نقابي: البطالة سترتفع بتطوان بعد عزم شركة إسبانية طرد أكثر من 220 عامل وعاملة    شي جين بينغ: الصين تملك "ثلاثة مفاتيح" لنهضة الذكاء الاصطناعي    المغرب ودول الساحل .. انفتاح استراتيجي واستثمار للحدود المشتركة    هكذا انهارت الشبكة الكهربائية لإسبانيا في خمس ثوان.. أسباب محتملة    وزارة الأوقاف تحذر من إعلانات متداولة بشأن تأشيرة الحج    أمريكا تهنئ حزب رئيس وزراء كندا    93 في المائة من مياه الاستحمام بالشواطئ المغربية مطابقة لمعايير الجودة    سجن المحمدية يهتم بحقوق النزلاء    الحرس الإسباني يغلق "نفق سبتة"    19 قتيلاً و3018 جريحاً في حوادث سير خلال أسبوع واحد بالمناطق الحضرية    أمني متقاعد ينتحر في القصر الكبير    رئيس الحكومة يترأس اجتماعا لتتبع تنزيل خارطة طريق قطاع التشغيل    انقطاع ضخم للكهرباء يشل أوروبا الجنوبية... هل تقف الجزائر وراء الحادث؟    باريس سان جيرمان يراهن على حكيمي أمام أرسنال في قمة نارية بنصف نهائي أبطال أوروبا    المغرب يساعد إسبانيا على تجاوز أزمة انقطاع الكهرباء عبر تزويدها بطاقة كهربائية هامة    البيضاء…..ختام فعاليات الدورة السادسة من مهرجان إبداعات سينما التلميذ للأفلام القصيرة    ملتقى في الصويرة يناقش "المواسم التقليدية رافعة للاقتصاد في الوسط القروي... زوايا ركراكة نموذجًا"    القيدوم مصطفى العلوي يُكرَّم في منتدى الصحراء للصحافة بكلمة مؤثرة تلامس القلوب    البنك الدولي يتوقع انخفاض أسعار السلع الأولية إلى مستويات ما قبل كورونا    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    إسبانيا.. ظهور السفينة الحربية المغربية "أفانتي 1800" في مراحل متقدمة من البناء    ربط المغرب بآسيا.. اتفاقية استراتيجية بين المكتب الوطني للسياحة وطيران الإمارات    شراكة تجمع التعليم العالي و"هواوي"‬    المغرب يدين أكاذيب الجزائر بمجلس الأمن: هوس مرضي وتزييف الحقائق    "النهج": الحوار الاجتماعي يقدم "الفتات" للأجراء مقابل مكاسب استراتيجية ل"الباطرونا"    "البيجيدي" يطالب بتوسيع "الانفراج الحقوقي" ويؤكد أن البناء الديمقراطي بالمغرب شهد تراجعات    خبر مفرح للمسافرين.. عودة الأمور إلى طبيعتها في مطارات المغرب بعد اضطرابات الأمس    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    كاميرات ذكية ومسرح في المدارس المغربية لمواجهة العنف    كيف يمكن لشبكة كهرباء أن تنهار في خمس ثوان؟    أورنج تهدي مشتركيها يوما مجانيا من الإنترنت تعويضا عن الانقطاع    حريق مطعم يودي بحياة 22 في الصين    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    أخبار الساحة    موكوينا يخلط أوراق الوداد الرياضي    تنظيم ماراتون الدار البيضاء 2025 يسند إلى جمعية مدنية ذات خبرة    هذا المساء في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية: المؤرخ ابن خلدون … شاعرا    الديبلوماسية الموازية مهمة جوهرية للحزب    يضرب اليوم موعدا مع تنزانيا في النهائي القاري .. المنتخب النسوي للفوتسال يحقق تأهل مزدوجا إلى نهائي كأس إفريقيا وبطولة العالم    مشروع مستشفى بالقصر الصغير في طي النسيان منذ أكثر من عقد يثير تساؤلات في البرلمان    البطولة.. أربعة فرق تحاول تجنب خوض مباراتي السد وفريقان يصارعان من أجل البقاء    خبير اقتصادي ل"رسالة 24″: القطار فائق السرعة القنيطرة مشروع استراتيجي يعزز رؤية 2035    مؤسسة المقريزي تسدل الستار على الأسبوع الثقافي الرابع تحت شعار: "مواطنة تراث إبداع وتميّز"    شباب خنيفرة يسقط "الكوكب" ويحيي الصراع على الصعود    لقاء علمي بجامعة القاضي عياض بمراكش حول تاريخ النقود الموريتانية القديمة    عودة حمزة مون بيبي : فضيحة نصب تطيح بمؤثر شهير في بث مباشر وهمي    السايح مدرب المنتخب النسوي للفوتسال: "التأهل للنهائي إنجاز تاريخي ونعدكم بالتتويج بلقب الكان.. والفضل يعود لهشام الدكيك"    سانشيز يشيد بتعاون المغرب لإعادة الكهرباء    أزيد من 403 آلاف زائر… معرض الكتاب بالرباط يختتم دورته الثلاثين بنجاح لافت    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"كرنفالات العالم".. احتفاليّات صاخبَة تستنشق عبق التاريخ
نشر في هسبريس يوم 11 - 02 - 2017

مع بداية شهر فبراير الجاري طفقت تنطلق في العديد من بلدان ومناطق العالم تظاهرات احتفالية تقليدية، متوارثة كبرى صاخبة ضاربة في القدم، تُعرف ب"الكرنفالات"..من أين تستمدّ هذه التقاليد أصولها؟ ما هي منابعها، ورموزها وسرّ شهرتها، وبهرجتها، والإقبال عليها بهوسٍ وجنون في أماكن تواجدها وانتشارها..؟!
البهرجة والإمتاع
لقد حالَ الحوْل، ودار الزّمان وانطلقت وتعالت الموسيقى الصّاخبة تصدح في مختلف كرنفالات العالم. أقبل موسم الاحتفالات، وإشاعة الفرح، والمرح، والرّقص. لا مجال للحزن، والأسى، والشجن بين هذه الجموع الغفيرة التي تغني للحياة، فتتوارى معها أحزانها وأتراحها، ومآسيها، في خضمّ هذه الأجواء الاحتفالية.. ترى الوجوه باشّة هاشّة ضاحكة، والقلوب تخفق سعادة وهناءة وحبوراً، وتلمح الأيدي وهي تمتدّ في شجون نحو أخرى لتصافحها مهنّئة باستقبال موسم الكرنفالات، وأجواء الجنون والفنون، والبهرجة والإمتاع.. كلّ مدنهم، وحواضرهم الكبرى تسبح في ثبج فضاء أثيريٍّ بهيج، وأضواء النيّون تنتشر في كل مكان، والزّخارف والمجسّمات المزركشة، والألوان الزاهية تملأ الشوارع الكبرى والمحجّات.. تعاقر الكؤوس بعضها بعضاً، تنفرج الأشداق من القهقهات، وتزيغ العيون، وتتيه العقول. الكلّ يرقص متمايلاّ، مترنّحاً، في جنون، ويأتي العناق تلو العناق الصادق والزائف، والدافئ الزائد يتحوّل إلى نار كاوية، وتدور الأكواب الدهاق، والصّحون الشهيّة الممتلئة تحشو البطونَ المنتفخة بالطعام المزّ، والشراب المرّ، والحديث ذو شجون.. يفرحون، يمرحون، يصيحون ويهللون..على إيقاعات موسيقى السّامبا المدويّة، الكلّ يصيح، ويضحك جذلاً بحلول الموسم الكرنفالي السعيد، منتشياً على سواحل ريو دي جانبيرو، وكانكون، وميامي، وجزر الكناري بأرخبيل الخالدات، وضفاف مدينة البندقية، الكلّ ينشد السعادة في عالم مشحون بالبؤس والشقاء.
في الجانب الآخر من العالم
في الجانب الآخر من العالم، أفواج هائلة من البشر، من شيوخ، وأطفال، ويتامى، وثكالى، يفرّون على غير هدىً، بعيداً عن هول الحروب المقيتة، وشرور ويلاتها، يهربون بجلدهم عن التطاحنات الكريهة، عن الهيجاء اللعينة التي أصبحت تملأ حياتهم، وتحيلها إلى جحيم مقيم، ينطلقون في أرض الله الواسعة، وفى كلّ وادٍ يهيمون، يركبون قوارب مطاطية هشّة، يصاحبهم على ظهرها الموت الزّؤام.. ينطلقون بدون وجهة إلى حيث لا يعلمون..يلفّهم البرد القارس الزمهرير، ويغطيهم الثلج الصقيع المتكاثف، ويمزّق أوصالهم الطّوى، ويغلفهم البؤس، وتسكنهم الكآبة... عند المحتفين والراقصين هناك دائما فائض، هناك دائما زيادة، هناك دائما تضخّم، ولكن ثمة دائماً بالمقابل عوز وخصاصة وفاقة واحتياج، وقبض من ريح، وحصاد من هشيم، ولفحة من برد لاسع، قلّت الحروب وهدأت، وخبا أوارُها، ونمت، واستشرت بالمقابل الفتن، والقلاقل والثورات في مختلف أصقاع المعمور، ما عدا في أماكن بعينها من العالم حيث لا بدّ أن تظل فيها رحى الحرب الممقوتة تدور بثقالها وثفالها إلى أجلٍ غير معلوم ..في تلك البقعة النائية من العالم حيث القوم الذين نصبوا العجل الذهبيّ في أعلى الرّبوة، وأولوا ل"الهداية" ظهورهم، ووُهِموا بالنصر، أنا وأنت وهو والآخرون يعرفون أين تقع هذه الأرض الطيبة الطاهرة..إنها حيث يتسلل الصيّادون بفخاخ البشر، وحشيتهم أحدُّ فتكاً من أنياب الذئاب، وكبرياؤهم أشدُّ عمىً من الآجام المظلمة، لننسَ أو لنتناسى قليلاً.. المحتفون في زخم الكرنفالات الهوجاء يتجاهلون هذه الأحداث... يقولون كفانا تذمّراً وتنطّعاً وشكوىً، فلنعانق، ونعاقر ونحتفي، ولنضحك ولنمح من ذاكرتنا كلَّ شيء ولو إلى حين، ولنجعل بيننا وبين الأحزان والأشجان برزخاً واسعاً، ويمّاً عميقا.
أشهر الكرنافالات وأكثرها سحراً
ألا تراهم هذه الأيام على شاشات المشواف في كل رجءٍ من أرجاء العالم مسرعين ومهرولين في الشوارع والأزقّة والدّروب، وفوق البسيطة وتحتها، وفي الفضاء والبحار، والصحارى والقفار؟. إنّهم يتسارعون على غير عادتهم لأخذ مكانهم في الحفل البهيج لكرنفال البرازيل الشهير وأكثرها سحراً في مدينة "ريّو دي جانيرو للمشاركة في استعراضات مواكب العربات المزركشة الكبرى، وارتداء الأقنعة الغريبة، ومشاركة الأجواق الموسيقية التي تسير كلّها خلال هذه الاستعراضات الضّخمة على وقع أنغامِ متواترة تتميّز بالخصوص بموسيقى السّامبا الصّاخبة، إلى الشوارع الفسيحة التي تُعرض فيها هذه المواكب المبهرجة، حيث تنتهي مسيرتها في مكان يسمّى "امسو درومو"، يشيّد خصيّصاً في ريّو دي جانيرو لهذه الغاية بالذات.
في مناطق أخرى من العالم نجد كرنفالات مدينة "برّا نكييّا" الكولومبية، وجزيرتي "ترينيداد وتوباغو"، والعديد من بلدان أمريكا الجنوبية الأخرى، وفى مناطق الكرايب؛ فضلا عن كرنفالات "ماردي غراس" في "نيو أورليانز" الأمريكية "التي تملأها أجمل العربات المزدانة؛ فضلاً عن ارتداء أغرب ما يمكن أن يصل إليه الخيال في عالم الأقنعة من "المتوجّهين" أيّ من (لابسي الوجوه والأقنعة المستعارة). نجده كذلك في الأرخبيل الكناري (جزر الخالدات) خاصّة في جزيرتي"تينيريفي" و"غران كاناريا"، حيث يختلط الحابل بالنابل في هذه الجزر المتناثرة في بحر الظلمات التابعة اليوم لإسبانيا والمحاذية لسواحل المغرب الجنوبية. في هذه الكرنفالات الكنارية تختلط بعض تقاليد المناطق الاستوائية بالعادات الشعبية الأوربية في مجال الرّقص والغناء. وناهيك عن أفخم وأرقّ وأعرق الاحتفاليات التي تُقام في هذا القبيل، وهي مهرجانات مدينة "البندقية" الإيطالية وما يتخلله من عروض وأزياء غريبة، وأقنعة مثير، ورقصات مقنّعة، وحفلات تنكّرية، وموسيقى، وغناء، وبهرجة لا حدود لها، وتعود جذورها إلى القرن الحادي عشر الميلادي.. ولا ينبغي أن يعزب عن بالنا كرنافال مدينة "قادس" الإسبانية الشهير، وهي مسقط رأس الشاعر الإسباني الذائع الصّيت رفائيل البرتي .
ونحطّ الرّحال بعد طول ترحال في مدينة "بلنسية" الإسبانية، التي يقام فيها كلّ سنة كذلك مهرجان احتفالي آخر كبير يُسمّى "فَايَاسْ"، تصنع خلاله العشرات من المجسّمات والأقنعة والصّور من الخشب أو الكارتون المقوّى، ثم تلوّن جميعها بألوان وصور زاهية مزركشة. وعند نهاية هذا المهرجان الصّاخب تُحرق جميع القطع التي صُنعت والتي قدُّمت أثناء العروض باستثناء قطعتين اثنتين فقط تنجوان من لهيب النار الحارقة وتحظيان بالعفو عليهما خلال هذه العروض المثيرة.
لا مجال للحُزن والشّكوى
ولا مجال في هذه المهرجانات والاحتفالات والكرنفالات للحزن والشكوى والأنين أو للعزلة والانزواء، فقد استمرّت هذه التقاليد قائمة حتى في أحلك وأقسى الظروف التي مرّت بجميع هذه البلدان، باستثناء حالة إسبانيا على وجه الخصوص، حيث كانت هذه الاحتفاليات الكرنفالية محظورة على عهد الجنرال فرانكو.
تعتبر البرازيل إذن بالفعل وبدون منازع من أكبر وأشهر بلدان العالم احتفالاً بالكرنفال. وقد أصبح هذا التقليد في هذا البلد الشاسع والمترامي الأطراف عادة لصيقة بحياة كلّ برازيلي. وكرنفال ريّو دي جانيرو عالم آخر صاخب متعدّد الألوان والألحان والهرج والمرج، والصّخب والدّأب واللّجب، تمتزج فيه كلّ أنواع البشر وأصناف الأعراق وفسيفساء الأجناس على اختلافها؛ فضلا عن العديد من ضروب الأزياء الملوّنة والمزركشة والمثيرة، والأقنعة على اختلاف أشكالها، في بلد خلاسيّ ومولّد ينحدر سكّانه من كلّ الإثنيات والأجناس .
هذه التظاهرات الفنية والشعبية تستمدّ أصولها من تقاليد عريقة ضاربة في القدم، إذ تنحدر كلمة "كرنفال" في اللغة اللاتينية السّوقية (عامية القرون الوسطى) من مصطلح "كارني ليفار"، التي تعني أهجر أكلَ اللحم، أو تجنّب أكلَ اللحم؛ وذلك بسبب الاحتفالات المبالغ فيها، حيث كانت تقدّم فيها جميع أنواع المأكولات ببذخ كبير، خاصة اللحم في تواريخ كان محظوراً فيها أكل اللحم عند المسيحييّن (الكواريسما).
وقد انتقلت عدوى الاحتفالات بالكرنفالات من البرازيليين وغيرهم من شعوب أمريكا اللاتينية إلى بعض الشعوب الهندية والمولّدين الذين ينحدرون من أصول إفريقية أو أسيوية أو من مناطق أخرى من العالم.
الأقنعة أو الوجوه المستعارة
تُعتبر الأقنعة من أولى الوسائل التي يتمّ استعمالها خلال الاحتفالات بهذه الكرنفالات، ولقد وجد الإنسان منذ أقدم العصور في العديد من مناطق العالم في هذه الوجوه المستعارة أو الأقنعة والكرنفالات وسيلة تعبيرية أثيرة، ومتعة مثيرة، نظراً لما يختلج في نفسه من مشاعر، ورغبات، وفضول واستفسارات، وذلك عندما يخفي وجهه إمّا للدّفاع عن نفسه، أو لإحياء عوائده المتوارثة باحثاً عن تفسير أو تبرير لما يساوره من شكوك، وما يعتمل في نفسه من خوالج وتطلّعات. ويأتي ظهور الأقنعة في العديد من الحضارات والمجتمعات القديمة للتوصّل إلى إمكانية تجسيد صور وموجودات أخرى كانت في غالب الأحيان بالنسبة للإنسان القديم بمثابة رموز ذات قدرات هائلة، وطاقات خارقة، ويفرض الإنسان بواسطة ذلك سيطرته على المحيطين به. ومن ثمّ نجد في مختلف الثقافات القديمة أنّ "القناع" كان يرمز إلى القوّة، والسّلطة والجبروت لإثارة الرّعب والهلع والفزع في الآخرين.
والأقنعة التي كانت تستعمل في الرقصات وبعض الطقوس القديمة لم تكن تكمن قيمتها في حدّ ذاتها كأقنعة، بل فيما كانت تقدّمه أو تشخّصه أو تجسّده من صور ومجسّمات. ومازالت هذه التقاليد الشعبية المتوارثة حاضرة في معظم بلدان أمريكا اللاتينية، إلاّ أنّ معناها الرمزي القديم تحوّل اليوم إلى مظاهر احتفالية. واحتلّت الأقنعة التي ارتبطت باحتفاليات المهرجانات والكرنفالات على امتداد مختلف مراحل تاريخ الحضارات القديمة السابقة للوجود الكولومبي في القارة الأمريكية مكانة مرموقة، خاصّة في مجال الفنون الشعبية، مثل الرقص، والغناء، والفلكلور وبعض التظاهرات القديمة التي ترجع أصولها إلى فجر التاريخ. ويتفنّن كل بلد من بلدان أمريكا الجنوبية في صنع أشكال عديدة متباينة من الأقنعة التي لها صلة بتاريخ هذه البلدان وبالأحداث التي تعاقبت عليها. وقد أصبحت هذه الأقنعة اليوم تشكّل جزءاً أساسياً من التراث الثقافي والحضاري لهذه البلدان.
وهذه الوجوه المستعارة هي من الغِنىَ والتنوّع، مّما يبعث على الإعجاب والحيرة، إذ ثمة آلاف الأشكال والأحجام ذات الرموز والإيحاءات المتعدّدة، وتعكس كلها عادات وتقاليد السكّان الأقدمين لهذه المنطقة من العالم. وقد خضعت هذه الأشكال لتأثيرات واضحة بعد اكتشاف أمريكا، وتظهر فيها قوّة الإبداع لدى السكان الأصليين وعفويتهم، وهي تعبّر عن إحساس مرهف بالتعامل مع الطبيعة ومحاولة فهمها وتفسيرها.
إنّ المسرحيات والمهرجانات التي عرفتها الحضارة الإغريقية القديمة، وكذا مناطق أخرى من العالم في آسيا، خير دليل على مدى أهمية هذه الوسيلة في المجتمعات الغابرة. وقد استعمل سكان أمريكا هذه الأقنعة كذلك في المعارك والحروب والمواجهات التي كانت تنشب في ما بينهم في مختلف حقب التاريخ، كما استعملها السّحرة والمشعوذون في التطبيب، وطرد الأرواح الشرّيرة. وهناك أساطير تحكي أنّ الحكام في المجتمعات الهندية عندما كانوا يصابون بمرضٍ أو أذىً أو علّةٍ كانت تُغطّى وجُوهُهم بأقنعة معيّنة معروفة عندهم، ولا تُنزَع إلّا إذا مات حاملها أو شفي من علّته، كما كانت لديهم أقنعة خاصّة بالمراسيم الجنائزية، حيث كانوا يدفنون موتاهم من عليّة القوم بها. وكان المحاربون الذين يخرجون للدفاع عن القبيلة أو الجماعة يرتدون بعض الأقنعة التي تحمل صور الصقور، أو النمور وبعض الحيوانات المفترسة الأخرى لإثارة الرّعب والذّعر في قلوب خصومهم، ذلك أنّ ضراوة تلك الحيوانات كانت معروفة عندهم. وكان هؤلاء المحاربون في أحيان أخرى لا يكتفون بوضع الأقنعة وحسب، بل كانوا يتسربلون بجلود هذه الحيوانات وريشها. وكان النمر الأرقط يحظى بأكبر نصيب في هذه الحالات.
وبعد أن استقرّ الإسبان في القارة الأمريكية أصبحت الأقنعة تستعمل في الاحتفالات والمهرجانات التي تقدّم فيها الرقصات التي تذكّر بالصّراعات والمواجهات القتالية، سواء بين السكان أنفسهم أو بينهم وبين الحيوانات المفترسة. وصارت هذه الأقنعة شيئا فشيئا تكتسب أشكالاً جديدة استقدمها المكتشفون معهم من عالمهم العتيق ونشروها بواسطة المبشّرين. ومن هذه الأقنعة والأردية تلك التي كان يرتديها الإسبان خلال الاحتفالات التي تجسّد مواجهات وحروب "المسلمين والنصارى" أيام الحملات الاستردادية التي خاضها الإسبان ضد معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية في آخر عهودهم بها. وتعرف هذه التظاهرات باحتفالات "موروس إي كريستيانوس"، ومازالت تُقام حتى اليوم في المنطقة الشرقية من إسبانيا، خاصة في مدينتي" بلنسية" و"ألكُويْ" وسواهما من المدن الأخرى، خاصة في مدريد التي استحدث بها هذا التقليد لأوّل مرّة عام 2002 خلال احتفالات هذه العاصمة بعادات وتقاليد المدن الإسبانية الأخرى. وانتقل هذا التقليد في ما مضى مع الإسبان إلى معظم بلدان أمريكا الجنوبية التي أصبحت هي الأخرى تقيم هذا النّوع من الاحتفالات حتى اليوم في المهرجانات الشعبية والكرنفالات.
أشكال الأقنعة وأنواعها
أدخلت على أشكال الأقنعة التي استقدمها الأوربيون معهم إلى هذه البلدان إضافات عدّة، إذ طبعت بطابع كل بلد وما تمليه تقاليده، ومعتقداته، وحضارته. وقد انتقلت هذه الأشكال الجديدة من جيل إلى جيل.
ويتسابق الصنّاع التقليديون في صنع هذه الأقنعة التي ما فتئ الإنسان "المتحضّر" يستعملها هو الآخر حتى اليوم في حفلاته التنكرية التي تضرب أصولها في التاريخ القديم. وخلال الحفريات الأثرية في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية عثر على أنواع عديدة من هذه الأقنعة المصنوعة من مختلف المعادن، كالذهب والفضّة والنحاس والسبج والأحجار البركانية، والأحجار السوداء الزجاجية والجزع، وهو نوع من العقيق، والمحارات، والصدف، واليشم الذي كان يستعمل كثيراً في تزويق، وتنميق، وترصيع مختلف هذه الأقنعة. وبالإضافة إلى وظيفته الجمالية والطقوسية كان القناع يحظى عند السكان الأصليين باحترام كبير.
وهناك ضروب أخرى من الأقنعة الخفيفة التي يحملها أصحابها في المهرجانات الشعبية، وهي مصنوعة من الورق المقوّى المبلّل الذي يمكن طيّه بسهولة وإعداده بمختلف الأشكال المطلوبة، ثم يوضع في مكان حارّ ليجفّ وأخيراً يلوّن حسب نوعية الحفلات أو الرّقصات أو المناسبات.
وتجتهد القرائح الشعبية في صنع أغرب الأقنعة والأردية، والتي يكون لها وقع وتأثير في الجماهير. وتصنع أقنعة وقبّعات عريضة مزيّنة بريش الدواجن، والطيور، والكواسر النادرة. وقد اعتاد السكان في العديد من المناطق على طلاء أبدانهم بخطوط ملوّنة، وتغطية وجوههم بأقنعة حيوانية، ويبدؤون في خوض غمار معركة حامية بين قوّى الخير والشرّ، حيث تكون الغلبة في آخر المطاف للجانب الخيّر على الجانب الشرّير، فتشيع السعادة ويعمّ الحبور جميع الحاضرين.
وهناك نوع آخر من الأقنعة التي لا توضع على الوجه بقدر ما تستعمل في بعض الحفلات والرقصات، حيث يتمّ وضعها للزينة، وهي تصنع من جذوع الشجر ولحائها ويقوم الفنان بنحتها بمختلف الأشكال المتفاوتة بين الفرح والحزن، والملهاة والمأساة والدعة والعنف. ومازال هذا النوع من الإبداع الفنيّ مستعملاً بكثرة في مختلف بلدان أمريكا الجنوبية. كما تصنع من جذوع الشجر كذلك تماثيل كاملة لأناس في أوضاع مختلفة (صياد، إسكافي، عازف على القيثار..إلخ). وقد اعتاد سكان هذه المناطق على لمس اللحى والشوارب التي تصنع لهذه التماثيل، إذ يعتقدون أنّ في ذلك مجلبة للسّعد وحسن الطالع لهم. وهناك أقنعة تصنع خصّيصا لتقديم رقصات في مواسم معيّنة تؤرّخ لأحداث مشهورة في تاريخ هذه الشعوب، كالاحتفالات التي تقام للشمس، والأهرامات، أو البحر، أو لبعض تقاليد الصّي. وتستعمل في مثل هذه الحالات رؤوس الحيوانات المحنّطة، مثل الأيّل أو النمر، ثم تلبس هذه الأقنعة على رؤوس الراقصين الذين يقومون بدور الحيوانات التي تركض في أعداد هائلة في مختلف الاتّجاهات مذعورة، محاولة الفرار من سنان الرّماح والنبال التي تطاردها وتنثال عليها من كل جانب، ثم تذعن أخيراً وتخرّ أمام الضّربات الفاتكة وتهلك في تشنّج عضلي وارتعاش. وتذكّرنا هذه الصّورة بالبيت العربي القديم الطريف الذي يقول: تكاثرتِ الظباءُ على خداشٍ / فما يدري خداشٌ ما يَصِيد..!
*كاتب، وباحث، ومترجم، وقاصّ من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.