صناعة المستقبل جماعيا.. انتصار لخيار الوطن المستقر والشعب المتماسك عندما نضع التحولات الأساسية للمغرب تحت المجهر، ونبحث عن امتداداتها في مختلف المجالات، يهيمن في الغالب العنصر السياسي والمؤسساتي. وهكذا، يقفز الإشكال الدستوري إلى الواجهة؛ لأن أغلبية المشتغلين على هذا الموضوع يسكنهم هاجس الصلاحيات وفصل السلط، ومصداقية وفعالية المؤسسات. وإذا كان النزوع إلى تغذية هذا الهاجس وتكريسه أمرا مشروعا، ونابعا من الرغبة في تحديث الدولة المغربية وعقلنة مؤسساتها، وتمكينها من مقومات الاستقرار والاشتغال الجيد بما في ذلك تمتيعها بوسائل إنتاج القيم الديمقراطية، فإن عدم الالتزام بمساءلة عميقة وفكرية للفعل السياسي، ولطريقة اشتغال المجتمع، والقيم التي يقبلها أو تلك التي يرفضها، ولطبيعة النسيج الاقتصادي الوطني، سيشكل دائما عائقا بنيويا ونفسيا وقصورا معرفيا، وسببا رئيسا سيرغمنا على الدوران في الدائرة المغلقة نفسها، فيما نحن نسعى إلى التحرر من أغلال وإكراهات هذه الدائرة. وهذا ما يضع على عاتق النخب السياسية والفكرية المتفاعلة تفاعلا إيجابيا مع محيطها مسؤولية تاريخية لإثارة الأسئلة الجوهرية والأساسية، التي يفرضها مغرب الألفية الثالثة، دون نفاق فكري أو افتراء على التاريخ إرضاء لمصلحة من المصالح. كما أنه يتعين على الأحزاب السياسية أن تمنح الفرصة لانبثاق نخب جديدة قادرة على المبادرة خارج تأثير أية هالة أو قداسة مصطنعة، نخب مترفعة عن سباق المسافات القصيرة في حروب المصالح الشخصية، ومتحررة من إيديولوجيا المؤامرة ولغة التكفير والتخوين. فمن شأن هذا السلوك أن يرتقي بالفاعل السياسي، -الحزب- وأن يجعل منه قوة اقتراحية فعلية، وأداة ضاغطة ينصت إليها ويؤخذ برأيها، وهذا هو المدخل لكسب ثقة الشارع، وإعادة الاعتبار إلى القيم السياسية، والأفكار الصانعة للمشاريع، والراسمة لمسالك الإصلاحات الديمقراطية والإصلاحات والمصالحات الكبرى والمهيكلة، وهذا ما سيؤسس أيضا لقطيعة حاسمة ومفصلية مع إستراتيجية التبرير واتهام الآخر ورفضه ونعته بكل الصفات التي تنم عن اندحار وانحدار الخطاب السياسي، سواء كان هذا الآخر مجسدا في الدولة أو في باقي الأحزاب المكونة للسوق السياسي. في هذا السياق، أستلهم أقوالا لفرانسوا هولاند عندما كان في موقع الكاتب الأول للحزب الاشتراكي الفرنسي سابقا والتي تضمنها كتاب بعنوان "واجب الحقيقة"، صدر منذ سنوات وهو عبارة عن حوار، أجراه معه إدوي بلونيل. يقول هولاند وهو لم يطأ بعد قصر الإليزيه: "ما يهم هو المشروع السياسي، الأشخاص مهمون؛ لكن لا يجب أن نترك أنفسنا ننساق وراء تنافس الأشخاص، لا يجب أن نعتقد بأن الموهبة وحدها كافية. إن ثقافة ديمقراطية أصيلة، لا تختزل في اختيار مرشح أو مرشحين، إن المشروع والتعاقد والسياسة هي العناصر التي تصنع الدينامكية، وأن الجماعة هي التي تصنع الفرد. منذ سنين، شيد كل معسكر انتصاره على رفض الآخر، كان ينبغي رفض الرئيس جيسكار، لأن هذا الأخير رفض بالأمس الرئيس دوغول، ويرفض شيراك لأنه كاذب، ويرفض ساركوزي لأنه سيشكل خطرا غدا. يجب أن نكون قادرين على حمل الطموح المشترك، لأنه عندما ننتصر، يغيب الخصوم، ونجد أنفسنا في مواجهة أنفسنا، إننا لسنا بصدد ثقافة للمقاومة، حيث يقتصر الأمر على تجنب الأسوأ، ما نريده هو اقتراح الأحسن، لأن هذا هو ما سيمكننا من الاستمرار، ليس من أجل أن ندوم ولكن لكي ننجح". تأسيسا على ما سبق، من المهم التأكيد على أنه في سياق اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي كالسياق المغربي، يجب أن نعتبر الآتي من الاستحقاقات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والهوياتية والروحية والسيادية والجيو-ستراتجية، هو المحك الحقيقي لكل الإرادات والأطراف. من دون شك، الوثيقة الدستورية ومسارات ومراحل تطبيق بنودها تشكل في حياة أي دولة أو مجتمع حدثا مهما، لأن المسألة تتعلق بتعاقد مكتوب بين السلطة وبين الشعب؛ لكن هذا الحدث بقدر ما هو أساسي وضروري، بقدر ما يمثل أمرا عاديا ومحطة طبيعية في بناء دولة المؤسسات والحقوق والقوانين، ولا داعي لكي ينظر إليه على أنه قيامة سياسية، ودعوة إلى نشر رسالة جديدة في تدبير شؤون الأمة، وحرب مقدسة لتهذيب عقيدتها وتخليصها من الشوائب ومما علق بها من خرافات وشعوذة فكرية ورهبنة إيديولوجية .إن التفاعل مع المواعيد المقبلة ومواجهة التحديات التي تنتظر المغرب ستكون الترجمة الملموسة والأجرأة العملية للدستور الحالي، بالرغم من الجدل الذي أثير بشأنه، والمواقف التي سجلت إزاء القوانين التنظيمية المرتبطة بتطبيق مقتضياته. من البدهي أن الأمر ليس سهلا للغاية ولا يبدو تمرينا عاديا، كون الهندسة والفلسفة والفصول واللغة والصياغة التي تشكل جسد وروح الدستور لن تمتلك وجودها المادي وفعاليتها وقوتها إذا لم تكن هناك بيئة ملائمة وشروطا مناخية مناسبة وتضاريس ليست وعرة وتربة خصبة- طبعا بالمعنى السياسي والسوسيولوجي -، وإذا لم تنبثق نخب جديدة وممارسات حزبية بديلة ووجوه برلمانية ذات مصداقية وجاذبية أخلاقية وفكرية وسياسية. وهنا، يتعين على الفاعل الحزبي أن يتسلح بالجرأة والشهامة، كأن يتخذ قرارات قد يشعر بأنها مؤلمة؛ لكنها ضرورية لضمان اشتغال سليم وجيد للآلة الحزبية. وأولى هذه القرارات عدم تزكية الذين لا قيمة مضافة لهم ووضعهم في الواجهة لمجرد أنهم يحققون إشباعا نفسيا وذهنيا لقادتهم. ولن يغفر التاريخ والوطن لأي حزب يشذ عن هذه القاعدة، ولن تصمد مرافعات التبرير الانتخابي والتعليل السياسي، أمام رياح التغيير وإرادات التجديد. والغريب في الأمر هو أنه بالرغم من الرسائل الصريحة والمشفرة التي توجه في مناسبات مختلفة من مراكز صناعة القرار الفاعلة والمحورية، فإن فئة من الفاعلين تعودت على هذه الممارسات، التي ارتقت لديها إلى مستوى القناعات، فلا تجد حرجا في التباهي بما حققته بفضل دهائها ومكرها، كما أنها لا تكف عن تقديم الحجج وحشد الأدلة لإظهار النجاح المهني والاجتماعي الذي وصل إليه ممثلوها بفضل ارتداء صدرية الدفاع عن المصالح الخاصة، ودرع حماية الفردانية؛ وهي أدوات، حسب اعتقاد هؤلاء الفاعلين، كفيلة بحمايتهم وتأمين استمرارية مصالحهم. وتأخذ المسألة أبعادا خطيرة عندما يتحوّل هذا السلوك إلى نموذج مرجعي في المجتمع، حيث لا يتردد الكثير من الناس في اقتفاء الخطوات ذاتها، والسير في الدرب نفسه، وهم في فعلهم ذاك يعملون على بناء وطن الذات والفردانية والفئوية والشعبوية، غير مكترثين بما يمكن أن ينجم عن ذلك من أضرار وآثار سلبية قد تهدد التماسك الوطني والاجتماعي. إن أخطر آفة يمكن أن تصيب مجتمعا هي أن يتحول فيه الفساد بكل ألوانه وأطيافه إلى مصدر افتخار اجتماعي، وأن تستشري وتستفحل هذه الآفة دون أن تتعرض للردع والمحاربة وتطويق المسؤولين عنها بالمحاسبة والمساءلة .والأدهى في الأمر هو أن تصبح عملية محاربة الفساد مجرد شعار مرصود للتوظيفات الإيديولوجية والمعارك المحشوة بجرعة عالية من الديماغوجية والحسابات السياسيوية وإلى آلية بديلة لإنتاج فساد من نوع جديد يستثمر في التبرير وتبرئة الذات السياسية. كم مرة حاولت أن أفهم لماذا يشجع الناس بعضهم البعض على انتهاز الفرص مهما كانت الوسائل الموصلة إلى الظفر بما يسعون إليه، وربط العلاقة على أساس المصلحة، وامتلاك مهارات في الانتهازية والوصولية والنفاق والتزييف والافتراء والكذب بهدف احتلال موقع ما داخل المجتمع والدولة.. كل ما فهمته هو أن السلوكات والممارسات المدمرة للقيم المنتصرة للوطنية والمصلحة العامة والديمقراطية والحكامة والشفافية والمساواة والكفاءة والاستحقاق والنزاهة ترسخت وتجذرت في مجتمعنا، وباتت تمتلك قواعد ومعسكرات وجيشا وأسلحة وخبراء. إن ما هو مطروح على الأحزاب والفاعلين الاقتصاديين والنخب الثقافية لا يقل عما هو مطروح على الدولة، فهذه الأخيرة يجب أن تختار بين التوجه نحو المستقبل وبين البقاء في دهاليز الماضي، أي يتعين عليها أن تختبر العديد من السيناريوهات، بما في ذلك إشهار واستعمال الورقة الأخلاقية والتخليقية، واتخاذ موقف صارم تجاه كل الذين لم يعد الشعب في حاجة إليهم، وعليها أن تراهن على خيار تجديد النخب، كمنهجية إستراتيجية في البناء الحالي للديمقراطية وللمؤسسات؛ لأن السياق الجديد يستلزم نخبا جديدة مؤهلة ومقنعة وذات مصداقية، تسهم في حل المشاكل واحتواء الأزمات عوض العمل على استفحالها. ومهما بلغت المنافسات السياسية والصراعات الفكرية والإيديولوجية من حدة وضراوة وصدامية بين مختلف الفاعلين في المغرب، فإن هناك قواعد ومبادئ ومقتضيات يجب الاحتكام إليها، لتجنب الانزلاقات الكبرى، والحيلولة دون الوقوع في الأخطاء القاتلة التي قد ترجع بالبلاد خطوات إلى الوراء. ومن بين هذه المبادئ خدمة الوطن والدفاع عن المصلحة العامة والانتصار للمستقبل. إن الالتزام بتفعيل هذا المبدأ لوحده والعمل على ترجمته على أرض الواقع وفي المشاريع والبرامج وفي سلوك وممارسة الفاعلين والمسؤولين على اختلاف مواقعهم قادر على وقف عدد من المظاهر المسيئة إلى أي تجربة ديمقراطية ناشئة. وفي الحالة المغربية، تثير مسألة خدمة الوطن والدفاع عن المصلحة العامة تساؤلات كثيرة لا تخلو من استفزاز وإزعاج بالنسبة إلى العديد من الأطراف، بسبب أن هناك أزمة هيكلية وعميقة في تمثل واستيعاب الدلالة الأخلاقية والوطنية لهذا المبدأ من لدن الفاعلين السياسيين والمسؤولين. وتتجلى ملامح هذه الأزمة في انعدام قيم وثقافة الحس الوطني بالمعنى السياسي والتاريخي والجغرافي والثقافي، وغياب الإحساس بالآخر وتوهم احتكار كل أشكال الحقيقة بما فيها تلك التي لها علاقة بالمجال السياسي؛ بل نجد في تشريح هذا السلوك انتماء متطرفا إلى المصالح الضيقة التي قد تعود بالنفع على الحزب أو النقابة أو تنظيم من التنظيمات، من قبيل تأمين قاعدة انتخابية ومقومات ومساحات تموقع مريح في النسيج الاجتماعي وجاذبية قادرة على الاستقطاب وكسب مزيد من المتعاطفين والأنصار. كما نلمس إيمانا راديكاليا بالفر دانية والعصبوية والفئوية وانتصارا فجا للانتهازية والزبونية والضحالة الفكرية. من هذا المنطلق، يجب أن نبقي الوطن بعيدا عن الممارسات التي تسعى إلى تكبيله وكبح جماح تطلعاته، ولا يجوز أن نسيجه بالحسابات الصغيرة والملتبسة، ونرهقه بالحروب التي تستعمل فيها أسلحة محرمة أخلاقيا، كما لا ينبغي أن نضغط علي، حتى لا يصاب بالاختناق أو تنفجر شرايينه، لا يجب أن نختزل الانتماء إلى الجغرافية والتاريخ في حزمة من المنافع وعدد من المواقع، وأن لا نشرح معطيات اليوم ووقائع الراهن بأدوات الأمس نفسها، علينا إن نغير النظارات وأدوات ووسائل وطرق العلاج والوصفات المقترحة، وأن لا نعتبر المطالب الداعية إلى إقامة دولة تشتغل بمنطق المؤسسات والقوانين تمردا على المشترك من القيم والثوابت الوطنية والمسلمات السياسية الكبرى، ولا يجب أن نفهم حماس وأحلام شرائح اجتماعية واسعة متحررة من إكراهات الماضي وأثقال الإيديولوجيا وضجيج الديماغوجيا خروجا عن المألوف وثورة حارقة ومدمرة للأرض والإنسان. علينا أن ندعم تيارات الإصلاح والحداثة والعقلانية والوسطية بكل دلالاتها وأبعادها داخل المجتمع والدولة، لأن تدمير قلاع التفكير الهادئ والخيال المنتج والتوقع والاستباق المبني على المعرفة والتجربة والنصح الصريح والاستشارة المنقذة سيلحق أضرارا بزراعة بديلة بدأنا نقطف ثمارها بعد طي صفحة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وبعد إطلاق عدد من الأوراش والمشاريع الواعدة في ميادين مختلفة. يجب أن نرجح لغة العقل والتحكم الهادئ والمرن في الأمور، بدل الانتصار لمقاربة العناد وليّ الأعناق، فهي مقاربة مضرة بالبلاد والعباد، ومبررة للاستبداد. كما يتعين أن لا نرهن حاضر الوطن ومستقبله بسيناريو واحد وأوحد؛ بل علينا أن نفتح مسالك بديلة ونبحث عن شراكات وتحالفات جديدة، وعين العقل هو أن نراهن على خيار الديمقراطية والعدالة والكرامة والحكامة والمواطنة والمسؤولية والمحاسبة، فهو خيار صالح للجميع، ولا يجب أن نضع حواجز في الطريق لتفتيش النوايا وتحديد هوية الانتماءات الفكرية والعقائدية. يجب أن نجعل الوطن فضاء لا متناهيا للحوار والتعايش والتسامح والاختلاف والبناء والعطاء والمبادرات؛ فالمغاربة لا يطلبون مستحيلا ولا يبحثون عن معجزات، إنهم أبناء الممكن في كل شيء، ومؤمنون بالمشترك الجماعي، إنهم يستحقون شكلا آخر للوطن، وتدبيرا لشؤونهم بطريقة مغايرة، وإنصاتا مسؤولا لمشاكلهم، وسياسة تسوس أمورهم وهم يشعرون بأنهم ينتمون فعلا إلى مجال جغرافي وتاريخي بكامل العزة والكرامة. علينا أن نتفادى وضع الشوك في طريق البناء الديمقراطي الشاق والعسير، فزراعة الشوك من شأنها أن تدمي أقدام الوطن، وكل قطرة دم ستسيل هي عودة إلى دهاليز الماضي وجراحاته وأشباحه وظلماته وخيباته وانكساراته، كما أنها تشكل وإجهاضا لأي مسار يتجه نحو المستقبل وينتصر لما هو أفضل. *إعلامي وكاتب