سلسلة مقالات يومية يسلط من خلالها الدكتور الطيب بوتبقالت الأضواء على صفحات مجيدة من تاريخ المغرب المعاصر؛ ويتعلق الأمر هنا بالأصداء العالمية التي خلفتها حرب الريف (1921-1926) عبر ردود الفعل المتضاربة والمواقف المتناقضة التي سجلتها الصحافة الدولية إبان هذه الفترة العصيبة التي تعرضت فيها حرية وكرامة المغاربة للانتهاك السافر والإهانة النكراء. لقد برهن أبناء الريف عبر انتفاضتهم البطولية في مواجهة العدوان الاستعماري الغاشم عن تشبثهم الدائم بمقومات الهوية الثقافية المغربية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، وعن فخرهم واعتزازهم بالانتماء الحضاري إلى مغرب مستقل ذي سيادة غير قابلة للمساومة. إن أبناء الريف، بشهادة كل مكونات الرأي العام الدولي في هذه الفترة التاريخية ما بين الحربين، أعطوا دليلا قاطعا من خلال دفاعهم المستميت عن الحرية والكرامة أن المغرب بلد يسكنه شعب أصيل لا يرضخ أبدا للذل والهوان مهما كلفه ذلك من ثمن. - السياق التاريخي للثورة الريفية الريف منطقة جبلية بشمال المغرب دخلت التاريخ العالمي بفضل كفاح أبنائها المستميت ضد الاستعمار الأوربي غداة الحرب العالمية الأولى. وتجدر الإشارة إلى أن الريفيين كانوا دائما على مر العصور بالمرصاد للأطماع الأجنبية بهذه المنطقة المطلة على البحر الأبيض المتوسط والمتاخمة لمضيق جبل طارق الإستراتيجي. لقد جند الريفيون أنفسهم دفاعا عن الحرية والاستقلال منذ انحطاط الدولة المغربية وضعف مكانتها الإقليمية سياسيا وعسكريا، وبالتحديد منذ أن تم القضاء نهائيا على النفوذ المغربي بالأندلس بعد سقوط غرناطة سنة 1492، وهي السنة نفسها التي صادفت اكتشاف كريستوف كولومبس للقارة الأمريكية، تلاها - مباشرة تقريبا- احتلال مدينة مليلية من طرف الإسبان، وكان ذلك عام 1497. كما أنها الحقبة التاريخية التي شهدت تعبئة متصاعدة للرأي العام الإسباني على خلفية انتقامية مفعمة بروح التوسع الاستعماري الذي كانت تغذيه الإيديولوجية الصليبية المتطرفة بزعامة الملكة إيزابيلا الأولى الملقبة بالكاثوليكية (1451-1504). ففي هذا الزمن التاريخي، وتحت تأثير عوامل شتى متداخلة، تبلور فكر غربي نهضوي مادي جديد، اشتدت معه صلابة عود المركزية الأوربية التي أصبحت تنادى بتصدير النمط الحضاري والفكري الغربي عن طريق التوغل المسلح في مختلف بقاع العالم، معتبرة توسعها رسالة حضارية ملقاة على عاتقها، ورافعة شعارا دعائيا كان يشدد على ضرورة خضوع شعوب سميت «البدائية» لإرادة الإنسان الأبيض بخلفيته العنصرية الصارخة. وهكذا، بعد انهيار الدولة الموحدية (1130- 1269م) وفشل الدولة المرينية (1269-1465م) في إعادة البناء، ورغم عدة محاولات جادة قام بها بعض ملوك المغرب من أجل استعادة مجد البلاد والحفاظ على سمعتها الدولية، فإن ذلك لم يكن كافيا لكبح جماح المد الاستعماري الأوروبي المتصاعد. تاريخيا، كان المغرب دائما محط أطماع المتكالبين على مؤهلاته وخيراته الطبيعية، ولاسيما المنطقة الشمالية منه. وقد أدى تضارب المصالح بين الأطراف المتنافسة إلى احتدام تكالبهم على البلاد ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ جرت بين المغاربة الريفيين والإسبان عدة مجابهات مسلحة في هذه المنطقة، لعل أبرزها تلك الأحداث الدامية التي دارت أطوارها خلال سنوات 60/1859 و1894 و1909 و1912. ويستفاد من ذلك أن الانتفاضة الريفية ضد المستعمر تميزت ببعدها التاريخي وباستمراريتها النضالية. ومع بداية القرن العشرين بلغ تدهور السيادة المغربية درجة عالية من التفكك لم يسبق لها مثيل على الإطلاق، إذ تعرضت البلاد لتدخل استعماري فرنسي وإسباني على جبهات متعددة. وكان من النتائج المباشرة لهذا الوضع الجديد انهيار شبه تام لمؤسسات الدولة بمختلف مقوماتها، وهو السبب الرئيسي الذي جعل كافة القبائل المغربية تقف صامدة أمام هذه الهجمة الاستعمارية الشرسة. وفي هذا السياق سجلت قبائل الريف في عشرينيات القرن الماضي انتصارات باهرة على القوات الغازية، إلى درجة أصبحت معها المقاومة الريفية قاب قوسين أو أدنى من كسر شوكة المحتل وطرده نهائيا خارج البلاد، لكن تحالفات القوى الاستعمارية وضعف تنظيم مقاومة القبائل المغربية وهشاشة تماسكها حالت دون تحقيق ذلك الهدف. وفي هذا السياق بالذات لم تكن معركة أنوال التي جرت في21 يوليو من سنة 1921 سوى حلقة من حلقات متصلة من جهاد الريفيين، ذلك الجهاد الذي أصبح عنصر هوية ساعدت الظروف والعوامل التاريخية على بلورته، ولم يكن مجرد إحساس عابر بالانتماء إلى الوطن، أو مجرد تعبير عن روح قتالية أملتها ظرفية معينة. لقد سجلت معركة أنوال نمطا جديدا وطفرة نوعية من الكفاح، أدت إلى ظهور أسلوب متطور من الفكر السياسي والإستراتيجي، أصبح في ما بعد مرجعا معتمدا لدى جميع الحركات التحررية في العالم. ومما لا شك فيه أن شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي، المعروف اختصارا تحت اسم عبد الكريم في الإعلام الدولي، كان لها الدور الحاسم والفعال في قيادة الثورة الريفية، وبالتالي في التعريف بالقضية المغربية آنذاك على المسرح العالمي. رفض محمد بن عبد الكريم الخطابي كل مساومة، وترك جانبا كل الاعتبارات والحسابات التي لا تخدم هدف الاستقلال الشامل والحفاظ على الكرامة. كانت معركة أنوال بمثابة البوابة الكبيرة التي فتحها أبناء الريف، معلنين بذلك دخولهم الانتصاري إلى التاريخ العالمي: إن عمق هذه المعركة لا يقل أهمية ولا وزنا بالمقارنة مع معارك مشهورة عالميا، كمعركة وادي المخازن والزلاقة والقادسية وواترلو وفردان.. كما أن حرب الريف بصفة عامة، وبالنظر إلى الفترة التاريخية التي دارت فيها، لا تقل بعدا ولا أهمية بالمقارنة مع حروب عرفها العالم في ما بعد، كالحرب الكورية والحرب الفيتنامية والحرب الخليجية الأولى والثانية. ولا أدل على ذلك من كون أنظار الرأي العام العالمي أصبحت انطلاقا من سنة 1921 بالذات تتحول إلى منطقة الريف بالمغرب لمعرفة سر هذه القفزة النوعية التي سجلتها المقاومة في ثنايا جبال الريف. لقد تجندت كل وسائل الإعلام العالمية المعروفة آنذاك من أجل رصد عوامل وحظوظ نجاح الثورة الريفية واحتمالات انتشارها، خاصة بعد قرار القادة الريفيين الإعلان عن قيام جمهورية الريف وتوجيه وثيقة بهذا الصدد إلى دول العالم بتاريخ فاتح يوليو 1923 من أجدير. وبغض النظر عن المدلول السياسي المطلق أو النسبي لجمهورية الريف المعلنة، فالذي استرعى اهتمام الرأي العام الدولي وأثار دهشته هو كيف استطاعت حفنة من المقاومين المغاربة التصدي لدولة أوروبية مثل إسبانيا، مكبدة إياها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وكيف اكتسبوا جرأة الاستعداد لمواجهة الوجود الفرنسي في إفريقيا الشمالية قاطبة، وأصبحوا ينادون علانية بمناهضة الاستعمار في كل مكان لفائدة تحرير الشعوب من ربقة الاحتلال. هذا في الوقت الذي كانت فرنسا قوة عالمية عظمى تحتل الصدارة ولها جيش نظامي عرمرم ومزود بأسلحة فتاكة متطورة، إضافة إلى إحساس هذه الدولة الأوربية بنشوة الانتصار في الحرب العالمية الأولى التي كانت تسمى حينها بالحرب الكبرى... إنها حقا انتفاضة تاريخية جريئة جعلت أعداء المقاومة الريفية ينظرون إليها بنوع من الاحترام الممزوج بالارتباك والدهشة والإعجاب. * أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة