج الاقتصادي، والنهوض بالتشغيل، والتنمية المستدامة ؛ • تعزيز التنمية البشرية، والتماسك الاجتماعي، والمجالي ؛ • العمل على تعزيز الإشعاع الدولي للمغرب، وخدمة قضاياه العادلة في العالم ؛ رغم أن مسألة التعاقد، كمفهوم قانوني، وتدبير سياسي، وسلوك أخلاقي وحضاري، بعيدا عمّا قاله الدستور وما سكت عنه، لا يمكن أن تتضمّن إلا صحّة النية أولا، وحضور الإرادة، ووضوح الالتزام، وسلامة الحق والواجب، وأولوية الهدف والأثر، وآفاق النتائج ذات النفع المشترك أو العام ؛ أي أن التعاقد بين الحكومة والشعب بهذا المعنى لا يمكن أن يكون تعاقد النوايا والمبادئ والوعود والتمنيات التي تضيع فيها الحقوق والواجبات، أو تصعب فيها، في مرحلة لاحقة، المؤاخذة والمساءلة، خاصة إذا صدر ملحق الخطة الحكومية التنفيذية المفصّلة للبرنامج المقترح بعد التوقيع على العقدة التدبيرية، أي بعد التنصيب البرلماني لهذه الحكومة الجديدة، وبعد إطلاق يدها على موارد وثروات ونفقات البلاد ؛ غير أن الذي وقع قد وقع، وألا أسف مع الذي فات لأنه في الغالب لن يعود، وأنه إلى غاية اليوم الذي مازالت لم تصدر فيه حتى هذه الخطة الحكومية التنفيذية المتأخّرة الموعودة، فإننا أمام برنامج حكومي، والحق يقال، طموح جدا، لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وذكرها، بل أقام لها، بلغة عامة طبعا، أهدافا وإجراءات وتدابير بلغت بالتدقيق 434 عملا حكوميا صافيا، نال منها الشقّ الاجتماعي لوحده 44.93% من مجموع هذه الأهداف والإجراءات والتدابير (أي 195 عمل حكومي في هذا المجال)، متبوعا بالشق الاقتصادي، ثم السياسي، والإداري، والعام، بنسب تسلسلية متفاوتة. وإذا كنا في هذا المقام أيضا لا نريد أن نتوقف عند البرنامج الحكومي في عموميته ومجالات محاوره الخمسة مجتمعة، لأن ما نبتغيه في الدرجة الأولى هو موقع المسألة الاجتماعية في خريطة هذا البرنامج الطموح، وإذا كنا اختيارا لا نريد أن نتوقّف عند شكل تحرير هذا البرنامج الذي اعترته عيوب لغوية واصطلاحية ومفاهيمية، وكذا ما لحقت به من ثغرات بنائية ومنهجية وتنظيمية بسبب المدة الضيقة، ربما، للإعداد والإخراج والعرض، فإننا في المقابل نسجّل الطموح الشكلي القوي لهذا البرنامج في قضية تعاطيه مع المسألة الاجتماعية التي تقضّ مضجع كل السياسيين في العالم، حيث لم يكتفي البرنامج بتخصيص كامل محوره الرابع لهذه القضية التنموية الشائكة، بل أصرّ على مصاحبة وحضور الرؤية الاجتماعية في المحاور والجوانب المتعلقة بالشق السياسي والاقتصادي والتشريعي والبيئي، وأضاف 33 هدفا وإجراءا اجتماعيا مباشرا وجديدا داخل منظومة المحاور الثلاثة الأولى للبرنامج إلى 162 هدف وإجراء الذي تضمّنه المحور الخاص بالشق الاجتماعي، فكان الحضور الاجتماعي هذا كاسحا وسياديا إذا صحّ التعبير، جال بين المقاربة الحقوقية للمشهد الاجتماعي، وبين السياسات العمومية المندمجة لمحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء، والخدمات الفئوية الممنوحة أو الموعودة بسخاء تعبيري غير ملزم، وهذا ما بوّأ البرنامج الحكومي المذكور شكليا مرتبة برنامج الأولويات الاجتماعية الملحّة الذي لم يغفل ذكر فئات الأطفال والشباب والنساء والمسنين، ممن هم في أوضاع صعبة أو غير صعبة، كفئات اجتماعية معنية بالدرجة الأولى بهذا البرنامج الأفقي الذي يتضمّن، كما جاء في البرنامج، إصلاح وتفعيل منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي ب 42 إجراء، وتحسين وتعميم الخدمات الصحية ب 28 إجراء، وتقليص الفوارق في الدخل ومحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء الاجتماعي ب 46 إجراء، وتسريع وثيرة تنمية العالم القروي ودعم التوازن المجالي ب 6 إجراءات، ودعم حصول الفئات الفقيرة والمتوسطة على سكن لائق وتيسير الولوج للسكن ب 11 إجراء، وأخيرا العناية بالشباب وتحسين الولوج للرياضة ب 10 إجراءات، أي بمجموع 162 إجراء في هذا المحور فقط، مما قد يوحي لكل متتبّع أننا فعلا إزاء ثورة اجتماعية غير مسبوقة، ستعيد ترتيب البيت الداخلي للمجتمع، بالتوزيع العادل والمنصف للثروات، وبتحقيق مبادئ تكافؤ الفرص وقيم المناصفة والمساواة، وبمشاركة الجميع في دورة التنمية والرفاه ؛ غير أن ما سجلناه علنا من خطط وأهداف، وما انتهى إلى آذاننا من إجراءات وتدابير كمية بالدرجة الأولى كان لها مفعول السحر، لا تصلح في الواقع، رغم طولها ورتابة صياغتها، إلا بوضعها في ديباجة وثيقة التعاقد التي تفتح شهيتنا على حزمة النوايا والمبادئ العامة، أما مضمون هذه الوثيقة التعاقدية التي تشترط توضيح الأهداف والغايات، وتحديد الأطراف المتعاقدة، والالتزامات المشتركة، وآليات التدبير والعمل والتحكيم، والنتائج المنتظرة، فهي في حكم الغائب أو شبه الغائب، وسيصعب علينا في المستقبل، إلا في حدود جد ضيقة، تفعيل آلية ربط المسؤولية بالمحاسبة التي تم التنصيص عليها في الفصل الأول من الدستور. وحتى تكون قراءة المسألة الاجتماعية، الحاضرة الغائبة على ضوء البرنامج الحكومي المعتمد، استدلالية من الناحيتين الكمية والنوعية، تسعى إلى تفكيك رموز ودلالة خطاب البرنامج، واستنطاق المسكوت عنه، فإننا سنتوقف قليلا، وببعض الإيجاز، عند مضمون ثماني مجالات حيوية تعتبر أجزاء أساسية في تركيبة المشهد الاجتماعي الراهن، مستدلّين في البداية بعدم الأخذ بضبابية سياق هذا البرنامج، وبإطاره المرجعي المذكور، ومؤشراته الاقتصادية والاجتماعية بالخصوص، وبإشارة رصيد السياسات العمومية المنجزة، ومبررات التحديات القائمة في مجالات التربية والتكوين والخدمات الصحية ومحاربة الفوارق الاجتماعية والمجالية والقروية، ذلك أن ما يشكّل نقطة إجماع في البرنامج، ولدى القائمين عليه، هو أنه برنامج استمرار وتعزيز وليس برنامج قطيعة أو تعديل، استمرار أوراش الحكومة السابقة وإصلاحاتها المشهورة والمتنازع عليها، دون اللجوء حتى إلى آليات التقييم والتقويم، رغم أن من يتصفّح البرنامج، ويتوقف عند مقدمته، يتم طمأنته إلى أن هذا العمل المقترح هو وليد لحظة تأمل واستخلاص، ودراسة الرصيد، وجواب التحديات القائمة، في حين أن الاستفادة من تشخيص رصيد السياسات العمومية المنجزة أو التي هي طور الإنجاز، وعرض الوجه الجميل من المؤشرات المتضاربة القائمة، وإخفاء عناصر دلالية أخرى تطرقت إليها تقارير هيئات وطنية ودولية معتمدة، هي من الأمور التي تقدّم الدليل بأن البرنامج الحكومي المذكور لم تتم صياغته، ولم يتم إعداده وتركيبه وإخراجه، وفق منهجية علمية وسياسية تربط بين رصيد الكائن وتحديات ومتطلبات الممكن. وهذه المجالات الحيوية الثمانية المذكورة آنفا هي كالتالي : 1/ التنمية الاجتماعية ومحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء: من أغرب ما جادت به قريحة حكومة العثماني، بعد نيل شرف التنصيب البرلماني، إطلاق وزارة الداخلية لطلبات عروض من أجل الاستعانة بخبراء لتحديد الفئات الفقيرة التي تستحق الدعم الذي ستقدمه الحكومة عن طريق إصلاح صندوق المقاصة، أي أن هذه الأخيرة التي صادق مجلس النواب على برنامجها الحكومي، والتي عرضت في اليوم الموالي مشروع قانون ماليتها لسنة 2017 على أنظار البرلمان، ما زالت تبحث عمّن يحدّد لها طبيعة وحجم الفئات الفقيرة التي تستحق الدعم المباشر بعد رفع يدها قريبا عن دعم المواد الغذائية الاستهلاكية المتبقية، كأن السياسات العمومية السابقة كانت تعمل وتصرف المال العام بدون تحديد الفئات المستهدفة، وكأن مؤسسات عمومية وبرامج وطنية من حجم التعاون الوطني، والمندوبية السامية للتخطيط، ووكالة التنمية الاجتماعية، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والمساعدة الطبية (راميدRAMED )، وصندوق دعم التماسك الاجتماعي، وغيرها، لم تكن مبنية إحصائيا، على مستوى أوراش تشخيص ومحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء، على أساسات الاستهداف والأثر الاجتماعي. ومن جهة أخرى فإن قضايا إنعاش التنمية الاجتماعية بشكل عام، وقضايا محاربة الفقر والهشاشة بشكل خاص التي ربطها البرنامج الحكومي عضويا بنوايا تقليص الفوارق في الدخل، والتي طالت مجالات تعزيز التضامن، ودعم الفئات الهشة والفقيرة، والفئات ذات الاحتياجات الخاصة، وتقوية أنظمة الرعاية الاجتماعية، وتعزيز أنشطة الاقتصاد الاجتماعي، وتمويل السياسات الهادفة إلى محاربة الفقر والهشاشة والإقصاء، بمجموع أهداف وتدابير وإجراءات بلغت 46 عملا حكوميا في هذا الباب، لم تزد القارئ والمتتبع إلا حيرة في الفهم والاستيعاب، وتشويش في الإدراك والاقتناع، لأن تقليص الفوارق في الدخل، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، أكبر في الشكل والمعنى من مجموع هذه الإجراءات والتدابير المحدودة ؛ فهل ستستطيع حكومة العثماني أن تكون لها الجرأة السياسية في تقليص الفوارق في الدخل بين الأغنياء والفقراء، وتمحي الصورة القاتمة التي وردت في إحدى ندوات البنك الإفريقي للتنمية التي أشارت إلى أن 20% من الأسر المغربية الأكثر ثراء تنفق 8.8 مرات ما تنفقه 20% من الأسر الفقيرة ؟ وهل بمقدور هذه الحكومة الجديدة أن تسعى فعلا إلى إعلان سياسة اقتسام الثروة الوطنية التي ستقلّص فعلا هذه الفوارق، أو على الأقل تعمل على تحريك سلّم الأجور تصاعديا، والدفع بالحد الأدنى للأجر، وتيسير ولوج سوق الشغل، وتقليص الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والمهنية بين المرأة والرجل، وغيرها من التدابير والإجراءات العملية المفضية فعلا إلى تقليص هذه الفوارق بشكل مباشر أو غير مباشر ؟ إن إعادة فتح ورش محاربة الفقر والهشاشة والإقصاء التي استنفدت من تاريخ تنمية المغرب 58 سنة من العمل الاجتماعي والتجارب المؤسساتية الميدانية، بدءا من سنة 1957، تاريخ تأسيس مؤسسة التعاون الوطني، وانتهاء بسنة 2014، تاريخ إطلاق وتفعيل صندوق دعم التماسك الاجتماعي، ومرورا بمحطات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية والمساعدة الطبية (راميد) وغيرها، يقتضي من البرنامج الحكومي أن يعيد النظر في الجهاز المفاهيمي للورش المذكور، وفي آليات الاشتغال والتدبير، وفي خصائص وشروط الاستهداف والأثر، لأننا، شئنا أم أبينا، وفي ظل تعقيدات واختيارات وتبعات النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الدولي والإقليمي والمحلي، لن نستطيع أن نحارب الفقر والهشاشة والإقصاء بمنطق المحاربة أو القضاء التام، وأن أقصى ما في مقدورنا أمام هذا الوضع هو التخفيف والتقليص، أضف إلى ذلك أن أشكالا جديدة من الفقر والهشاشة بدأت تطفو على سطح المجتمع في هذا العصر الرقمي الرهيب، وعصر تغيّرات المناخ وثقب الأوزون وظهور أجيال جديدة من الفيروسات والأمراض المستعصية، وأن على حكومة العثماني، التي عينها على خمس السنوات المقبلة وربما الخمس سنوات التي ستليها، أن تتهيأ من الآن، ليس فقط لتقليص الفوارق في الدخل أو الحد من الفقر النقدي الظاهر، ولكن لمواجهة أشكال مركّبة ومعقّدة وجديدة من الفقر والهشاشة قد لا تنفع معها حزمة الإجراءات والتدابير الموعودة في أفق 2021. لقد راهنت حكومة العثماني على مشروع التنمية البشرية والتماسك الاجتماعي بتوجيه اهتمامها غالبا إلى فئة واحدة في المجتمع، وهي رؤية قاصرة في تدبير الحكم والإدارة، لأن بإمكان الفئات الأخرى المنسية أو المقصية أن تعطّل دورة الإدارة والاقتصاد وفرص إنتاج الثروة، وأن تشوّش على المسار التنموي أحادي الجانب، وأن تستهلك الزمن السياسي في القضايا اليومية العقيمة، وبعبارة أخرى أن تسدّ منافذ تحويل الدعم والاعتبار إلى الفئة الفقيرة، ما لم تعمل الحكومة على حفظ التوازن المجتمعي، وتصون كرامة وعيش كل فئات المجتمع، فلا أحد ضد إصلاح عقلاني لصندوق المقاصة أو أنظمة التقاعد وما شابهها، لكن أن يتم الإصلاح على حساب المنطقة الواقعة بين عيش الفقراء وعيش والأغنياء، فهذا ما لا يمكن تسميته بالتماسك الاجتماعي والتضامن الوطني. لقد وعدت حكومة العثماني، في إطار ورش إنعاش التنمية الاجتماعية ومحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء، ومن خلال تطوير نجاعة التقائية السياسات العمومية الاجتماعية القطاعية، بتقوية وتعزيز أنظمة الرعاية الاجتماعية والدعم الاجتماعي للفئات الفقيرة والمحرومة والفئات ذات الاحتياجات الخاصة، وإنشاء نظام فعّال للرصد واليقظة الاجتماعية، وإطلاق مشروع النموذج المغربي للوساطة الأسرية والاجتماعية، وهي تمنّيات تبقى بدون مصداقية وبدون جدوى ما لم يتم إعادة هيكلة هذه الأوراش الاجتماعية في إطار منظومة واحدة للرعاية الاجتماعية، بفلسفة ومنهجية واحدة، وبسياسات قطاعية مندمجة، وبإشراف إداري واجتماعي قطبي، وبتمويل عمومي قار ومنتظم، وبجرد إحصائي كمي ونوعي ورقمي متناغم، وبآليات تدبيرية عمومية ومدنية متكاملة ؛ فبرنامج المساعدة الطبية (راميد ) الذي يستهدف أكثر من 8 مليون مواطن فقير يشتغل بمعزل عن البرامج الاجتماعية المشابهة الأخرى، وورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مازال ورشا "سياديا" لا يريد له من منافس، وصندوق التكافل العائلي الذي تم ابتكاره لفائدة المطلقات المعوزات وأبنائهن ولد ميتا وما زال مقيّدا بسجلات الأحياء، وصندوق الدعم المالي المباشر للأرامل في وضعية هشة المتكفلات بأطفالهن اليتامى نشأ في سياق سياسي وحزبي ضيق، وقانون مؤسسات الرعاية الاجتماعية الخاص بالتكفل بالغير ما يكاد يبدأ في دورة تعديلية إضافية حتى يدخل في دورة تعديلية جديدة، وقد انتهى به المطاف في آخر أيام حكومة بن كيران إلى إعلان حالة النسخ التام والإحالة على برلمان 7 أكتوبر 2016، وبرنامج "تيسير" للتحويلات المالية المشروطة، في إطار الحد من الانقطاع المدرسي، لا يعمل هو الآخر إلا في إطار منظومة التربية والتكوين، وبرامج اجتماعية أخرى يصعب جردها وتفصيلها في هذا المقام، وكلها برامج ومبادرات وتمويلات عمومية قطاعية تعمل داخل جزر إدارية معزولة بشكل منفرد، ومع نفس الفئات تقريبا، وهذا ما يفسّر صعوبة إحداث التغيير وتحسين المؤشرات التي لا يمكن تبريرها فقط ودوما بحالة النمو الديمغرافي المطّرد، بل في المقام الأول بعدم التقائية وتناغم السياسات العمومية القائمة، وتجاذبات مكونات الفريق الحكومي المتنافر. ويبقى الأمل في مشروع نظام الرصد واليقظة الاجتماعية الذي بشّرت به حكومة العثماني في برنامجها الحكومي الجديد الذي سيحدّد لها في المستقبل مجمل المعطيات والتحوّلات والظواهر الكفيلة بتيسير سبل التدخّل والمواجهة، غير أنها مطالبة في بداية تدبيرها الحكومي هذا بإحداث مؤسسة اجتماعية وطنية مستقلة للتفكير والرصد واليقظة واقتراح البدائل، تناط بها مهام ومهن الهندسة الاجتماعية، وفي حالة تعذّر ذلك لأسباب سياسية أو مالية أو تقنية أو غيرها، يمكن اقتراح إضافة هذا الاختصاص إلى آليات المهام الحالية للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. 2/ المساواة والمناصفة والحماية القانونية والاجتماعية: لقد فعلت حكومة العثماني خيرا عندما قطعت مع سياسة إرضاء ومجاملة المرأة والفعاليات الجمعوية النسائية بتخصيص قطاع وزاري باسمها، وبتدبيج فقرات وأقسام ببرنامجها الحكومي لادّعاء النهوض بوضعيتها، حيث عرفت تركيبة الحكومة الجديدة تغيير تسمية إحدى الوزارات من وزارة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية إلى وزارة الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية، كما عرف البرنامج الحكومي المذكور حضور قويا للمرأة في محاوره الخمسة، ليس كموضوع وكمطلب مستقلّ ومعزول، بل كشريك في كل الأوراش المقترحة ؛ وأصبح التعاطي مع هذا الموضوع الكلاسيكي المناسباتي، الذي لا يخلو من استفزاز وانتقاص للنساء، يحمل نبرة حداثية جديدة، وتوجّها فكريا وسياسيا واجتماعيا شافيا ومقنعا، وبدا الحديث الآن محصورا في قضايا المساواة والمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز، والحماية القانونية والدمقرطة، والتمثيلية النسائية السياسية ومواقع القرار، والتمكين الاقتصادي والاجتماعي وغيرها، وأصبح مشروع قانون هيئة المناصفة ومحاربة كل أشكال التمييز، بعلاّته الكثيرة، على أبواب المصادقة والتنزيل، احتراما لمقتضيات دستور 2011 ولصكوك المواثيق الدولية المعتمدة في الشأن ؛ غير أن حكومة العثماني، في باب تمنياتها أيضا، والتي وعدت بإطلاق النسخة الثانية من خطة "إكرام"، وهي للإشارة خطة حكومية للمساواة بثماني مجالات أطلقتها الحكومة السابقة في مرحلة 2012/2016، يبدو أنها لم تستوعب مبدأ تطور الأشياء، وأن فترة 2012-2016 قد لا تكون شبيهة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بفترة 2017-2021، وأنها قبل الحديث عن بشرى تنزيل النسخة الثانية لهذه الخطة، التي كانت، ولو نظريا، مثالية في زمانها، وطالت كل المجالات الحياتية للمرأة والمجتمع، فهي مطالبة بتقييم هذه التجربة، وإطلاع الرأي العام على نتائج حصيلتها، ومواقع نجاحها وفشلها وإكراهاتها، ونسب استهدافها وأثرها، لأن من يطّلع على هذه الخطة المذكورة يدرك أنها بمثابة مشروع حياة للمرأة المغربية، بمأسسة مبادئ الإنصاف والمساواة والمناصفة، ومكافحة كل أشكال التمييز والعنف، وتأهيل منظومة التربية والتكوين، وتعزيز الولوج المنصف والمتساوي للخدمات الصحية، وتطوير البنيات التحتية الأساسية، والتمكين الاجتماعي والاقتصادي، والولوج العادل لمناصب اتخاذ القرار، وأخيرا تحقيق تكافؤ الفرص في ولوج سوق الشغل، لكن هل فعلا استطاعت الحكومة السابقة التي اعتمدت هذه الخطة، والتي كانت تروم دعم المساواة والمناصفة بين النساء والرجال ب 24 هدف و156 إجراء، وبتمويل مالي من الاتحاد الأوروبي، أن تتحدث عن حصيلة مأسسة المساواة والمناصفة، وعن حجم تخفيض أشكال التمييز والعنف ضد النساء، وعن الإمكانيات التي أصبحت متاحة للمرأة لولوج الخدمات الصحية، وخدمات التربية والتكوين، وسوق الشغل، ومناصب اتخاذ القرار الإداري والسياسي والاقتصادي، والبنيات التحتية الأساسية الكفيلة بتحسين ظروف عيش النساء والفتيات، وأخيرا عن اختيارات ونتائج التمكين الاجتماعي والاقتصادي للمرأة ؟ إننا نظن أن الجواب الدقيق عن هذه الأسئلة الحيوية والمصيرية هو الذي سيحدّد مآل الخطة، وهل سنعتمد نسخة ثانية منها فعلا بحثا عن مزيد من التطوّر والتعزيز، أم يجب أن نعيد النظر كلّية في فلسفة وسياسة وهيكلة هذه الخطة، وآليات الاشتغال مع إمكانيات طموح البلاد في هذا الباب. وإلى جانب مضمون هذه الخطة، وتصورات أشكال حاضرها ومستقبلها في سياق تنزيل مبادئ المساواة والمناصفة ومحاربة كل أشكال التمييز على المستويين المؤسساتي والشعبي، وفي إطار اشتغالنا على محتويات البرنامج الحكومي المذكور، خاصة في جانبه الاجتماعي، لابد من الوقوف عند قضايا الحماية القانونية والاجتماعية المتاحة، وقضايا أوضاع ضحايا العنف أو الإقصاء، ومعها إجراءات الاستقبال والتكفل التي اقترحها البرنامج الحكومي المذكور، ليس فقط بالنسبة للنساء ضحايا العنف والتمييز، بل أيضا بالنسبة للأطفال ضحايا العنف والاستغلال، والأطفال في وضعية صعبة أو في نزاع مع القانون، والأشخاص في وضعية إعاقة، والمهاجرين الأجانب وطالبي اللجوء وغيرهم ؛ فهذه الفئات الاجتماعية المتضرّرة يعدها البرنامج الحكومي، بدرجات متفاوتة، بإطلاق سياسة وطنية لمناهضة العنف، وبتجويد ظروف الاستقبال والحماية والتكفل، وبتقوية برنامج الإدماج الاقتصادي والاجتماعي، وبتطوير الشراكة مع جمعيات المجتمع المدني العاملة في مجال حماية الفئات الهشة، لكن هذا البرنامج الحكومي الطموح لا يجيب على السؤال المحوري التالي : كيف ؟ وهل سيتحمّل مسؤوليته الكاملة في حماية هذه الفئات، ليس بالتمويل العمومي فقط وترك جمعيات المجتمع المدني تعمل وحيدة في الميدان، بل بالمأسسة، وإقامة الترسانة القانونية، والبنيات التحية واللوجستيكية، وبرامج الهندسة والمساعدة الاجتماعية، والموارد البشرية الكافية والمختصة ؛ فإذا كانت حكومة العثماني تعوّل على نسخ التجارب السابقة لتنزيل برنامجها الحمائي هذا، فكثير من هذه التجارب أصبحت في حكم الفاشلة أو منتهية الصلاحية، لأنها لم تلتقي في مسارها المهني مع مقتضيات الاستهداف والأثر الاجتماعي ؛ كما أن مشاريع اجتماعية كثيرة، سواء في إطار تحويلات صندوق دعم التماسك الاجتماعي أو المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أو تمويلات بعض القطاعات الوزارية والمؤسساتية هي، في جزء منها، مجرد هدر للمال العام، لأن حلقاتها الإدارية والتدبيرية تكون دوما منقوصة، إما بضعف التمويل، أو غياب أدلة المساطر، أو غياب المواكبة والمراقبة والتقييم، أو بمحاباة جمعيات الأشباح والجمعيات العائلية والجمعيات المحسوبة على بعض الأحزاب ؛ ويكفي القيام بعملية حسابية بسيطة لتمويلات صندوق دعم التماسك الاجتماعي، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وبعض القطاعات الحكومية على مستوى السنوات الثلاث الأخيرة مثلا لطرح الأسئلة التالية : ما هو نصيب هذه التمويلات العمومية الهائلة في مؤشر التخفيف من حدة الفقر والهشاشة أو الإقصاء في المناطق ولدى الفئات المستهدفة ؟ وما هو دور هذه التمويلات العمومية في المساهمة في محاربة الهدر المدرسي، وتحسين مؤشر الصحة العامة، وإنعاش أوراش الأنشطة المدرة للدخل، وتشجيع تمدرس وتكوين الأشخاص في وضعية إعاقة، وتأهيل النساء في وضعية صعبة، وإنقاذ الأطفال في وضعية خطر، وغير ذلك ؟ إن حكومة العثماني الجديدة مطالبة اجتماعيا بالإبداع والابتكار والإنتاج، للاستمرار في قيادة التجارب الناجحة، والقطع مع التجارب الأخرى التي لا تعمل بمنطق التعاقد ودفاتر التحمّلات والغيرة المطلقة على المصلحة العامة للبلاد ؛ فمراكز ومؤسسات التكفل بالغير، وفضاءات الاستماع والتوجيه، ووحدات المصالح الاجتماعية بالمرافق العمومية وغيرها، مدعوة لإحداث ثورة هادئة في تدبيرها، لإعادة ترتيب الأولويات، وإقرار جودة الخدمات، والعمل بشروط الاستهداف والأثر الاجتماعي، وبالتالي تحقيق معادلة الحماية القانونية والمؤسساتية والاجتماعية للفئات المعنية، وهذا ما لم يذكره بوضوح برنامج حكومة العثماني رغم إعلانه الصريح عن اعتماد وتفعيل 195 هدف وإجراء في هذا الباب.