وزارة الداخلية تجري هذه الأيام مشاورات مكثفة مع رؤساء الأحزاب السياسية حول الاستحقاقات الانتخابية القادمة... وبغض النظر عن الدلالات التي تحملها مثل هذه اللقاءات مع وزارة الداخلية، وما تختزله من دلالات سلبية: النقاش في الكواليس وضعف التواصل والشفافية مع المواطن العادي، تجاوز مؤسسة الوزير الأول، غياب النقاش العمومي، التعامل مع الأحزاب السياسية بعيدا عن روح دستور 2011... فإن الظرفية السياسية الخاصة التي تمر بها بلادنا في أعقاب الاستفتاء الدستوري وما تبعه من تقييم لايخلو من ملاحظات أساسية تتعلق بالدور السلبي الذي قامت به الإدارة في هذا الاستحقاق، تفرض نقاشا آخر يتفاعل مع تطلعات الشعب في الديموقراطية الحقيقية والحرية والكرامة. تاريخ الانتخابات في المغرب هو تاريخ حضور وزارة الداخلية في تفاصيل العملية الانتخابية، فبعد عقود من التدخل المباشر لتزوير إرادة الناخبين، لم تتغير استراتيجية الدولة من الناحية العملية فلا زالت تمثل طرفا أساسيا في العملية الانتخابية، لكنها أضحت تتدخل بأسلوب مختلف عن طريق استراتيجية التحكم عن بعد وذلك لتتجنب قانون المفاجأة الذي يحكم المنافسة الانتخابية في جميع الأنظمة الديموقراطية، والحيلولة دون تبلور مؤسسات قوية تعكس تمثيلية شعبية حقيقية، وتستطيع اتخاذ قرارات فعلية مسنودة بالشرعية الديموقراطية..... إن الصورة المترسخة لدى العديد من المراقبين للحالة السياسية المغربية هي أن الانتخابات المغربية تحمل "مفاجآت غريبة" خارج التوقعات المنطقية التي تؤكدها الحقيقة الميدانية... ويبدو بالفعل أن وزارة الداخلية في المغرب اكتسبت خبرة كبيرة في رسم استراتيجية التحكم القبلي في نتائج الانتخابات وفي نفس الوقت الظهور بمظهر الفاعل المحايد "الذي لا يمكن استئمان غيره للسهر على حماية نزاهة الانتخابات"!.. في السابق لم تكن الانتخابات التشريعية مرتبطة برهانات سياسية حقيقية وإنما كانت الطبقة السياسية تتنافس فيما بينها لخدمة مشروع الدولة الجاهز، ولذلك كان من الطبيعي أن تسهر الإدارة على التحيز لفائدة الأحزاب الموالية للدولة.. اليوم تغيرت الأمور نظريا وأصبح الدستور الجديد يمنح السلطة لمن أفرزته الإرادة الشعبية عن طريق صناديق الاقتراع، وهذا المعطى الأساسي هو الذي سيضفي أهمية خاصة على العملية الانتخابية القادمة لأنها أضحت مرتبطة بوجود رهانات سياسية حقيقية... في شتنبر 2007 تجاوزت نسبة من قاطعوا الانتخابات ثلثي المواطنين، ويبدو بأن غالبيتهم كانوا يدركون بأن صوتهم الانتخابي لا قيمة له من الناحية السياسية، لكن بصمات الإدارة كانت حاضرة وراء تخفيض نسبة المشاركة لأغراض تحكمية وذلك بواسطة آليات تحكمية يتقنها بشكل جيد مهندسو الانتخابات في جميع وزارات الداخلية التابعة للأنظمة التسلطية التي تنظم انتخابات بدون ديموقراطية... الانتخابات تجرى في ظل لوائح انتخابية مطعون في مصداقيتها، ويتم التصويت ببطاقة الناخب التي تشكل مدخلا للتلاعب بأصوات المواطنين، وتفرض الإدارة تقطيعا انتخابيا لا يستجيب لأبسط المعايير المتعارف عليها، كما أن التعسف في تنزيل نمط الاقتراع باللائحة وتحويله إلى نمط اقتراع فردي "موسع" يعني فسح المجال أمام مفسدي الانتخابات لاستثمار مساوئ النظام الفردي وعلى رأسها سهولة استعمال المال للتأثير في أصوات الناخبين، وسهولة توظيف المعطى القبلي والعشائري في العملية الانتخابية .... وفي الوقت الذي يشتكي فيه الجميع من كثرة الأحزاب التي لا تعكس في جوهرها تعددية حقيقية، تحرص الدولة على رفض كل المقترحات الرامية إلى اعتماد عتبة تمثيل محترمة تسمح بفرز قوى سياسية كبرى وتشجع الأحزاب الصغيرة على التكتل في أقطاب سياسية واضحة على غرار الأنظمة الانتخابية الديموقراطية (عتبة التمثيل في بريطانيا و تركيا وغيرها10% )، وتكتفي بعتبة محدودة على المستوى المحلي وهي عتبة ليست كافية لتجميع أصوات الناخبين في مشاريع سياسية قوية، خصوصا إذا علمنا أن العديد من الأحزاب السياسية أضحت مرتهنة لنظام الأعيان المحليين الذين يفتقرون إلى امتداد سياسي وطني، ولا يعبرون عن مشروع سياسي حقيقي بقدر ما يعبرون عن مصالح فردية أو فئوية ضيقة...ويبقى العطب الأكبر هو احتكار وزارة الداخلية لسلطة الإشراف والتنظيم الشامل للعملية الانتخابية، وغني عن البيان أن هذه الوزارة تتوفر على تراكم ثقيل من السلطوية والضبط منذ زمن أوفقير وإدريس البصري، كما ضخت فيها دماء جديدة في العهد الجديد مع المرور الحاسم لفؤاد عالي الهمة داخل هذه الوزارة، وهو ما يعني استحالة تنظيم انتخابات حرة ونزيهة تحت الإشراف المنفرد لهذه الوزارة الثقيلة.. إن أعطاب النظام الانتخابي الحالي ستجعلنا بالضرورة أمام انتخابات بدون حماس شعبي نحن في أمس الحاجة إليه لزرع بذور الأمل لدى المواطن خصوصا بعد نكسة 2007 و2009 وبعد المتغير الأساسي الذي جعل من دينامية 20 فبراير سلطة رقابة ميدانية مضادة ترفض بإصرار جميع مظاهر الفساد والاستبداد.. ولذلك فإن هناك حاجة ماسة لإطلاق نقاش عمومي واسع حول المسألة الانتخابية قادر على إثارة اهتمام الرأي العام وتحسيسه بأهمية اللحظة السياسية التي تعيشها بلادنا..نقاش عمومي يساهم فيه الجميع دون إقصاء أو تمييز بسبب الموقف السياسي، وتنخرط فيه وسائل الإعلام العمومية بكل جرأة ومسؤولية قبل إعداد القوانين الانتخابية المطلوبة، وبالموازاة مع ذلك استكمال إجراءات الثقة وخاصة منه ما يتعلق بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، وهو ما يتطلب بالضرورة زمنا سياسيا معتبرا. أما الإسراع بتنظيم الانتخابات وفرض الأمر الواقع على المواطن فهو قرار محفوف بالكثير من المخاطر.. إن إرادة القطيعة مع نموذج الديموقراطية المهندسة يتطلب إصلاحات عميقة تهم إلى جانب ربط المسؤولية العمومية بإرادة الناخب وربط السلطة بالمحاسبة، إجراء انتخابات حرة ونزيهة قادرة على إفراز مؤسسات قوية وإبراز نخب سياسية جديدة تعمل على تغيير الصورة المنحطة لمؤسساتنا التمثيلية. لقد سئم المغاربة من انتخابات بدون ديموقراطية، ولذلك فإنني لا أرى شخصيا أي فائدة من المشاركة في انتخابات قادمة غير مسبوقة بنقاش عمومي عميق وبإبداع أسلوب جديد في الإشراف والتنظيم الانتخابي يرفع احتكار وزارة الداخلية على هذا الورش الهام... هذه الوزارة التي يتحتم عليها أن تخضع لإصلاح عميق يؤهلها للانخراط في روح الدستور الجديد ويرجعها إلى حجمها الطبيعي المتعارف عليه في الأنظمة الديموقراطية..آنذاك يمكن أن نسلم لهذه الوزارة بالإشراف المنفرد على الانتخابات...