لم يعد ممكنا تقديم حصيلة سنوية شاملة للنشاط الثقافي الوطني في زمن تناسلت فيه المبادرات وتعدّدت مراكز النشاط الثقافي؛ حيث غادر المغرب فترةً كان فيها الفعل الثقافي المحلي حبيس دور الشباب، فيما تحتكر الفعل الثقافي الوطني وزارة الثقافة إلى جانب مؤسسات معدودة على أطراف الأصابع، أهمها اتحاد كتاب المغرب، بل لم يكن النشاط الثقافي المحلي الوازن ليتحقق إلا عبر فروع هذا الاتحاد، وفقط في المدن التي تتوفر على فروع. اليوم تغيّر الوضع تماما، وصرنا إزاء جمعيات ثقافية نشيطة تناسلت في مختلف أنحاء البلد، بل لقد نجحت العديد من الجمعيات التي تنشط في مدن صغيرة وأحيانا في قرى في كسب رهان الجودة والاستمرارية، وصارت تُحرج بعمق مبادراتها ورسوخ فعلها الثقافي الإطارات الوطنية الكبرى، فيما تضجّ أهم العواصم الثقافية الوطنية على مدار السنة بأنشطة وفعاليات ثقافية تتداخل في أغلب الأحيان، مما يؤشر على أن ديناميتنا الثقافية الوطنية تستحق الاعتبار، وتحتاج فقط إلى الاعتراف والاحتضان والدعم لإعطائها فرصة للمزيد من التجذر في المجتمع. معيار الجوائز وإذا كان تقديم حصيلة سنوية دقيقة وشاملة للحراك الثقافي الوطني مهمة شبه مستحيلة، فإن اعتماد معيار الجوائز، مثلا، لقياس مدى إشعاع الأدب والفكر المغربيين في المدارين العربي والدولي، قد يكون نافعا. فقد افتتح المغاربة هذه السنة بجائزتين قيّمتين: جائزة الشيخ زايد للدراسات النقدية لسعيد يقطين عن كتابه "الفكر الأدبي العربي: البنيات والأنساق"، وجائزة مؤسسة الفكر العربي ل"أهم كتاب عربي" خلال السنة حصل عليها محمد نور الدين أفاية عن كتابه "في النقد الفلسفي المعاصر: مصادِرُه الغربية وتجلياته العربية". وإذا اعتبرنا جائزتي يقطين وأفاية هديتين ثمينتين من 2015 لرديفتها 2016، فإن بعض جوائز 2016 التي لم يعلن عنها بعد، وربما لن يعلن عنها إلا بعد دخول 2017، تحمل بدورها وعودا قوية للثقافة المغربية؛ ذلك أن العديد من الأسماء المغربية حاضرة بقوة في قوائم كبريات الجوائز العربية، كجائزة الشيخ زايد التي يتصدر المغاربة قوائم دورتها الحادية عشرة. هكذا نجد أسماء: مبارك ربيع، مصطفى النحال، محمد الولي، عبد الإله بلقزيز، بنسالم حميش، محمد بن الرافه البكري، عبد المجيد جحفة، محمد مشبال، محمد البكري، زهير اليعقوبي، هشام مشبال، ومصطفى العطار، موزّعة من خلال مؤلفاتها الحديثة الصادرة هذا العام على فروع هذه الجائزة في الأدب والترجمة والفنون والدراسات النقدية والمؤلِّف الشاب. ويبدو أن النقد المغربي يحظى بالحضور الأقوى في هذه القوائم. وقد كان لافتا كيف أن المغاربة احتكروا تقريبا الفرع النقدي لجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الثانية؛ حيث فاز بالجائزة هذه السنة كل من النقاد زهور كَرام وحسن المودن وابراهيم الحجري ومحمد بوعزة. الهيمنة النقدية المغربية تأكدت أيضا في مجال النقد المسرحي. فاللائحة القصيرة للمرشحين لنيل جائزة المسابقة العربية للبحث العلمي المسرحي التي تنظمها الهيئة العربية للمسرح، والتي تمّ الإعلان عنها مؤخّرًا، تضم ثلاثة أكاديميين مغاربة شباب: أمل بنويس، وعبد المجيد أهرى وعادل القريب. هكذا سينحصر التنافس على الجائزة بين المغاربة دون سواهم. الحضور القوي للنقد المغربي تكرّس أيضا في جوائز ابن بطوطة للأدب الجغرافي التي غاب المغاربة هذه الدورة عن فروعها الخاصة بالإبداع والتحقيق، ليعوّض النقد هذا الغياب من خلال كتاب "الرحلة وفتنة العجيب بين الكتابة والتلقي" لعبد الرحيم التوزاني، الفائز بجائزة ابن بطوطة للدراسات. أما الترجمة، فإلى جانب الحضور القوي للمترجمين المغاربة في القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، أعلنت جائزة الشيخ حمد للترجمة بدورها اسم المترجم حسن حلمي فائزا بجائزتها الثانية عن نقله لمختارات من أناشيد وقصائد إزرا باوند إلى العربية. أما الإبداع المغربي فقد كرّس حضوره في أكثر من محفل عربي هذا الموسم من خلال عدد من الأسماء، بدءا بالقاص أنيس الرافعي الذي بلغ القائمة القصيرة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية عن مجموعته القصصية "مصحّة الدمى"، مما ضمن للقصة المغربية حضورا قويا في أهم جائزة عربية تخصص لهذا الجنس الأدبي الملتبس، ومنذ دورتها الأولى. وكان القاص عبد السميع بنصابر قد بلغ هو الآخر اللائحة الطويلة للجائزة. الرواية المغربية ضمنت بدورها الحضور في القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية هذا العام من خلال أديبين غير مكرَّسين تقدّما لهذه الجائزة بباكورتيهما الروائيتين: "رسائل زمن العاصفة" لعبد النور مزين، و"نوميديا" لطارق بكاري، الذي ضمن للرواية المغربية مكانًا في اللائحة القصيرة للبوكر هذا العام. حضور تأكّد في جائزة كتارا عبر فوز الأديب المغربي المقيم بهولندا مصطفى الحمداوي بإحدى جوائزها في فرع الروايات غير المنشورة بمخطوط عمل روائي جديد له تحت عنوان "ظل الأميرة". مخطوط آخر، شعري هذه المرة، سيفوز هذه السنة بجائزة التكوين للديوان الأول التي تمنحها دار التكوين السورية. يتعلق الأمر بديوان "الأسْوَد الذي لا ترينه" للشاعر الشاب محمد يويو. فيما يظل فوز الشاعر الكبير محمد بنطلحة بجائزة أركانة أهم إنجاز للشعر المغربي هذا العام. فرغم أن هيأة وطنية، هي بيت الشعر في المغرب، هي التي تمنح جائزة أركانة، إلا أنها جائزة تُمنح للشعر في تعاليه على الحدود والجنسيات ولغات الكتابة. هذا الأفق الكوني للأدب المغربي سيتأكد خلال سنة 2016 بفوز الروائية المغربية الشابة ليلى سليماني بأهم وأعرق جائزة في العالم الفرنكفوني وهي جائزة الغونكور عن روايتها الجديدة "أغنية هادئة"، لتكون ليلى بذلك ثاني مغربية تفوز بالجائزة الفرنسية العريقة في فن الرواية بعد الطاهر بنجلون. رحيل قامات سامقة خلال موسم 2016، فقدت الثقافة المغربية عددا من أبرز وجوهها. وسنقتصر هنا على تلك التي خلّف رحيلها دينامية ثقافية ملحوظة. فرحيل عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي هذا العام جعل اسمها يعود إلى الواجهة بقوة. هكذا سارع رفاقها وأصدقاؤها من المثقفين والسوسيولوجيين المغاربة والعرب إلى تأليف كتاب جماعي عنها تحت عنوان "شهرزاد المغربية"، وهو الكتاب الذي أصدرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت في الذكرى الأربعينية للراحلة، فيما خصص المهرجان المتوسطي للكتابة النسائية الذي تنظمه جمعية "جمع المؤنث" دورته الأخيرة التي التأمت في أبريل الماضي لفكر وأعمال فاطمة المرنيسي. ويبقى الحدث الأبرز هو تظافر جهود عدد من الفعاليات الأكاديمية والثقافية الوطنية من أجل إنشاء "كرسي فاطمة المرنيسي" وتدشين مقره برئاسة جامعة محمد الخامس بالرباط، وتنظيم الندوة الدولية الأولى لهذا الكرسي حول تجليات أعمال وحياة الراحلة الكبيرة، وتأثيرها في الثقافتين المغربية والعربية الإسلامية. فقدان آخر لم يمر في صمت، وهو رحيل المسرحي الكبير الطيب الصديقي الذي جعل المؤسسة التي تحمل اسمه تخرج من غيابها وتفعّل حضورها من خلال التكريمات التي أنجزتها له والندوات التي عقدتها حول مساره وأعماله في الرباط والدار البيضاء، بل وفي قرطاج التونسية التي كرّم مهرجانها المسرحي الشهير صاحب المقامات في دورته الأخيرة. وتسهر المؤسسة حاليًا على حفظ ورقمنه أرشيف الطيب الصديقي، فيما يتوقع منها أصدقاء تجربة الصديقي مُضاعفة الجهود والمساعي والشراكات لتحقيق حلم الراحل في إتمام مسرح موغادور الذي كرّس له الصديقي سنوات عمره الأخيرة قبل أن يشتدّ عليه المرض. وإذا كانت مؤسسة الصديقي تحاول التوقيع على حضور أبرز بعد رحيل عرّاب المسرح المغربي، فإن رمزا آخر من رموز ثقافتنا الوطنية فضّل أن يطلق مؤسسته ويضع أركانها وركائزها قيد حياته. الأمر يتعلق بالأديب الشاعر عبد اللطيف اللعبي الذي أشرف بنفسه على تنظيم احتفالية كبرى بالرباط بمناسبة خمسينية مجلة "أنفاس" التي كان قد أطلق عددها الأول سنة 1966. الاحتفاء بتجربة "أنفاس" تمّ أيضا من خلال إعادة طبع المجلة، أو بالأحرى ما تبقى من أعدادها، في مبادرة فذّة للتوثيق وحفظ الذاكرة. وإلى جانب خمسينية أنفاس، وجد اللعبي نفسه في دائرة الضوء هذه السنة بمناسبة خمسينية أخرى بعدما أصدرت دار غاليمار الفرنسية الشهيرة أنطولوجيا شعرية باذخة لمجنون الأمل تحت عنوان "الشجرة ذات القصائد"، بمناسبة احتفالها بخمسين سنة على تأسيس سلسلتها الشهيرة "شعر". أحداث مفرحة لا شك أن أحداثا ثقافية عديدة تستحق الوقوف عندها كعلامات فارقة بصَمَت سنة 2016 يمكن إدراجها في شريط طويل غني بالمشاهد والصور: فيها السعيد كفتح أبواب مكتبة القرويين بفاس، أقدم مكتبة في العالم، في وجه الزوار من المغاربة والسياح بعد أربع سنوات استغرقتها عملية ترميمها. وفيها المُفرح كانتهاء الأشغال بمتحف محمد السادس لحضارة الماء بمراكش الذي صار جاهزًا لاستقبال الزوار. وفيها المُوجع كالرحيل المفجع للروائي عزيز بنحدوش غرقًا، دون أن يثني غيابُه محكمة ورززات التي تتابعه بسبب روايته "جزيرة الذكور" عن تمديد المداولة بشأن قضيته إلى غاية الثامن والعشرين من هذا الشهر. ونتمنّى صادقين أن يتمّ إغلاق هذا الملف قبل أن تلفظ 2016 أنفاسها الأخيرة، مثلما نتمنّى صدور الرواية في طبعة ثانية تتيح لعموم القراء والنقاد الاطّلاع على العمل لنسمع رأي النقد فيه هذه المرّة بدل رأي القضاء. وفيها أيضا الرمزي المشجّع كإطلاق شبكة القراءة في المغرب هذه السنة، بشراكة مع أكاديمية الرباط، جائزة القرّاء الشباب للأدب المغربي التي عادت في دورتها الأولى إلى "تغريبة العبدي" لعبد الرحيم لحبيبي. وتكمن أهمية هذه الجائزة أساسًا في إبداعها صيغةً تساهم في التّمكين للأدب المغربي داخل مؤسستنا التعليمية الوطنية، وفي أوساط القرّاء المُتمدرسين. كذلك فيها الواعد الدّاعي للتفاؤل كتحسُّن مؤشرات القراءة في المغرب والعالم العربي، وارتقاء المغرب إلى المركز الثالث عربيا في ما يتعلق بالقراءة. فهل تفتحنا 2017 على المزيد من المصالحة بين المغاربة وكُتّابهم، وعلى المزيد من احتضان الأدب والفكر المغربيين من طرف القرّاء؟ *شاعر وإعلامي