نود في هذا النص أن نسهم في إغناء النقاش حول موضوع قرار تعويم سعر الدرهم وانعكاساته وكذا تسليط الضوء على المخاطر التي تواكبه، بعد النقاش الدائر حول هذا الموضوع وتصريح السيد الوزير الناطق الرسمي باسم الحكومة. ولأن هذا الموضوع بالضبط كمثيله المتعلق بنظام المقاصة لا يقبل أي مجازفة، بحيث يتوجب فتح نقاش عمومي موسع؛ لأن أي تسرع في وتيرة التحرير سيؤدي إلى الإخلال بالعقد الاجتماعي الذي يربط المغاربة بالدولة وإلى احتجاجات لن تحمد عقباها. ذلك لأن التعويم في حالة انهيار سعر الدرهم وعدم قدرة بلادنا على إنقاذ قيمته بتوفر مخزون كاف جدا من العملة الصعبة أو عدم وفاء صندوق النقد الدولي بالتزاماته اتجاه المغرب فإن اقتصادنا سيتعرض بدون شك لكارثة اقتصادية واجتماعية. لهذا، يقال إن خطأ الاقتصادي يكون خطيرا مقارنة مع خطأ الطبيب؛ لأنه يعني مجتمعا بأكمله، وليس شخصا واحدا. يمكن أن نتساءل: ما دخل صندوق النقد الدولي في موضوع التعويم؟ بكل بساطة، لأن تعويم الدرهم أو تحريره، كجميع الأثمنة الأخرى، حسب قانون العرض والطلب، كان منذ خمس عشرة سنة خلت توصية من هذه المؤسسة الدولية كمثيلاتها المتعلقة بإصلاح نظام الدعم أو توصيات إصلاحات أخرى أقل أهمية. لقد كان هذا الصندوق ذو ''الحجم المتواضع'' يتحين الفرصة منذ مدة لفرض توصيته هاته، طبقا لمضمون المادة الرابعة من قانونه الأساسي والتي تحتم على الدول المنخرطة الالتزام بها وقبول مهام دعمه التقنية سنويا والتي تحتضنها وزارات المالية للبلدان المعنية. ولهذا، نلاحظ، من جهة أخرى، أن التقارير الاقتصادية السنوية لصندوق النقد الدولي المتعلقة بالمغرب مثلا تظل جد إيجابية، ويطبعها التفاؤل المفرط مقارنة مع تقديرات الخبراء الاقتصاديين المغاربة الوطنيين والجادين؛ لأن إملاءاته تنفذ حرفيا. أما تجربة التايلاند، والتي يسوقها البعض على أنها تجربة ناجحة، في تعويم البهت التايلاندي، من أجل إقناع ذوي القرار السياسي والاقتصادي في المغرب وحثهم على المضي نحو تعويم أو تحرير سعر صرف الدرهم فإنها تجربة لا يمكن أن يقاس عليها. والسبب بسيط وهو أن صندوق النقد الدولي كان مسهما في الأزمة والانهيار الاقتصادي الذي حل بهذا البلد، حيث التوصيات الصادرة منه لا تراعي مصالح البلد بتاتا وإنما مصالحه ومصالح ذويه (المحور الأول). لهذا، لا تنبغي في تقديرنا للمغرب المجازفة والتسرع والمضي في اتجاه سياسة مصرفية مبنية على التعويم لاعتبارات موضوعية متعلقة بالمخاطر القاتلة للتعويم ارتباطا مع البنية الازدواجية لاقتصادنا المتكونة من قطاع غير مهيكل وآخر مهيكل وقطاع سلع غير قابلة للتداول وآخر قابل للتداول ولضعف تنافسيته. وكذا لاعتبارات الجدوى لأن القرار الاقتصادي في المغرب من الأفضل له أن يتجه، كما هو الشأن بالنسبة إلى الدول الآسيوية، إلى نموذج تنموي يركز على الإنتاج قبل أن يتجه إلى تعويم سعر صرف الدرهم (المحور الثاني). المحور الأول: مسؤولية صندوق النقد الدولي في الويلات التي عصفت بالاقتصاديات البرازيلية والروسية والتايلاندية في الثاني من يوليوز 1997، لما انهار البهت، العملة التايلاندية، لا أحد كان يتوقع أنها بداية الأزمة الاقتصادية التي لم يعرفها العالم منذ 1929 حيث انطلقت هذه الأزمة من آسيا إلى روسيا ثم أمريكا اللاتينية بالشكل الذي هدد العالم بأسره. وما إن ظنّت هذه البلدان تعافيها من الأزمة حتى دخل العالم في أزمة أخرى مالية واقتصادية جديدة لسنة 2009. بقي فيها الاقتصاد المغربي نسبيا في منأى عن انعكاساتها السلبية لكونه لم يقم بتحرير حساب الرأسمال ولضعف علاقاته المالية مع الخارج. في ظل هذه الأزمات ونظرا لعدم قدرة صندوق النقد الدولي على تنبئها أو معالجتها عند اندلاعها ذهبت عدة دول في الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى المطالبة بالتغيير الجذري لتوجهات الصندوق والمؤسسة نفسها؛ لأن صندوق النقد الدولي هو من خلق الأزمة باعتبار أنه كان يطالب بتحرير سريع للأسواق المالية وهي بعض الأخطاء التي يعترف بها الصندوق نفسه فيما بعد. فعدد كبير من الدول قررت بنفسها ولنفسها وحققت تقدما اقتصاديا بعيدا عن إملاءات صندوق النقد الدولي كالهند والصين اللتين تبنيتا سياسات اقتصادية مستقلة وراقبتا عمليات الرساميل ونجحتا في ذلك. الشيء نفسه ينطبق على كوريا الجنوبية وماليزيا اللتين رفضتا إملاءات الصندوق، حيث لعبت الدولة الماليزية دورا نشيطا في إعادة هيكلة المقاولات واحتفظت بسعر صرف العملة في مستوى مخفض عوض رفعه. أما إثيوبيا فقد رفضت توصيات الصندوق المتعلقة بتحرير سوقها المالي، وكانت محقة في قرارها واستفادت من تداعيات تنفيذ قرارات الصندوق في كينيا وإفريقيا الشرقية. وبالرجوع إلى التايلاند التي اعتبر البعض تجربة يمكن أن يحتذى بها في المغرب، فقد طبقت توصيات صندوق النقد الدولي بالحرف؛ لكن بعد مرور ثلاث سنوات على بداية الأزمة ظلت في الكساد الاقتصادي بناتج داخلي خام يقل ب2.3 في المائة عن مستواه قبل الأزمة. إن إيديولوجية السوق الحرة التي يتبناها الصندوق في التايلاند سمحت بدخول مكثف لأموال المضاربة. وكان هذا من بين الأسباب الرئيسية في التذبذب الذي حصل في سعر العملة التايلاندية. وعوض أن يعالج الصندوق المرض من أصله يقوم بمعالجة أعراض المرض وهو التذبذب في سعر العملة بضخه ملايير الدولارات في السوق. هكذا، يحكم صندوق النقد الدولي قبضته على الدول المتهورة والتي يجرها إلى تعويم نظام سعر الصرف عبر توطيد تبعيتها والرجوع إليه في حالة تدهور قوي في قيمة العملة، حيث يبدأ الصندوق باقتراح مخطط إنقاذ وإقراض الدولة ملايير الدولارات من أجل تقوية سعر العملة لكي يرجع السعر إلى مستواه الأصلي. وهذا ما فعله الصندوق مع البرازيلوروسيا سابقا ومع مصر حاليا. إن مخططات الإنقاذ هاته لا تنجح دائما؛ فمثلا في يناير من سنة 1999 انهار الروبل الروسي بأكثر من 45 في المائة من قيمته الحقيقية مقارنة مع مستواه في يوليوز 1998، بالرغم من منح القرض من لدن الصندوق من أجل تخفيض قيمة الروبل. وإلى يومنا هذا، لا يشرح لنا صندوق النقد الدولي بشكل مرضي لماذا يضخ كل هذه الأموال المكلفة في السوق العملات، وليس مستعدا لضخ الحجم نفسه أو أقل منه من الأموال في أسواق أخرى كالسوق النقدي أو سوق الشغل. المحور الثاني: مخاطر تعويم سعر صرف الدرهم في المغرب بالرغم من تمكين قرار تعويم سعر الدرهم من استقلالية السياسة النقدية في المغرب، فإن هناك حالتين قصويين بشأن تغير قيمة الدرهم، إذا حدثتا ستخلقان إشكالا اقتصاديا كبيرا. وأما الحالة الأولى والمحتملة جدا وهي انهيار قيمة الدرهم بالمقارنة مع الأورو والدولار بشكل متوازن مع محددات اقتصاده. وفي هذه الحالة تكون الانعكاسات سلبية جدا، حيث سيرتفع قيمة الدين الخارجي بالعملة الأجنبية وقيمة الواردات بالدرهم. مما سيؤدي إلى تضخم مستورد سيقلل من تنافسية صادراتنا لأنها تستعمل المواد المستوردة كمواد وسيطة وهو القطاع المعول عليه من أجل جلب العملة الصعبة. وتجب إثارة الانتباه إلى أن سياسات سعر مخفضة لقيمة الدرهم في المغرب لم تكن ناجحة نظرا لضعف مرونة العرض التصديري، بالرغم من تخفيض ثمنه. الشيء نفسه ينطبق على الواردات التي تصبح باهظة الثمن للكمية المستوردة نفسها. لهذا، نقول إنه يجب التوفر على مخزون جد مهم من العملة الصعبة، التي يتحتم حسب تقديرنا أن تتجاوز السنتين من الواردات، أكبر من العتبة التي يحددها الصندوق، من اجل تمكين الفاعلين في السوق من طلب الدراهم وعرض العملات الأجنبية. والكارثة العظمى أنه في حالة تعذر دعم قيمة الدرهم في السوق بهذه الطريقة نضرا لنفاذ المخزون ستجد الدولة نفسها مرغمة على طلب اللجوء لمخطط الانقاذ الذي يقترحه صندوق النقد الدولي لأنه مصر على استخلاص ديونه قبل التعافي أو بعد التعافي. فلا مجال لإعلان إفلاس الدول وإبطال ديونه المستحقة. أما في الحالة القصوى الثانية وهو مستبعدة وتتعلق بالارتفاع في سعر صرف الدرهم الأسمى بشكل كبير من جراء تدفق قوي لاستثمارات خارجية مباشرة أو تحويلات السياحة أو انتعاش غير متوقع في أثمنة الفوسفاط في السوق الدولية أو تصدير الطاقات الشمسية أو اكتشاف ممكن لمخزون من البترول وتصديره أو دخول عائدات مكثفة إثر بيع الفاعلين الخواص للقنب الهندي. في هذه الحالة سيسهل على بنك المغرب إنتاج الدراهم ووضعه عند طلب الأبناك ستمكن من تخفيض قيمته في السوق. ومن جهة أخرى، ومع أن ازدواجية بنية الاقتصاد المغربي المكونة من قطاعات ريعية وتصديرية ستتحول هذه الموارد المحتملة إلى القطاعات الريعية والمحمية التي تنتج السلع غير القابلة للتداول كقطاع العقار والخدمات مقارنة مع القطاعات التصديرية وترفع سعر صرف الدرهم الحقيقي. ناهيك عن تكوين سعر صرف الدرهم آخر اسمي في السوق السوداء. لقد كان أجدى التركيز على تقوية الاقتصاد وأسسه عبر الاستثمار في محركات نموذج تنموي مبني على الإنتاج عوض الانسياق مع التوصيات الكونية والموحدة لصندوق النقد الدولي وتجريبها كالفئران الناعمة والتي ستجلب على بلدنا مزيدا من الويلات هو عن غنى عنها. سيتأتى تقوية الاقتصاد: أولا عن طريق تراكم قوي في الادخار وتحويله إلى استثمار منتج في شقه العام والخاص، وثانيا عن طريق الاستثمار في الرأسمال البشري خصوصا التعليم المعمم والمجاني، وثالثا التحويل البنوي والسريع للنسيج الإنتاجي وتطوير التصنيع في إطار سياسة صناعية موجهة من طرف الدولة، ثم رابعا عن طريق الحكامة المؤسساتية الجيدة وتقوية القضاء واحترام القاعدة القانونية. ففي هذه المجالات بالضبط توجب الاجتهاد من أجل خلق وتنويع العرض التصديري المستدام. المحور الثالث. التوصيات أولا، السعي نحو تخفيض مهم في الديون الخارجية للمغرب إزاء الصندوق بالشكل الذي يجعل القرار الاقتصادي سياديا والاحتفاظ بحبل الود السياسي مع المؤسسة الدولية. كما يتوجب على الفاعل السياسي تفادي القراءات السطحية لقرارات ذات الخطورة القصوى على مجتمعنا، ثانيا، اقتراح توسيع مجال تغيير سعر صرف الدرهم زائد/ ناقص 0.5 بالمائة عوض زائد/ ناقص 0.3 في المائة المعمول بها حاليا وتثمين الاحتياطات من العملة الصعبة الذي يجب أن تتجاوز السنتين تفوق بكثير العتبة التي يحددها الصندوق، ثالثا، الاستمرار في تقوية ثوابت الإطار الماكرو اقتصادي؛ كالرفع من نسبة النمو الاقتصادي، وتخفيض نسبة عجز الميزانية، والتحكم في التضخم باعتماد إجراءات بنيوية وليست ظرفية، وخفض المديونية العمومية وربط النفقة بالنتائج، رابعا، تقوية الادخار والاستثمار في التعليم العمومي وتبني سياسة صناعية تحت موجهة من لدن الدولة، وهي تلك العوامل التي جعلت من الدول الآسيوية دولا متقدمة ومستقلة عن إملاءات صندوق النقد الدولي، خامسا، عدم فتح حساب الرأسمال أمام التدفقات الرساميل الأجنبية لتفادي تدفق رساميل المضاربة الحاملة للأزمات وتقوية مناعة النظام المصرفي المغربي وتحسين حكامته وتوسيع وجوده الإفريقي، سادسا، محاربة الفقر والهشاشة عبر تبني سياسات عمومية تستهدف الفقراء والطبقة الوسطى لتفادي الاحتجاجات في حالة اندلاع الأزمات. ولأن هذه القضايا ليست في صلب اهتمامات صندوق النقد الدولي. *أستاذ الاقتصاد بجامعة محمد الخامس بالرباط