تتجه أنظار الساسة الإسبان بحر هذا الأسبوع إلى مجريات المؤتمر الوطني الثاني لحزب "بوديموس"، المرتقب انعقاده يومه السبت 11 فبراير بفيستا أليغري، وفي جدول أعماله انتخاب قيادات الهيئات، ومن بينها منصب الأمين العام. لكن ما يجعل الأمر استثنائيا هذه المرة هو وجود بوادر ومؤشرات على أزمة داخلية أصبحت تتهدد كينونة هذا الحزب الحديث، الذي تأسس في يناير 2014. خلافات وصراعات بين الرجلين الأول والثاني إذا كان "بوديموس"، أو حزب "نستطيع"، يمتلك العديد من نقاط القوة التي مكنته من إحداث زلزال سياسي في المشهد الاسباني، نذكر من بينها شرعيته الشعبية، وخصوصا تلك المنبثقة من "حركة 15 مايو" 2011 و"حراك الساخطين"، كذلك تقديمه لخطاب سياسي جديد من حيث الشكل والمضمون، يحاول من خلاله القطيعة مع السياسة "القديمة"، بحسب وصفه، والحديث عن إسبانيا جديدة، والأهم من ذلك قدرته على استقطاب الفئات الشعبية والشابة والطلابية وجعلها تقود قاطرة السياسة والتغيير وتكون فاعلة لا مفعولا بها. يحسب لحزب "بوديموس" توفره على قيادات شابة ذات تكوين من مستوى عالٍ، خصوصا نواة الحزب النشيطة بجامعة "الكومبولتنسي" بمدريد؛ حيث استطاعت في زمن وجيز إخراج الحزب إلى الوجود وبناء مشروع إيديولوجي وآخر سياسي وتنظيمي، ودخول غمار الانتخابات لأول مرة؛ إذ شارك الحزب في السنوات الثلاث من عمره، في 7 استحقاقات انتخابية، بين انتخابات محلية وأخرى جهوية وأوروبية وتشريعية، وحقق في جميعها نتائج غير مسبوقة، لعل من بينها احتلاله المرتبة الثالثة كأكبر قوة سياسية في البلاد، والأهم من ذلك تكسيره وهزمه لنظام "الثنائية الحزبية" وحكومات الأغلبية المطلقة، الذي ساد منذ ثمانينيات القرن الماضي. ومن بين تلك القيادات الشابة التي طبعت "بوديموس"، التي لا يختلف اثنان حولها، هو زعيم الحزب الشاب وأمينه العام "بابلو اغليسياس"، صاحب الشخصية الكاريزمية، والدهاء السياسي والمستوى الفكري العالي، مما صنع منه سياسيا لامعا مهاب الجانب، فرض نفسه وأسلوبه؛ بحيث استطاع بمعية فريقه تسويق فلسفة الحزب وبرامجه إلى الرأي العام بشكل مقنع، دفع الكثيرين إلى دعم هذا الحزب الفتي الذي أضحى يمتلك أكثر من 5 ملايين صوت ويسير كبريات الحواضر الاسبانية، وينخرط في جلبابه أزيد من أربعمائة ألف عضو. وإلى جانب "بابلو اغليسياس"، الرجل الأول في الحزب، يعتبر "اينيغو ارخون" الرجل الثاني؛ إذ يشغل منصب الكاتب السياسي للحزب، إضافة إلى تقلده منصب مدير الحملة الانتخابية وكذلك قيادته للمفاوضات مع الاشتراكيين بشأن تشكيل الحكومة بعيد الانتخابات العامة في دجنبر 2015. وإن كانت العلاقة بين الرجلين شكلت إحدى دعائم قوة الحزب لما يمتلكانه من مميزات وتكامل في الأدوار، فإنها تغيرت في الشهور الأخيرة، وخصوصا بعد استقالات بالجملة (أكثر من 80 استقالة) وإقالات عديدة، همت بالخصوص مناصري "اينيغو ارخون" نذكر من بينهم يده اليمنى "سيرخيو باسكال"، مدير التنظيم في الحزب، وهو ما عجل بصراع مكشوف وعلني من خلال تصريحات وتعليقات في مواقع التواصل الاجتماعي بين " البابلويين"؛ أي أنصار "بابلو اغليسياس"، وبين "الايرخونيين"، وهم أنصار الرجل الثاني في الحزب، إضافة إلى ظهور تيار ثالث يعرف "بالمناهضين للرأسمالية"، مما دفع زعيم الحزب إلى الاعتراف بوجود أزمة داخلية، ودعوته إلى الوحدة، معتبرا أن المكان يتسع لأفكار الجميع تحت قيادة واحدة، لكون الحزب في حاجة إلى الجميع. وفي غياب التوافق حول مشروع ولائحة واحدة لقيادة الحزب، يشدد "بابلو اغليسياس" على أن الخلاف بينه وبين الرجل الثاني بات مواجهة بين "فريقين وزعامتين وفكرتين"، إلا أن "اينيغو ارخون" ينفي كون النزاع حول زعامة الحزب؛ لأنه مع بقاء "بابلو اغليسياس" أمينا عاما للحزب، لكنه في المقابل اعترف باختلاف في وجهات النظر والرؤى والأفكار حول مستقبل الحزب في العديد من الأمور، من بينها صلاحيات الأمين العام والأجهزة التنظيمية إضافة إلى علاقة الحزب بأحزاب اليسار الأخرى، وخصوصا مسألة تحالفه مع حزب "اليسار الموحد" وطبيعة علاقته "بالحزب الاشتراكي" والأحزاب القومية، وبالتالي تقديمه للمؤتمر العام للائحة مستقلة عن الأمين العام، وهو ما من شأنه أن يعقد الأمور، خصوصا وأن "بابلو اغليسياس" هدد بالاستقالة في حال عدم التصويت لمشروعه وأفكاره. هذا الخلاف دفع بقيادات من الحزب، على غرار "كارولينا بسكانسا"، إلى التحذير من عواقب "صدام القطارات" الذي يقوده الرجلان ومن صب المزيد من الزيت عليها، وتنبيههم إلى أن هذا الخلاف يقدم صورة سيئة عن الحزب ويجعل منه امتدادا للأحزاب القديمة التي تشتغل بالنزاعات والانقسامات الداخلية من أجل الصراع على السلطة والمصالح الشخصية الضيقة، فيما ذهب آخرون إلى أخذ مواقف داعمة لهذا الفريق أو ذاك، على غرار أحد مؤسسي الحزب "لويس أليغري" الذي حذر من كون فريق "بابلو اغليسياس" يقوده ويقود الحزب إلى الهاوية، في مقابل "داعمي "بابلو اغليسياس"، وعلى رأسهم شخصية الحزب المرموقة "خوان كارلوس مونيديرو، الذي حذر من كون "سقوط بابلو هو سقوط للحزب"؛ لأن الحزب لازال في بداياته وفي حاجة إلى زعيمه. فيما تعالت أصوات وتعليقات أخرى مدافعة عن "صحية" الاختلاف؛ لأنه اختلاف ديمقراطي وطبيعي ويشكل "أزمة نمو" متوقعة، نظرا للتطور السريع للحزب، وبالتالي الحاجة إلى إصلاحات تنظيمية ومؤسساتية وسياسية وحتى إيديولوجية قادرة على مواكبة التحولات والمستجدات، كذلك تفاؤلهم بقدرة الحزب وكوادره على إدارة الاختلاف وإنجاحه. لمن سيصوت "البوديموسيون"؟ في كثير من الأحزاب، يمكن التكهن بنتائج انتخابات هيئات الحزب، خصوصا مع توفر معطيات كافية حول خصوصيات مناضلي الحزب ومنخرطيه، إلا أن حزب "بوديموس" لحداثة عهده ولطبيعة نظام الانخراط فيه وكذلك طبيعة منخرطيه، فان الباب يبقى مفتوحا أمام كل الاحتمالات، بما فيها الإطاحة الديمقراطية بزعيمه "بابلو اغليسياس"، وهو معطى وإن كان مستبعدا إلا أنه ممكن؛ فحزب "بوديموس" عودنا على المفاجآت لعل من بينها نتائج الانتخابات العامة الأخيرة في يونيو 2016 التي تراجعت فيها أصوات الحزب بمقدار مليون صوت، بينما كانت توقعات استطلاعات الرأي تشير إلى أنه سيزيح الاشتراكيين من المرتبة الثانية. سيتقدم زعيم الحزب "بابلو اغليسياس" بلائحة فريقه وببرنامجه وكله أمل في أن يحسم الحزب أمر من يحكمه، لكن إن تم اختيار غريمه أو اختيار برنامجه وفريقه، فإن ذلك قد يشكل منعطفا مهما؛ لأن زعيم "بوديموس" وعد بالتنحي حينها من قيادة الحزب، وهو ما سيشكل انتكاسة حقيقية للحزب؛ لأن صورة "بوديموس" أضحت من صورة "بابلو اغليسياس" ومن الصعب على أي كان ملأ هذا الفراغ، على الأقل في الوقت الراهن. الخلاصة أن حزب "بوديموس" يمر بمرحلة مصيرية، إن نجح في تجاوزها فإنه حتما سيشتد عوده وسيمضي قدما في خلق خريطة سياسية جديدة في إسبانيا، قد يصل من خلالها يوما إلى قيادة اليسار والبلاد، بينما فشله، وتصدعه نتيجة الانقسامات والنزاعات الداخلية، سيجعله يندحر ويتراجع، ويجعل ناخبيه ومناضليه يقتنعون بأنه امتداد لسابقيه، وربما يدفع ذلك إلى بعث الحياة، من جديد، في الثنائية الحزبية، وخصوصا ضخ دماء جديدة في "الحزب الاشتراكي" الذي ضاق درعا "ببوديموس"؛ لأنه يقتات من أصواته وينافس عرشه. فهل يستطيع حزب "نستطيع" تجاوز امتحانه وأزمته الأولى أم إنه سيقضي على حلم جزء من الإسبان بعهد جديد من السياسة والساسة؟