مقدمة بسيطة، ولكن لا بد منها جملةٌ هي الأسئلة والاستفهامات التي قد يطرحها الباحث السياسي والمناضل الحزبي وعموم المتتبعين للراهن المغربي عند رصد تدفق وقائع السياسة المتسارعة والمتلاحقة ببلادنا. ولا ريب أن استيعاب مجريات السياسة، بتداعي المعطيات والأحداث وتوالي المواقف وردود الأفعال عليها والانفعالات بها، قد يعسُر على الباحثين والمهتمين، فضلا عن عموم المتابعين والمواطنين. ومن دون شك، فإن عُسر الاستيعاب وصعوبة الإدراك هذين لهما أكثر من مسوّغ يبرّرهما، علّ أهمها أن الحياة السياسية في غالبها تبقى حقلا مطبوعاً بالغموض ومسبوغاً بالعتمة، سواء من جهة قصور إمكان الكشف عن مقاصد واستراتيجيات الفاعل السياسي وحيثيات وملابسات قراراته ومواقفه؛ أو من جهة ضعف القدرة على تفكيك المشهد السياسي بردّه إلى وحداته البسيطة الأساس أو بإماطة الحجب عن إشكالاته الجوهرية وتناقضاته الأصلية؛ أو من جهة تعذُّر قراءة واقع الحال السياسي قراءة ذات مصداقية تُعين على فرز المحددات البنيوية للواقع السياسي من متغيراته الثانوية، بما يؤهل المرء لصياغة قراءة علمية مُدركة لحقيقة اللحظة، وبالتالي القدرة على استشراف ما بعدياتها اللحظية، ارتياداً لمآلاتها العاجلة والآجلة. ومع أن الإدراك السياسي يبقى مُحاطاً بكل هاته التحديات والإكراهات، التي تَحُول دون الاستناد إلى فهم أكثر علمية للراهن السياسي وصيروراته المستقبلية، إلا أن الإنسان يبقى مجبولا، دائما وأبدا، على مغالبة هذه الإشكالات المنهجية والعوائق التحليلية في سبيل دأبه المستمر لفهم تطور واقعه السياسي وحياته المجتمعية. وإن كان تشوّف الإنسان، من حيث هو إنسان، إلى كسب مزيد من الفهم والعلم بالأشياء ومجريات الأحداث؛ فإن المناضل السياسي، في سعيه نحو إصلاح واقعه السياسي وتزكية عمرانه المجتمعي، مدعوٌ أكثر من غيره إلى بلورة مقاربة صحيحة راشدة لمجريات الشأن السياسي بتوظيف الإمكانات المنهجية والعلمية التي تحفل بها علوم الإنسان والاجتماع. لا سيما إن أدركنا أن معظم الحقائق توجد على ثخوم تقاطع الحقول المعرفية والتخصصات العلمية. وبالتأكيد فإن المناضل السياسي والمصلح الحركي، إن هو قد استفرغ وسعه في هذا المضمار واستجاب لهذا التحدي، وُفّق إلى اختيار الموقع الصحيح من حركة الأحداث والفاعلين من حوله، وبالتالي انتداب القضايا الحقيقية والأولويات الأساس التي يطيق معالجة إشكالاتها ومواجهة تحدياتها بحسب ما يسمح به واقعه من "ممكنات عملية" و"قابليات ثقافية" و"استعدادات اجتماعية". قد لَزِمني، بكل التواضع العلمي الواجب في هذا المقام، الإدلاء في هذه العُجالة بهذه ال"شبه مقدمة" باعتبارها في آن، مُبرّرا لتفهّم صعوبة إدراك مصارف الحياة السياسية من حيث كونها سياسية؛ وكذا، لكونها شرطا معرفيا ومنهجيا لإدارك واقع هذه المجريات، بما يتجاوز القراءات "الوقائعية الخبرية" المقتصرة على الأحداث والأشخاص، أو تلك التي تغفل عن تقديم فهم نسقي ممنهج لوقائع ما يجري باستحضار علاقات التأثير والتأثر بين مجمل الفاعلين والمؤسسات والبنى في سياق هو محصلة لمسار تشكل تاريخي ممتد. ويبدو لي أنه لن يكون من نافلة القول التذكير بأن الواقع السياسي المغربي، كما غالب الأنظمة السياسية العالمية، مطبوع بتعقيدٍ شديدٍ متداخلةٌ أبعادُه الرمزية والمادية، مما يقتضي ضرورة إعمال إدراك مركب يستوعب مختلف جوانب هذا الواقع ويستحضر بالأساس مختلف عناصره ومستوياته وفق تشكّلها السوسيو-تاريخي المخصوص بخبرته الحضارية المتفردة. ومن المهم التأكيد على أن حصول مثل هذه القراءة، المنضبطة لمثل هذه المقتضيات المعرفية والأطر المنهجية، ستمكن الباحث السياسي من فهم أعمق للنسق السياسي المغربي، كما ستوفر للمناضل الحزبي فرصة النضال بناء على منهج صحيح مبني على "تحليل ملموس للواقع الملموس".. أولا: سلوك النظام السياسي المغربي: "ثوابت مرعية" في مواجهة "متغيرات نوعية" كثيرة هي الدراسات السياسية الجادة التي تصدّت لسؤال مقومات النظام السياسي والقواعد الناظمة للحياة السياسية المغربيين. وليس خافيا أن الأطروحات الجادة، بهذا الصدد، وبالرغم من تعدّد زوايا معالجتها لبنية النظام السياسي المغربي (أتحدث أساسا على أطروحات المعتصم ولوفو وواتر بوري والحمودي)، إلا أنها قدمت للقارئ المغربي إمكانات بحثية ومقدرات تحليلية أرحب لفهم بنائية هذا النظام وتقاليده المستحكمة في تدبير شأن الحكم والإمارة بالمغرب. وعلى اختلاف الخلاصات الكبرى لهذه المحاولات فإنها تكاد تجمع على أن النظام السياسي المغربي يبقى في كنهه العميق مُصرّا على جوهره الجواني التقليدي بالرغم من توظيفه للتحديث، والذي يبقى توظيفا أداتيا/إجرائيا لا يُشوّش على استقرار بنيته العميقة التقليدانية. لهذا الاعتبار، ظلّ النظام الدستوراني المغربي وفياً لمفهوم إمارة المؤمنين المتوارث، جاعلا من الملكية الحديثة مجرد امتداد عصري/مؤسساتي لأمير المؤمنين. كما أن تعاقد البيعة "الديني/التاريخي"، كأساس لنشأة الدولة بالمغرب، يبقى مقدماً على التعاقد القانوني والدستوري الحديث، الأمر الذي يتيح لمؤسسة المخزن، بامتدادها الترابي، القدرة على الاحتفاظ بأولويتها التاريخية على المؤسسات التمثيلية، ببعدها الانتخابي. وعلى أساس من هذا التوجه، اضطلع متولي سدة الحكم في النظام الدستوري المغربي العرفي والمُدوّن بمجموعة أدوار حساسة ومهام دقيقة، تأمينا لاستقرار النسق السياسي الوطني وتوازنه. ومن بين هذه الأدوار الحفاظ على مستوى من تجزيء الواقع السياسي بحيث يبقى المغاربة جميعهم، على تعدديتهم الحزبية وتنوعهم الثقافي وتمايز انتماءاتهم القبلية وتنافسية قواهم الاقتصادية، مرتبطين بالمؤسسة الملكية باعتبارها رمز الوحدة وضمانة الاجتماع السياسي الوطني للأمة. وحرصا منها على هذا المبدأ المنهجي في الحكم، حرصت العلبة السوداء بالنظام السياسي على أن تحول، دائما، دون أن يتصدر المشهد المجتمعي فاعل آخر غير المؤسسة الملكية، التي تبقى المؤسسة الوحيدة المُناط بها "رعاية" النسق السياسي وضبط إيقاع حركيته، وذلك بالحفاظ على مستويات متقاربة بين مختلف فعاليته ضماناً لتنافسية معقولة ومتعادلة بين كل الأحزاب والنقابات والجمعيات والبنى الفرعية الأخرى، حفاظا على التوازن المفترض لمجمل النسق. وليس بدعاً من القول أن نظام الحكم بالمغرب، على توالي العائلات الحاكمة، قد سهر على الموازنة بين القبائل والزوايا والعائلات بحيث لا تحوز إحداها موقعا متقدما على غيرها، بشكل يصعب استدراكه. لذلك، جرت عادة الحكم في المغرب على التأكيد على تعدد شرعياته دون الاقتصار على الشرعية الدستورية بخلاف باقي الكيانات السياسية الأخرى؛ وكذا حرصه على الحيلولة دون وجود الحزب الوحيد أو فاعل مجتمعي مهيمن على المشهدين المجتمعي والسياسي، مهما تعدّدت المبررات والحيثيات والسياقات. غير أن الذي برز في السنوات الأخيرة، أنه قد حصلت العديد من التحولات الجوهرية النوعية التي قَصُر النظام السياسي على قراءتها بالشكل المستوفي والتفاعل معها بالسرعة اللازمة. وقد بدى قصور الدوائر المسؤولة بالدولة في عدم قدرتها على التنبؤ بهذه الاحتجاجات وبالتالي التعاطي معها، لعل من بينها الحراك الديمقراطي إبّان الانتفاضات العربية، والتي تواثرت وتائره في لحظات احتجاجية شعبية أخرى استلهمت نفسه السياسي ( من قبيل: احتجاجات "طلبة الطب"، واحتجاجات "الطلبة الأساتذة"، والاحتجاج على إعفاء البيدوفيل الإسباني، واحتجاجات شباب الريف...). ويبدو أن أهم متغيرين قد حصلا في المجتمع المغربي، فيما له علاقة بالشأن السياسي، هما متغيري "نبذ الخوف" و"تنامي الوعي". وليس خافيا أن دوائر السلطة لم تطق مواكبة هذه التحولات بما أربك استراتيجيتها في التفاعل والاحتواء. وقد ظهر ذلك جلياً في عدم قدرة الأجهزة المسؤولة على توقع تحولات المزاج الانتخابي لدى عموم المواطنين المغاربة وتوجيهه، لا سيما بمناسبة الاقتراعات الثلاثة الأخيرة لسنوات 2011 و2015 و2016. لقد أثبت الانتخابات الأخيرة أن الدوائر المسؤولة عن تنفيذ السياسة الانتخابية، مثلا، قد عجزت عن "احتواء وضبط السلوك الانتخابي" للمغاربة، إذ أن المدخلات التقليدية التي اعتادت هذه الدوائر المعنية أن تهيئ بها الاستحقاقات الانتخابية، سواء على المستويات القانونية والتنظيمية والإعلامية و"التدخلية"، قد فشلت في كبح جماح النزوع المتنامي للمغاربة نحو توسيع هامش الدمقرطة وطلبا لمزيد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ثانيا: سلوك العدالة والتنمية: بين "مطالب مجتمعية ضاغطة" و"بنية دولتية متحفّظة" لن يكون من باب المجازفة في شيء الإقرار بقيمة الدور السياسي المعتبر الذي لعبه حزب العدالة والتنمية في الحياة السياسية المغربية، خاصة بعد انتقال العرش للملك محمد السادس. وقد استطاع هذا الحزب، على مرّ الخمسة عشر سنة الأخيرة، أن يرسم لنفسه خطا نضاليا متميزا أضفى على الحياة السياسية حيوية مقدّرة كسّرت الجمود الذي بدأ يدبُّ للواقع السياسي بعد لحظة الخروج عن "المنهجية الديمقراطية" واستقالة المناضل عبد الرحمن اليوسفي من الحياة السياسية، بعد خطابه ببروكسيل، حيث حملت سنتي 2002 و2003 معها مؤشرات عديدة كانت تُنذر بعودة منطق التحكم في المشهد الحزبي والرغبة في إعادة ترتيب الواقع السياسي ترتيبا سلطويا، خارج نطاق الممارسة الديمقراطية والعقلانية القانونية المعبّر عنها بمناسبة الإصلاح الدستوري لسنة 1996 والتوافق السياسي الذي أُسّس عليه. لقد استطاعت قيادة حزب العدالة والتنمية أن تتخذ لنفسها موقعا واضحا ممانعا لهذا المسار الجديد الذي سارت فيه الدولة بإيعاز من مراكز نفوذ زعمت إمكان استنساخ التجربة التونسية وصياغة نموذج تنموي متحلّل من أي التزام ديمقراطي. ولقد كان لحزب العدالة والتنمية فضل المساهمة، إلى جانب القوى الوطنية الحية، في تعميق التناقض ضذ كل الترتيبات السلطوية، على أساس من الانحياز الديمقراطي الواضح. ولا شك، أن المدافعة الصارمة والمبدئية لحزب العدالة والتنمية في مواجهة تحالف الحزب الأغلبي، آنذاك لما يزيد عن سبع سنوات، أكسبته شرعية شعبية محترمة أهّلته للعب دور مهم لحظة حراك 20 فبراير، سواء من خلال الدفاع عن المطالب الشعب بالإصلاح ومناهضة الفساد والاستبداد، أو من خلال الدفاع عن ثوابت الأمة وموارد استقرارها. وهما طرفا المعادلة الذي استطاع حزب العدالة والتنمية أن ينزع أي التناقض بينهما. هذا التوجه المتوازن الذي اختاره حزب العدالة والتنمية والذي انتظم له أطروحة الخيار الثالث، خيار "الإصلاح في ظل الاستقرار، لقي تجاوبا شعبيا معتبرا، لا سيما لحظة انتخابات 2011، والتي حاز الحزب بمناسبتها المرتبة الأولى بعدد أصوات تجاوز المليون صوتاً وبأغلبية 107 مقعد نيابي. حيث خاض الحزب بقيادة زعيمه عبد الإله بن كيران تجربة قيادة دفة التدبير الحكومي، والذي نجح نسبيا في إنجاز مجموعة من الأوراش الإصلاحية بجرأة وحزم. وهو ما مكّن الحزب من أن يُراكم إلى جانب ما حازه من "شرعية الموقف" شرعية أخرى هي "شرعية الإنجاز". لقد تمكّنت قيادة العدالة والتنمية من أن تزاوج بمنهجية متوازنة بين التعبير عن المطالب الشعبية المتنامية وبين العمل في نسق سياسي يكاد يراوح مكانه للانخراط في نادي دول الانتقال الديمقراطي. وعلى أساس من هذه المنهجية استطاع حزب العدالة والتنمية أن يساهم باقتدار في توسيع هوامش الممارسة الديمقراطية والتفعيل الراشد للدستور، من دون أن يُفرّط في وحدته التنظيمية وسيادية قراره الحزبي وأدائه التواصلي الواسع، بفضل كارزمية أمينه العام الأستاذ عبد الإله بن كيران ورصيده الشعبي وقدراته التكتيكية والاستراتيجية في تدبير تفاصيل تدافع سياسي شرس ضد مراكز نفوذ ظلت مناكفة للإصلاح ومناهضة لخطط الدمقرطة. ومع أن حزب العدالة والتنمية قد استطاع أن يسير قُدما نحو الأمام بفضل استراتيجيته النضالية بالجمع بين المطالب الواعدة في الإصلاح والممكنات العملية في الواقع التزاما بمبدأ المراكمة التدريجية، إلا أن سرعة الإيقاع التي انخرط فيها الحزب يبدو أنها قد أثارت حفيظة مراكز سيادية تخوّفت من الكسوب الانتخابية التي بدا أن هذا الحزب يحوزها اقتراعا بعد اقتراع، خاصة بعد انتصاريه المشهودين في الانتخابات الجماعية للرابع من شتنبر والانتخابات النيابية للسابع من أكتوبر ضدا عن كل التوقعات والحيل والإرباكات. فقد استطاع هذا الحزب، بفضل الوعي الشعبي المتزايد دائما، أن يقاوم مدخلات التحكم في السياسية الانتخابية والتي عهدت دوائر السلطة اعتمادها لضبط نتائج اقتراع يكون على المقاس لا تعود فيه الأغلبية إلى أي حزب. لقد استطاع حزب ابن كيران أن يهزم سطوة تحالف مربع السلطة والمال والأعيان، بالرغم عن كل الجهود التي بُذلت والحيل التي حِيكت من أجل التأثير على المزاج الانتخابي الشعبي واستمالة المواطن ضد المسار الذي انخرط فيه المغرب بعد لحظات 20 فبراير و9 مارس و25 نونبر. ومع ذلك، فالظاهر أن تقدير حزب العدالة والتنمية المتمثل في دفاعه المستميت عن حرمة الصوت الانتخابي صيانةً للمسار الديمقراطي ضداً عن أي نزعة نكوصية، قد أربك الفرضيات البنيوية التي شُيّدت على أساسها نسقية النظام السياسي المغربي، وأثبت أن الصيغ التي استطاع هذا النظام أن يحافظ بها على توازنه واستقراره لم تعد كافية لضمان استمراره وتكيّفه مع المتغيرات المجتمعية المستحدثة. وعلّ واحدة من بين هاته المتغيرات قدرة أمين عام حزب العدالة والتنمية في أن يصبح زعيما سياسيا لقطاع واسع من المغاربة، وتعبيرا صارخا وصادقا عن الآمال الشعبية الصاعدة المنادية بمزيد من الدمقرطة السياسية والعدالة الاجتماعية والكرامة الحقوقية، بعد أن كان مجرد قيادة حكيمة لحزب حائز لشروط التنظيم القوي والانسجام القيادي ووحدة الموقف. وهو الأمر الذي من شأنه أن يثير تحفّظ بعض الدوائر السيادية ويشعرها بخطر منافسته لها على رصيد شرعيتها الرمزية المتراكمة منذ قرون. ثالثا: العدالة والتنمية لحظة البلوكاج: تغليب مبدأ "سلامة المنهج" على "رجاحة الموقف" السياسي إن كان لي أن اختار عنوانا آخر لحالة الاستعصاء الحكومي الأخير فإني سأختار له عنوان "الزعيم الأستاذ عبد الإله بن كيران"، وما عداه تفاصيل. لقد استطاع الأمين العام لحزب العدالة والتنمية بحنكته السياسية المرهفة وولائه الوطني البارز وكارزميته القيادية العالية أن يبعث الروح في السياسة، وأن يستعيد سيرة الزعماء الوطنيين بين الناس من خلال تقريب المواطنين من السياسة ببعث جذوة روح جديدة عمّت عموم الشعب. لقد استطاع ابن كيران بقدراته الكبيرة على الحشد والتواصل الجماهيريين من أن يربو بمنسوب الوعي النضالي وأن يساهم في خلق حالة من التوثب الشعبي العالية تطلعاته إلى مزيد من الإصلاح والدمقرطة، بشكل يمكن القول بأنه كان مربكا لمجمل النظام السياسي وخارج نطاق توقعاته واستعداداته. لذلك كان المطلوب هو التخلص من ابن كيران بأي شكل من الأشكال، لأنه بدأ، بالفعل، يحرج الدولة ويدفعها إلى مزيد من الاستجابة لمطالب التغيير والإصلاح. بيد أن الذكاء الذي عبّر عنه ابن كيران وقدراته الهائلة في التعاطي مع المستجدات والعوائق، وصموده الهائل أمام الضغوط والإكراهات، كلها معطيات جعلت نطاق الخيارات الممكنة لدوائر الحكم لاستيعابه تضيق. ضيق الخيارات هذا، كان من شأنه، لا قدر الله، أن يُمهّد الطريق للانقلاب على مجمل الإصلاحات السياسية التي راكمها المغاربة، لا سيما وأن الديمقراطية المغربية لا زالت ديمقراطية هشة لا تحتكم كلية للنتائج الديمقراطية، فضلا أن حالة الانتقال الديمقراطي التي يراوح المغرب مكانه بإزائها تقتضي تعزيز الثقة المتبادلة بين كل الأطراف بعيدا عن لغة الحسم الانتخابي والسيادة الشعبية المعبّر عنها داخل الصندوق. لقد تنبّه حزب العدالة والتنمية إلى أن نجاحه في الانخراط التدريجي في النسق السياسي لا يعني بالضرورة انسيابه السلس فيه، لأن حيازة الشرعية الانتخابية لا يفيد لازما، في السياق المغربي الراهن، حيازةً للمشروعية. وأظن أن قيادة الحزب قد اختارت أن تركن لقواعد منهجها في الإصلاح القائم على تعزيز سبل التعاون والثقة بدل نزوعات التصادم والصراع. خاصة وأنها تدرك جيدا أن أي نزاع بين قوى الإصلاح الديمقراطي والمؤسسة الملكية لن يؤدي إلا إلى انتعاش جيوب مقاومة الإصلاح وبعث الروح مجددا في نزوعها المناهض لمسار البناء الديمقراطي. فكان قرار التفاعل الإيجابي مع الاختيار الذي فضله القصر تجاوبا مع الإرادة الملكية في استئناف مسار الدمقرطة ولكن بإيقاع أبطأ من الإيقاع الذي سار فيه حزب العدالة والتنمية في عهد رئاسة السيد عبد الإله بن كيران للحكومة. وهو الموقف الذي يبدو أن قيادة العدالة والتنمية قد استوعبته وسعت من خلاله إلى تفويت الفرصة على هذه الجيوب، والتي عادة ما تنتعش أدائيتها السياسية وتمكّنها السلطوي لحظة تعكّر الجو بين الأحزاب الشعبية ومؤسسات النظام الشرعي. رابعا: إصلاح النظام السياسي ضرورة مجتمعية وحاجة وطنية لا بد من القول، في ختام هذه المقالة، أن حجم متغيرات الوعي وتحولات القيم السياسية لدى عموم المغاربة يستدعي من النظام السياسي مواكبتها بالانخراط في عملية إصلاح عميقة وحقيقية لبنية الدولة ووظائفها المعهودة، وذلك من خلال العديد من الخطوات التي ظلت مطلبا شعبيا واضحا ومجمعا عليه: - دمقرطة المجال السياسي بفتح المجال واسعا للمواطنين من أجل المشاركة في صناعة القرار الوطني، وذلك بإعطاء الدستور مضموناً أكثر ديمقراطية، باعتباره تعاقدا سياسيا واجتماعيا يتيح الإمكان للمشاركة في تدبير السلطة على أرضية معقولة تراعي الإمكانات الواقعية ولكن دون تجاهل المطالبات الاجتماعية والسياسية بتأسيس دولة الحق والقانون؛ - احترام مبدأ الإرادة المعبر عنها انتخابيا، لا سيما أن اللحظة الانتخابية لحظة مفصلية ودليل صادق على مدى توفر الإرادتين السيادية والسياسية على بلورة إصلاح سياسي يندرج بالمغرب سياسيا في مصاف الدول الديمقراطية، ويرقى به تنمويا إلى تجمع الدول الصاعدة؛ - احترام استقلالية المؤسسات الحزبية باعتبارها هيئات وسيطة في النسق السياسي منوط بها مجموعة من الوظائف الدستورية والتمثيلية والانتخابية والتأطيرية. إذ أن التضييق على الأحزاب أو اختراقها أو اختلاقها سيضرب مصداقيتها ويضر بمشروعيتها، وبالتالي سيفقدها الشرعية التي من المفترض أن تحوزها سواء من خلال التعبير عن المطالب المجتمعية والنضال من أجل استجابة المؤسسات لها. ولن يكون من زائد القول التذكير بأن أحد العوامل التي مكّنت النظام السياسي المغربي من التفاعل السريع مع الحراك الشعبي سنة 2011، فضلا عن تجاوب الملك مع مطالب الشارع، هو أن الهيئات الوسيطة لم تُضرب كما ضُربت في باقي الأنظمة العربية التي سقطت؛ - احترام مبدأ حقوق الإنسان وحرية المواطنين في التعبير والعمل السياسي وتعددية المجتمع المغربي وتنوعه الثقافي واللغوي، في ظل من الثوابت الوطنية والتاريخية للأمة ومقوماتها الحضارية المخصوصة؛ - توسيع نطاق استفادة المغاربة من ثروات البلاد ومقدراته على أساس من العدالة في التوزيع، من خلال تحسين مستوى العيش وتيسير ولوج المواطنين للخدمات الأساسية؛ مع ضرورة تفكيك شبكات المصالح الاقتصادية التي تحتكر حق الانتفاع من خيرات البلاد وتحول دون بناء نسق اقتصادي يتجه ولاؤه للوطن على أرضية تنافسية ومقننة، بدل منطق الولاءات الريعية المستفيدة من قربها من مراكز النفوذ السياسي والإداري. -دمقرطة المشهد الإعلامي وفتح المجال لكل الحساسيات الفكرية والتعبيرات السياسية للمساهمة في إثراء النقاش العمومي والإدلاء بدلوها ورؤاها في تدبير الشأن العام؛ وعلى الراجح أن إصرار السلطة بالمغرب على إجراء إصلاح جوهري يطال البنية العميقة للنظام السياسي بوظائفه المفصلية، سيؤهل الدولة لمواكبة حركية المجتمع ومتغيراته بمسايرة جديد تطلعات الشعب بشكل استباقي ومتحكم فيه. وأن أي تقاعس عن الانخراط الجاد لمختلف دوائر هذا النظام عن إجراء الإصلاحات المطلوبة سيحدُّ من قدرة النظام على التفاعل المتوازن والتكيف المعتدل مع مجمل ديناميات النظام المجتمعي، والذي يبقى النظام السياسي مجرد نظام فرعي عنها، لأن الدولة، مهما تضخمت، تبقى تابعة للمجتمع وفرعا عنه.