تصنف المقاومة الريفية ضمن أكثر المقاومات تهديداﹰ للوجود الاستعماري في شمال إفريقيا، موازاة مع ازدياد النفوذ الإسباني في شمال المغرب واتباعه سياسة قنص الأراضي التي تعد أهم مصدر كسب بالنسبة لمجتمع الريف. هذا علاوة على إثقال كاهل الفلاح الريفي بالضرائب الثقيلة واستغلال ثرواته الزراعية، وبالتالي تدمير قاعدته الاقتصادية. ويحدد الأستاذ "عبد الملك خلف التميمي" هذه القاعدة بحوالي % 95 من مجموع السكان المغاربة. وهكذا "فالريف يعني اقتصاد المواد الغذائية، واستغلال هذا الاقتصاد بشكل متطرف لصالح القوى الاستعمارية يؤدي إلى إفقار الفلاحين المنتجين ويجعلهم مؤهلين لتلبية نداء المقاومة". ويمكننا القول إن تحرك الريف "رد فعل دفاعي بعد أن أدت السياسة الاستعمارية إلى تدمير القوى الإنتاجية المحلية وتخريب العلاقات الاجتماعية التقليدية". من هنا جاءت واقعة أنوال 1921م، إذ استطاع الريفيون بقيادة "محمد بن عبد الكريم الخطابي" تحقيق انتصار ساحق ضد الجيش الإسباني أدت إلى شل معظم تحركاته، ما اضطره إلى التقهقر غرباﹰ في اتجاه "مليلْية"؛ في حين اعتبرت (المعركة) في البقاع العربية "أكبر هزيمة ألحقها جيش عربي بجيش أوربي في التاريخ الحديث". وقد شاع صيت هذه المقاومة في نفوس الثوار المتاخمين في أصقاع الأطلس وفي الجنوب، كاشفة عورة المستعمر، وتأكد اقتناعهم بأن بقاء هذا الأخير غير دائم إلى الأبد. كما ألهب هذا النجاح كذلك قريحة الشعراء في سبك إبداعاتهم وإبداء مواقفهم وأرائهم نحوها. ويشير الأستاذ محمد أديب السلاوي في مؤلفه "الشعر المغربي مقاربة تاريخية 1830-1960" إلى ضياع عدد كبير من القصائد التي حيكت حول المقاومة الريفية. ومع ذلك فقد وصلتنا بعض النتف الشعرية التي واكبت أطوار المقاومة الريفية بالشمال، منها قصيدة الشاعر "أبو بكر بناني" التي تفتخر بشخصية "محمد بن عبد الكريم الخطابي": فخرنا عبد الكريم بن الكرام واسألوا الله انتصار المسلمين يا بني المغرب هيا للقتال واستعدوا للوغى قبل النزال أنتم والله شجعان الرجال واسألوا الله انتصار المسلمين ويذهب أبو بكر بناني بعيدا، داعيا بحماس جل المغاربة إلى الانخراط في مقاومة المستعمر شمالاً وجنوباً: يا بني المغرب هبوا هبة واضربوا وجه فرنسا ضربة ذكرها يبقى عليها سبة واسألوا الله انتصار المسلمين كما نجد نشيدا آخر يتغنى بأمجاد الريف بعد الانتصار في معركة "أنوال" أورده الأستاذ "محمد حسن الوزاني" ضمن مؤلفه "مذكرات حياة وجهاد". ورغم أنه ينسب للشاعر الفلسطيني "إبراهيم طوقان"، إلا أن الريفيين جعلوا منه نشيدا رسميا: كلنا نطرب لانتصار الأبي كلنا يعجب بالفتى المغربي أين جيش العدا إذ دعا للجهاد وبعد الانتصار الذي حققه "الخطابي" في "أنْوال" كرس جهوده في لم شمل القبائل الريفية وفق تنظيم دقيق موحد يشرف عليه بنفسه. وقد تأتى له ذلك في مؤتمر استدعى إليه ممثلي القبائل الريفية، إذ انضمت إلى صفوفه قبائل غرب الريف وقبائل جنوب الريف. وبهذا الانضمام اكتمل اتحاد القبائل الريفية، وكان من ثماره أن تمت السيطرة على كل الريف، باستثناء مدن العرائش وسبته ومليلْية وتطْوان. ومع اتساع دائرة المقاومة الريفية في شمال المغرب واقترابها من التخوم الفرنسية، تزايدت مخاوف الفرنسيين أمام النجاحات التي حققتها هذه المقاومة، إذ بدا واضحا تقدمها في اتجاه ممر تازة الشرقي، وهذا يعني انبثاق تهديدات صريحة للمصالح الحيوية الفرنسية. فبعد حل هذه الأخيرة نزاعها مع إسبانيا حول منطقة طنجة الدولية التي طالبت بها الحكومة الإسبانية، بدا في الأفق أن تحالفا وشيكا ينسجه الإخوة الأعداء للإطاحة بثورة الريف، ما دفع الريفيين إلى شن حرب أخرى ضد فرنسا. ويحيلنا الشاعر "محمد الناصري بن اليمن" على أول هزيمة تتلقاها القوات الفرنسية في شمال المغرب: أنظروا لما تلقى فرنسا منه قصدت بشامخ مجده استخفافا جاءت بمعظم جيشها وعتادها فاستنزفته رجاله استنزافا وأدال دولتها بفرط دهائه وتمزقت أحزابها أطرافا حتى أثار بمجلسها ثورة شعراء ترجو الهدنة واستعطافا ورغم المقاومة الباسلة التي أبداها الريفيون في مواجهتهم للجيوش الفرنسية، "يمكن القول إنه أصبح من الصعب على حركة المقاومة، بعد التدخل الفعلي الفرنسي في الحرب، مواصلة كفاحها بالفعالية نفسها ضد دولتين استعماريتين، خاصة أن فرنسا جندت كل طاقاتها العسكرية والدبلوماسية". ورغم انتكاس هذه المقاومة فقد ذاع باعها بعيدا في المشرق العربي، بل وانتقلت كعدوى إلى باقي الأقطار العالمية الأخرى، وأثر نجاحها أيضا على عدد غير يسير من الكتاب المشارقة المرموقين من طينة معروف الرصافي، وعلي محمود طه، ومحمد علي اليعقوبي، وابراهيم طوقان، الذين أبدوا إعجابهم بشخص الخطابي باعتباره شخصيةً فذة قدحت بها كف السماء: في المغرب الأقصى فتى من نورها قدحت به كف السماء زنادا سلته سيفا كي يحرر قومه ويزيل عن أوطانه استعبادا لقد ساهم الشاعر المغربي مساهمة حرة وعفوية في دينامكية المقاومة، وتجسيدها ضمن نسق تعبيري دعائي منتصر للقيم الوطنية والكونية. فلا يكاد يمر يوم واحد دون أن يعضض الشعر الأعمدة الأولى للصحف الوطنية. من هنا نخلص إلى كون شعراء النصف الأول من القرن 20م قد تقاطعوا بشكل لائق مع هموم المجتمع المغربي عامة والريفي خاصة، وذلك بلعبهم دور المؤطر وتشكيلهم لليمس ثقافي قوي. * كاتب من المغرب