يلاحظ المتتبع لتشكيل الحكومة المرتقبة وجود مساحات غامضة وملغومة في مسار المشاورات نتيجة غياب منهجية الجرأة والوضوح والحسم والثقة المتبادلة عند المشاورين. ويتبين، إلى حد الآن، أنه لا تكليف ملك البلاد بنكيران بتشكيل الحكومة منذ 10 أكتوبر، ولا اجتماع مستشاري الملك مع بنكيران، ولا كثرة المشاورات بين أخنوش وبنكيران العنصر لشكر شباط ساجد منذ شهور، ولا بلاغ المجلس الوطني لحزب الاستقلال ليوم 31 دجنبر، لا شيء من ذلك أزال هاته المساحات الغامضة والسوداء المحيطة بتشكيل الحكومة، مما جعل المواطن يشعر بالدوران والحيرة والتساؤل: من المسؤول عن هذا التعثر؟ ومن يقول الحقيقة؟ هل هو بنكيران أم شباط أم أخنوش أم لشكر؟ فالمواطن لا يفهم حول ماذا يتفق بنكيران مع أخنوش وشباط والعنصر ولشكر، وحول ما ذا يختلفون في مشاوراتهم، هل حول برامج حكومية أم حول تكتيكات وأجندات سياسية؟ بعد أن ضيع بنكيران خيار تشكيل الحكومة من أحزاب الأغلبية، دون أن يتورط مع حزب الاستقلال الذي قدم له أمينه العام هدية لإخراجه من الورطة التي وضعه فيها وإسقاطه في ورطة أخرى، هي حزب الاستقلال، بعد تشكيل لجنة ثلاثية دون شباط لتدبير ملف المشاورات، وإعلان هذا الأخير مساندته للحكومة التي يقودها بنكيران، سواء كان في الأغلبية الحكومية أو في المعارضة. بنكيران الرقم الصعب والمناور الأساسي في معادلة تشكيل الحكومة يمكن وصف بنكيران بالمحاور أو المفاوض السهل الممتنع. فبالرغم من ظهوره بالمفاوض السهل الذي يرغب في إخراج تشكيل الحكومة من تعثرها، إلا أنه يفاوض في العمق باستراتيجية رباعية الأسس: أولها: الحذر من مناورات الدولة العميقة. ثانيها: الخوف من تدخل حزب الأصالة والمعاصرة في عرقلة تشكيل الحكومة. ثالثها: الحذر من أحزاب التجمع الوطني والحركة الشعبية والاتحاد الدستوري لكونها أحزابا "غير مستقلة القرار". رابعها: التشبث بحزب الاستقلال للضغط به على أخنوش ليتخلى عن حزبي الاتحاد الاشتراكي والاتحاد الدستوري. وعلى هذا الأساس، فمنهجية بنكيران في التفاوض مع باقي الأحزاب لتشكيل الحكومة ليست بالبريئة أو الساذجة، بل إنها منهجية مدروسة ومخدومة وذكية واستراتيجية تؤمن له تشكيل الحكومة بأقل الأضرار، بعد تسرعه في التخلي عن أغلبيته الحكومية السابقة والرهان على أحزاب الكتلة، التي لم يبق منها إلا الاسم بعد ترك حزب الاستقلال وحيدا في الواجهة، واختباء حزب التقدم والاشتراكية وراء بنكيران، والاتحاد الاشتراكي وراء أخنوش، وتشبت أخنوش بشروطه الظاهرة والخفية التي قد تتجاوز سقف رفض شباط وحزب الاستقلال. خلاف أخنوش مع بنكيران استراتيجي وليس تكتيكيا مرتبطا بحزب الاستقلال لا تعرف، إلى حد الآن، أسباب رفض أخنوش مشاركة شباط أو حزب الاستقلال أو هما معا في الحكومة المقبلة بهذه الصرامة، بل لا يعرف أيضا حتى أسباب تشبث بنكيران بحزب الاستقلال وبشباط وحزب التقدم والاشتراكية وأمينه العام بنعبد الله، مما يوحي بأن المسكوت عنه في الخلاف القائم بين أخنوش وبنكيران حول تشكيل الحكومة أعظم وأعمق من خلاف عابر حول أشخاص أو أحزاب، بل إنه خلاف استراتيجي يمتد إلى سنة 2021 وما بعدها؛ لذلك يصعب وقوع أي تقدم في مشاورات تشكيل الحكومة دون تنازل بنكيران عن التشبث بحزب الاستقلال، وتنازل أخنوش عن أربع قضايا: أولها دخول أخنوش الحكومة وفق حجمه الحقيقي؛ أي ب37 مقعدا نيابيا وليس ب 56 مقعدا بعد تشكيل فريق واحد مع الاتحاد الدستوري بالبرلمان. ثانيها: التخلي عن حزب الاتحاد الدستوري. ثالثها: التخلي عن حزب الاتحاد الاشتراكي الذي لا تنظر قيادات حزب العدالة والتنمية وأمينه العام بعين الرضى إلى إدريس لشكر الذي كان قريبا من حزب الأصالة والمعاصرة أثناء الانتخابات، والذي ناور أثناء مشاوراته مع بنكيران ليرتمي في آخر المطاف في أحضان أخنوش وحزبه، وإصدار بلاغ مشترك بالدخول أو الخروج معا من الحكومة المرتقبة، الأمر الذي سيعقد الأمور بين بنكيران وأخنوش. رابعها: الاتفاق المبدئي حول توزيع المناصب والحقائب الوزارية حسب نتائج انتخابات 7 أكتوبر. إمكانية تخلي بنكيران عن شباط وحزبه لكن بشروط لا شك أن بنكيران معه رضى الوالدين بعد منحه شباط هدية سياسية مهمة بإعلانه بالمجلس الوطني تخليه عن بعض مهامه وعدم الترشح لأي منصب وزاري، وتشكيل لجنة للتفاوض مع بنكيران الذي ينهج دبلوماسية مرنة مع حزب الاستقلال رغم اقتناعه بصعوبة تشبثه به في الحكومة المقبلة، خصوصا بعد تخلي القيادات الرمزية للحزب، الأمينين السابقين امحمد بوستة وعباس الفاسي، عن شباط واعتباره غير مؤهل لقيادة حزب الاستقلال، لكن بنكيران لن يتخل مجانيا عن حزب الاستقلال دون مقابل تخلي أخنوش عن حزبي الاتحاد الاشتراكي والاتحاد الدستوري؛ لذلك أتوقع أن هاذين العنصرين سيعرقلان تشكيل الحكومة من جديد إذا لم تتدخل قوى من فوق لإيجاد توافقات بين أخنوش وبنكيران، الذي لن يقبل أن ينبطح كليا أمام شروط زعيم "الأحرار" الذي يجب أن يتفاوض بحجمه الحقيقي النيابي؛ أي ب37 مقعدا، وليس ب 56 مقعدا كما يريد بعد تشكيله فريقا مشتركا مع الاتحاد الدستوري. مناورات أخنوش أوقعته في ورطة بنكيران نفسها ستتوجه كل الأنظار صوب أخنوش الذي تسرع هو أيضا في إعلان تحالف برلماني مع الاتحاد الدستوري، وتحالف حكومي مع حزب الاتحاد الاشتراكي، وزار بنكيران رفقة العنصر، الأمين العام للحركة الشعبية وهو ما يعني أنه يقود مجموعة رباعية مشكلة من التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الاشتراكي والاتحاد الدستوري والحركة الشعبية والتي لا ينظر لها بنكيران بعين الرضى. وانطلاقا من هاته المعطيات، فاذا بقي أخنوش متشبثا بمجموعته الرباعاية للمشاركة في الحكومة المقبلة، فإن بنكيران لن يتنازل بسهولة عن حزب الاستقلال - الذي دبر مرحلة الأزمة التي سببتها له تصريحات شباط حول موريتانيا بذكاء وبراغماتية- وسيطالب هو أخنوش –أيضا- بتنازلات خصوصا التخلي عن حزبي الاتحاد الاشتراكي والاتحاد الدستوري، وإلا فإن تشكيل الحكومة سيطول، أو سيتفقان عن تشكيل الحكومة من 7 أحزاب هي العدالة والتنمية والاستقلال والتقدم والاشتراكية والحركة الشعبية والتجمع الوطني والاتحاد الاشتراكي والاتحاد الدستوري، وهذا سيناريو مستبعد لكونه سيفرز حكومة مبلقنة ومرفوضة شعبيا ومتناقضة مع معايير الانسجام التي حددها الخطاب الملكي بداكار؛ حيث أعلن جلالة الملك أنه سيحرص على إلزام رئيس الحكومة المكلف باحترامها أثناء تشكيل الحكومة. مصلحة الوطن تفرض تنازلات من بنكيران ومن أخنوش لا يختلف اثنان على أن لكل من بنكيران وأخنوش استراتيجيته التفاوضية. بنكيران له شرعية انتخابية وشعبية قيادته للحكومة أمر أساسي، وأخنوش له ثقة القصر ورجال المال والأعمال، وحوله نخبة مؤهلة من الموارد البشرية، ومشاركته أساسية في الحكومة المقبلة، وقد وعى بذلك بنكيران، خصوصا بعد الاتفاقيات التي وقعها المغرب مع عدد من الدول الإفريقية والتي كان فيها حضور الوزراء التجمعيين لافتا. وعليه، فلا خيار لتشكيل الحكومة إلا تقديم تنازلات متبادلة بين بنكيران وأخنوش عبر الدخول في مشاورات أساسها الثقة المتبادلة، والتفاوض باسم حزبيهما وليس باسم مجموعات حزبية، لكون السياق الوطني والإقليمي والدولي الذي تجري فيه مشاورات تشكيل الحكومة جد حساس، خصوصا بالنسبة للقضية الوطنية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العامة التي يمر منها المغرب، والتي تتطلب جعل مصلحة الوطن قبل مصلحة الحزب والأجندات الضيقة. التشكيلة الحكومة الرابحة لبنكيران ولأخنوش هي تركيبة الأغلبية الحكومية السابقة يبدو أن الأمور تعقدت أكثر بعد الاجتماع الاستثنائي لحزب الاستقلال الذي تشبث بالمشاركة في الحكومة دون شروط، وزيارة أخنوش لبنكيران مع العنصر دون ساجد، أو دون إدريس لشكر الذي يظهر أنه قريب من صف المعارضة منه إلى صف الأغلبية لكون قيادة حزب العدالة التنمية وبنكيران غير مستعدين لقبول تواجده وحزبه في الحكومة، خصوصا بعد موقفه الغامض من المشاركة في الحكومة، وتخليه عن حزب الاستقلال، وتقربه من حزب التجمع الوطني للأحرار ورئيسه، عزيز أخنوش، الذي يوجد اليوم في ورطة للتخلي عنه بعد إعلان تحالفه معه إذا ما رفض بنكيران مشاركته في الحكومة التي سيتكلف هو بتشكيلها دستوريا، وليس أخنوش. وهنا يتبين الفرق بين بنكيران وأخنوش، فالذي يتحمل المسؤولية الثقيلة في تشكيل الحكومة هو عبد الإله بنكيران الذي يوجد اليوم في مفترق الطرق نتيجة ضغوطات أعضاء حزبه والقصر الملكي وأحزاب الاستقلال والتجمع الوطني والحركة الشعبية والرأي العام. وأمام هذه الضغوطات، يمكن لبنكيران الرهان على خيار تشكيل الحكومة من أحزاب الأغلبية السابقة؛ أي العدالة والتنمية والتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية، شريطة منح الحقائب الوزارية لكل حزب حسب حجمه الحقيقي؛ أي حسب نتائج الانتخابات التشريعية ل7 أكتوبر لتفادي أي تعثر جديد. والأكيد أن هناك مؤشرات عدة تدل على أن الخلاف الذي رافق بداية تشكيل الحكومة منذ بدء المشاورات كان سياسيا تداخلت فيه أوراق عدة، كان الرهان فيها إقصاء حزب الاستقلال الذي هاجم الدولة وحزب "البام"، ومعاقبة رئيس الحكومة المكلف لكيفية تدبيره ملف المشاورات، خصوصا بعد تجاوز بنكيران الخطوط التي حددت له ومواجهة أخنوش، رجل المرحلة، كزعيم سياسي عاد، الأمر الذي دفع به إلى العودة إلى أحزاب الأغلبية السابقة لتشكيل الحكومة. وتدل أيضا هذه المؤشرات على أن كل التحالفات التي تمت بين حزب العدالة والتنمية من جهة، وأحزاب التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الاشتراكي والاتحاد الدستوري من جهة أخرى، كانت مجرد تكتيكات لهدر الزمن حتى تكتمل الصورة لتعود أحزاب الأغلبية السابقة إلى قيادة حكومة طال تشكيلها، لكن مشاوراتها أفرزت تمرينا ديمقراطيا تميز بنقاشات دستورية وسياسية هامة. *أستاذ التعليم العالي كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، أكدال