بإعلان تشكيل الحكومة المغربية التي يرأسها سعد الدين العثماني، خليفة بنكيران يوم الأربعاء 5 أبريل 2017، عقب فشل الأخير في مواجهة سيناريو "البلوكاج" الذي عطّل البلاد ومصالح العباد لستة أشهر كاملة؛ والذي كتبه مؤلفو القصر بإحكام، لكنهم فشلوا في الإخراج وإدارة الممثلين، رغم أن الأخيرين أتمموا المهمة وتقاضوا أجورهم كاملة غير منقوصة؛ يحق لنا الآن أن نتساءل عن الخاسر الأكبر أو الخاسرين الكبار، لأنهم كثر ولا شك. طبعا لن نتساءل عن الرابح الأكبر أو الأوحد لأنه واحد ظاهر... سيتبادر إلى دهن العديدين جواب سريع، الخاسر الأكبر طبعا هو حزب العدالة والتنمية الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات والمقاعد (لا يهمني الآن كيف لكنها الحقيقة).. لقد حصل الحزب على 124 مقعدا برلمانيا، مما يخوله دستوريا رئاسة الحكومة ومسؤولية تشكيلها من خلال البحث عن التحالفات الممكنة لتشكيل أغلبية برلمانية. والحق يقال فقد كلف الملك زعيم حزب العدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، لتشكيل الحكومة، لكن العجرفة الزائدة ووهم الانتصار على الكل وطول اللسان وقصر النظر والضعف الكبير في التفاوض وكثرة الخطوط الحمراء غير المقبولة في إدارة التفاوض، كل ذلك أدى إلى فشل "الزعيم" الذي انتقل من موقع القوة والهجوم إلى موقع الدفاع والتباكي...وبقية التفاصيل معروفة. حسب تقدير هؤلاء، العدالة والتنمية أكبر الخاسرين. فقد عمل المخزن، الذي رعاه منذ البداية حتى استوى عوده وطالت أظافره وبرزت أنيابه ونفش ريشه وجحظت عيناه، (عمل) على ترويضه بتقليم أظافره وقلع أنيابه وقطع لسانه وهلم عمليات... وحسب آخرين فإن الخاسر الأكبر هو هذا الشعب المغلوب على أمره، وهذا الوطن الذي احترف سياسيوه إضاعة فرصه التاريخية للانتقال من دولة المخزن إلى دولة المؤسسات منذ مدة طويلة؛ وما أكثرها من فرص، لعل آخرها حراك شباب 20 فبراير 2011، الذي على ظهره جاء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. شعب تكالب عليه اليمين بكل أشكاله الديني والليبرالي والمخزني...وجزء من اليسار الذي أصبح يسار صاحب الجلالة؛ وانشغل عنه ما تبقى من يسار حامل لمشروع أو تم إشغاله. كل التقديرات والأجوبة في تقديري صائبة ومصيبة. صائبة من الصواب ومصيبة بمعنى كارثة. صائبة لأن حزب العدالة والتنمية فعلا من أكبر الخاسرين.. قد نختلف معه في أمور عدة إيدولوجيا وسياسيا وبرنامجيا،وفي تقديرات المرحلة وفي نتائج تدبيره للشأن العام، لكن وجب الاعتراف بأنه فعلا حزب منظم وقاد حملته الانتخابية باقتدار وحصل على أكبر عدد من المقاعد والأصوات، ويشتغل بطريقة حديثة ومهيكل بشكل جيد، وظل متراص الصفوف حتى آخر لحظة، وله حاضنة شعبية مهمة ووفية. واستطاع أن يصمد في وجه أعاصير شتى، وجهت له ولأعضائه زرافات ووحدانا...لكنه فشل في إدارة مفاوضاته، أو بلغة أدق فشل في إدارة صراعه مع المخزن (الذي فوض للتجمع الوطني للأحرار مسؤولية إدارة الصراع)، الذي بعد أن قضى منه وطره ألقى به في أقرب منعرج، بل وألقى في حضنه بيض الحية لتكبر على مهل حتى تفقس بداخله ثعابين شتى، حتى ينشغل بذاته في المستقبل القريب...والتفاصيل ستحملها الأيام القادمة. فشل في الدفاع عن نفسه لأنه أوكل الأمر للشخص غير المناسب في الوقت غير المناسب.. فشل لأنه لم يجرؤ على طرح النقاش الحقيقي لبناء تعاقد دستوري يشكل ضمانة حقيقية لربط المسؤولية بالمحاسبة وبناء دولة المؤسسات..وفشل لأن زعيمه اختار استعمال لغة خشبية (التهديد والوعيد والشعوذة)، لغة تنفع لجلب الأصوات لكنها لا تسمن مع ديناصورات التفاوض؛ وتوهم أن التعاقد العرفي كاف لضمان ثقة الشعب والقصر معا، وكاف أيضا لمنع أي "ردة ديمقراطية" قد تعصف بكل ما بناه الحزب من خلال توالي التنازلات وتتابعها. ومصيبة لأن ضياع فرصة تاريخية للانتقال نحو دولة ديمقراطية سيعطل لا محالة مسيرة شعب ووطن وأجيال قادمة نحو العيش الكريم. إن الخاسر الأكبر، أو لنقل من بين الخاسرين الكبار، في ما حصل ويحصل من انتكاسة هو الحزب الاشتراكي الموحد، ومعه مشروع فدرالية اليسار الديمقراطي، التي خاضت تجربة الانتخابات السابقة ورهانها إرجاع الثقة في ما سمي إستراتيجية النضال الديمقراطي وإمكانية التغيير من داخل المؤسسات. وبعث أمل جديد في صفوف المواطنات والمواطنين الذين ملوا الخطابات والوعود المتشابهة لكل الفاعلين. وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير رغم أنها لم تحصل إلا على مقعدين، لكنها ربحت رهان الثقة في صدقية الخطاب وجدوى المشاركة، من خلال حجم الالتحاقات بصفوفها ونوعيتها، خاصة أنها رسخت لدى المواطنات والمواطنين وحتى الخصوم صورة مشرفة، من خلال إشراكها لشبابها ونسائها بشكل كبير في اللوائح الانتخابية. ولا أدل على ذلك حجم المتطوعين في حملاتها عبر ربوع الوطن، في الوقت الذي سخرت باقي الأحزاب ماليتها لتمويل وأداء أجور داعميها. لكن ما حصل ويحصل يعيدنا إلى نقطة البداية من جديد. كيف يمكن الوثوق باللعبة السياسية وبجدوى المشاركة وصناديق الاقتراع لا تؤهل للحكم؟ فإذا كانت نتائج الانتخابات لا ترسم الخريطة السياسية الحقيقية فما جدوى التصويت؟ كيف يمكن الوثوق بخطاب تناقضه الوقائع؟ كيف يمكن الوثوق في نظام سياسي مزدوج، حداثي الشكل تقليدي الجوهر ..دستور وبرلمان من جهة وبيعة وركوع من جهة أخرى؟ كيف يمكن الوثوق في الانتخابات وحملات التسجيل في اللوائح والرموز والصناديق الزجاجية والمراقبين...من جهة والضبط والتحكم في الخريطة من جهة أخرى؟ كيف يمكن الوثوق بأغلبية الأحزاب والشعب يراها تتهافت لإرضاء المخزن ضاربة عرض الحائط كل الوعود والمواقف والبرامج؟ كيف السبيل لاقناع المواطنين في 2019 بجدوى كل هذا؟ لقد خضنا التجربة الأخيرة بأمل بناء جسور الثقة مع المواطنات والمواطنين، وكم أجهدنا أنفسنا لنقنع الكثيرين بصدق الخطاب وبجدوى المشاركة. وبعد جهد جهيد وعلى ثلاث مراحل للإقناع.. إقناع الذات، خاصة مع تباين وجهات النظر وتباين التقديرات..إقناع الحلفاء رغم كل المطبات واختلاف الآراء والحسابات.. وأخيرا إقناع المواطنات والمواطنين رغم أن "أولاد عبد الواحد كلهم واحد" في نظرهم.. إن رغبة الدولة في تمييع المشهد الحزبي عقيدة راسخة وإستراتيجية قديمة جديدة، حتى يظل الفاعل الرئيسي هو الضابط لكل مدخلات ومخرجات النسق السياسي؛ أما الباقي فأدوارهم محدودة ومرسومة سلفا..أرانب سباق تتناوب على الخدمة. سيكون من حق المواطنات والمواطنين فيما سيأتي من استحقاقات أن يرددوا نفس المقولات: "أولاد عبد الواحد كلهم واحد"، و"ليس في القنافذ أملس"، و"كلكم بحال بحال"...هذا ما يريده النظام وهذا ما نحن مستعدون للتصدي له وسنقاومه. سنصر على الحلم وسنعلنه في الناس دينا جديدا لن نتخلى عنه ولن نحيد. إما أن نقنع الناس بمشروعنا وبصدق الخطاب وجدواه، وإما سنحجز تذكرة سفر بلا عودة، وللشعب رب يرعاه، وللوطن رب يحميه.