قيل في التراث: وراء كل رجل عظيم امرأة. يهمس صديقي تزرني في أذني غير ما مرة قائلا: "ثمة كآبة ما هي التي تفتح المجال من أجل أن نحب". كذلك الأمر في قصة نيتشه مع سالومي، هايدجر مع حنة ارندت والرسول محمد(ص) مع السيدة خديجة. ونجازف بالقول إن القصة التي صور لنا خليل جبران عن الفتاة سلمى في رسم فني يحاكي الجمال هي نفسها حب مثالي لا يختلف عما روى لنا سيد قطب في سرده للأشواك. فقد تتفرق السياقات ولكن القضية واحدة؛ إنها الحب الخالص، أو هكذا يبدو لنا على أية حال. سلمى هي حكاية كل فتى؛ "تظهر على حين غفلة في ربيع حياته. وتجعل لانفراده معنى شعرياً وتبدل وحشة أيامه بالأنس، وسكينة لياليه بالأنغام"، هكذا يعلق مهند أبو جحيشه في أول نظرة يلقيها على الأجنحة المتكسرة التي سبر أغوارها بروحه يحدث نفسه بالسؤال: أي الطريق أقرب إلى سلمى؟ ولكن لا بأس أن نرخي بظلال العين على الأجنحة من جديد. لمَ هي متكسرة؟ يستهل خليل جبران روايته بالحديث عن الكآبة الخرساء. يقول: "في تلك السنة شاهدت ملائكة السماء تنظر إليّ من وراء أجفان امرأة جميلة. وفيها رأيت أبالسة الجحيم يضجون وتراكضون في صدر رجل مجرم –ومن لا شاهد الملائكة والشياطين في محاسن الحياة ومكروهاتها يظل قلبه بعيدا عن المعرفة ونفسه فارغة من العواطف". وتنطلق الحكاوة يتوقف هنيهة عند يد القضاء مطلا من النافذة.. يحدثنا: "إن ذكر المصيبة يدنيها مثلما يقرب الموت الخوف من الموت". وعند باب الهيكل يصرح عاشق سلمى: "إن الجمال سر تفهمه أرواحنا وتفرح به وتنمو بتأثيراته، أما أفكارنا فتقف أمامه محتارة محاولة تحديده وتجسيده بالألفاظ ولكنها لا تستطيع. هو سيال خاف عن العين يتموج بين عواطف الناظر وحقيقة المنظور، الجمال الحقيقي هو أشعة تنبعث من قدس أقداس النفس وتنير خارج الجسد مثلما تنبثق الحياة من أعماق النواة وتكسب الزهرة لونا وعطرا -هو تفاهم كلي بين الرجل والمرأة يتم بلحظة، وبلحظة يولد ذلك الميل المترفع عن جميع الميول-ذلك الانعطاف الروحي الذي ندعوه حبا، فهل فهمت روحي روح سلمى في عشية ذلك النهار فجعلني التفاهم أراها أجمل امرأة أمام الشمس، أم هي سكرة الشبيبة التي تجعلنا نتخيل رسوما وأشباحا لا حقيقة لها؟". سلمى الشعلة البيضاء ولكن لماذا هذا اللقب؟ يجيب مجنون سلمى أن النفس الحزينة المتألمة تجد راحة بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها بالشعور وتشاركها بالإحساس مثلما يستأنس الغريب في أرض بعيدة عن وطنه. ولكن فجأة تنطفئ هذه الشعلة والسبب.. نتساءل ماذا جرى لسلمى يا ترى؟ إنها العاصفة يقول الحزين.. ذلك أنها سمعت صوتا مخنوقا يحدثها قائلا: "عما قريب يا سلمى.. عما قريب تخرجين من بين ذراعي والدك إلى ذراعي رجل آخر.. عما قريب تطير بك سنة الله من هذا المنزل المنفرد إلى ساحة العالم الواسعة فتصبح هذه الحديقة مشتاقة إلى وطء قدميك ويصير والدك غريبا عنك.. لقد لفظ القدر كلمته يا سلمى.. فلتباركك السماء وتحرسك". ويقف الحب على بحيرة النار.. يحكي لنا الواقف على البحيرة هذه الكلمات: "إن الذين لم يمنحهم الحب أجنحة لا يستطيعون أن يطيروا إلى ما وراء الغيوم ليروا ذلك العالم السحري الذي طافت فيه روحي وروح سلمى في تلك الساعة المحزنة بأفراحها المفرحة بأوجاعها". ويتساءل جبران: "أي بشري لم يرشف من خمرة الحب في إحدى كاساته؟ أية نفس لم تقف متهيبة في ذلك الهيكل المنير المرصوف بحبات القلوب المسقوف بالأسرار والأحلام والعواصف؟ أي زهرة لم يسكب الصباح قطرة من الندى بين أوراقها؟ وأي ساقية تضل طريقها ولا تذهب إلى البحر؟". يستأنف المسير إلى عرش الموت.. وأمام عرش الموت تلفظ بهذه الحروف الثمينة.. يحدث تقاليد الزيجة من صبايا السلع في زوايا المنازل إلى الموت البطيء؛ إذ يقر بأن "الزيجة في أيامنا هذه مضحكة مبكية يتولى أمورها الفتيان وآباء الصبايا ..الفتيان يرجون في أكثر المواطن والآباء يخسرون دائما.. أما الصبايا المنتقلات كالسلع من منزل إلى آخر فتزول بهجتهن.. ونظير الأمتعة العتيقة يصير نصيبهن زوايا المنازل حيث الظلمة والفناء البطيء". وترك رسالته إلى سلمى ورحل.. كتب يقول: "هلمي نقف كالجنود أمام الأعداء متلقين شفار السيوف بصدورنا لا بظهورنا.. فإن صرعنا نموت كالشهداء وإن تغلبنا نعيش أبطالا". ويختم في آخر السطور: "إن عذاب النفس بثيابها أمام المصاعب والمتاعب لهو أشرف من تقهقرها إلى حيث الأمن والطمأنينة". فظلت سلمى تردد بهدوء: "اشفق يا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة". انتقل جبران إلى حديث عن عشتروت والمسيح.. وفي معرض الحكاوة يذكر ما نقش على جدران الهيكل يروي ما بين الانعطاف والتضحية.. بين عشتروت الجالسة على العرش ومريم الواقفة أمام الصليب.. إن الرجل يشتري المجد والعظمة والشهرة ولكن هي المرأة التي تدفع الثمن". هي التضحية إذن.. ولكن كيف تقوى سلمى على ذلك؟ تقول سلمى أنا لا أخاف على نفسي من المطران لأن الغريق لا يخشى البلل.. ويؤنس وحشتها المنقذ؛ إذ تخط أنامله من أجلها هذه الحروف: "إن الشجرة التي تنبت في الكهف لا تعطي ثمارا ولمى كرامه كانت في ظل الحياة فلم تثمر أطفالا.. إن البلبل لا يحوك عشا في القفص كيلا يورث العبودية لفراخه". سلمى تضع التراب على ابنها وتدفن بنفس القبر قلبها.. وتنتهي الحكاية.. قصص ترسم الحب في صورته الجمالية الكاملة.. التقاء روح بروح وكان الحبيب لحبيبه واحد.. ولكن تأبى الظروف إلا أن تفصل الوفاء الواحد إلى نصفين وبعد ذلك إلى أشلاء.. وبقايا ذكريات.. تمضي الأيام وما يزال الماضي يحدثنا ..عن سلمى وسالومي وحنة ارندت والسيدة خديجة .. نساء كن وراء رجال عظماء.. ولكن الرجل اشترى المجد والشهرة في حين المرأة هي من دفعت الثمن. ألم يكن شوبنهاور يقول لأمه: "يا أمي أنت إلى مزبلة التاريخ.. وإذا حدث وذكرك هذا التاريخ فسيذكرك على أنك أم لشوبنهاور ليس إلا".. كذلك الأمر في أحايين كثيرة.. فهل نجرأ على قول الحقيقة؟.. في الحاجة إلى الإنصاف.. إلى التضحية.. إلى الاعتراف.