ما أن يحل شهر الربيع الأنور، حتى يظهر الاختلاف الفقهي الكامن حول الاحتفال بالمولد النبيوي الشريف، وإحياء الذكرى المنيفة، حيث يعلن كل فريق أدلته وحججه، ويعمد إلى تفنيد حجج الخصم وإبطالها، كان لهذا الاختلاف مجالات عديدة للظهور، بدءا من الأزقة والحارات، والمساجد والزوايا، وانتهاء بالجرائد والمجلات، واليوم، تغيرت المجالات وبقيت الاختلافات واستمرت النقاشات، حيث حظيت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بالحيز الأهم من التناظر والنقاش، وكل يغني على ليلاه، ويدعي أحقية رأيه وأولوية موقفه، مع الاعتساف وعدم الإنصاف. وفي هذا المقام، أود مناقشة المسألة بنوع من الحياد العلمي، والموضوعية الفكرية، من خلال عينة/نموذج، وهو موقف الأخ حسن الكتاني [أحد شيوخ السلفية الجهادية بالمغرب]، وقد جعلته موضوع النقاش دون غيره من المخالفين لعدة اعتبارات، أهمها أنه أحد معتدلي الوهابية وأقربهم إلى الصوفية، بحكم الانتساب العائلي، والرابطة الدموية، أما غيره من الوهابية فغالبا ما يجنحون إلى التبديع والتفسيق في هذه الجزئية الفقهية، وهو ما لا نلفيه عنده. لذا يمكن دراسة موقفه بمنطق العدل والإنصاف كما بينت أعلاه، حيث أوافقه فيما بدا لي صوابه، وأخالفه فيما بدا لي خطؤه، دون التخندق وراء جُدر فكرانية، أو المعارضة العدمية لأقوال الآخر المخالف. رأي الأخ حسن الكتاني : منذ بداية شهر الربيع الأبرك، نشر الأستاذ حسن تدوينات على حائطه الفايسبوكي، منها : ** كتب يوم 2 ديسمبر بعد أن بيّن أن الناس يتقاعسون عن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: [دعني أكن صريحا وأقول لكم : معاركنا هي مجرد شعارات طائفية جوفاء]. ** ما ذكره يوم 4 ديسمبر، حيث بيّن تخلي الناس عن ذكريات عديدة، وتمسكهم بالاحتفال بالمولد، وجعله شعارا لمهاجمة مخالفيهم، مما يدل على أنها مجرد طائفية جديدة. ** في اليوم ذاته أورد مورد الاستنكار أمورا، أهمها ** تلاوة قصة المولد المستمدة من الأحاديث الواهية والموضوعة مما جعلها أشبه بالأساطير، ** القيام مع ذكر ولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أضحى كالفريضة التي يتهم كل من تركها. ** يوم 5 ديسمبر : ذكر أن الذكريات تهيج الأشجان، وتبعث على ذكر ما في هذا الشهر من أحداث، وهو أمر مستحسن، إنما ينكر "جعل يوم المولد عيدا يضاهي الأعياد الشرعية، وقراءة القصص الأسطورية، وترك الأحاديث الصحيحة". مناقشة الأخ الكتاني : هذه أهم القضايا التي أوردها الأستاذ في تدويناته، يمكن أن نناقشها بتؤدة، من خلال النقاط الآتية : أولا : المولد والطائفية. من أغرب ما قرأت في تدوينات الأخ الكتاني، استعماله لعبارة "الطائفية"، فظننتها سبق قلم من حضرته، إلا أنه كررها في تدوينة لاحقة، فتيقنت اقتناعه بها، ولعل الأستاذ لا يدري معاني عباراته، لأن المغرب لا علاقة له بالطائفية ألبتة، وهذا من نعم الله علينا، كما أن الاحتفال بالمولد لا علاقة له بموضوع الطائفية إثباتا ونفيا، بدليل أن الدول التي تتعايش فيها الطوائف مثل لبنان وباكستان، تحتفل جميعها بالمولد النبوي، فالشيعة يحتفلون، والسنة يحتفلون، فأين الطائفية ؟ وما معني "الطائفية" ؟ تعني أن المحتفلين طائفيون، أو ذوو سلوك طائفي، أو تعني أن المحتفلين مجرد طائفة ضمن الأمة الأكبر، وأنهم لا يشكلون سوى أقلية، والواقع بخلاف ذلك ونقيضه، لأن الاحتفال بالمولد كان وما زال يقع موقع القبول من شرائح أغلب المجتمع، حيث احتفل به ملوك المغرب وسلاطينه، واحتفل به علماء المغرب وخريجو القرويين وابن يوسف وغيرهما، واحتفل بالمولد قضاة البلد وتجاره وحرفيوه ....، فكاد يحصل به الإجماع، فهل يجوز عقلا ومنطقا وصفه بالطائفية ؟ وهل يعقل أن يكون سلاطين وعلماء المغرب طائفيون ؟ كما أشير إلى أنني لم يسبق لي أن قرأت أو سمعت مصطلح الطائفية في المغرب، ومجرد إدخال هذه الكلمة وتكرارها واستنباتها في المعجم التداولي هو بمثابة زرع للفتنة، وقانا الله شرها، وعصمنا الله من نارها. وللإشارة، فقبل أيام استعمل الحدوشي [من شيوخ السلفية الجهادية بالمغرب] في حائط الأستاذ الكتاني عبارة [النحر]، حيث دعا سلفيي ليبيا إلى تعليم السلفيين المدخليين دروسا في [علم النحر]، وهذا معجم غريب، أطل برأسه على المجتمع المغربي، يجب على العلماء أن يكونوا له بالمرصاد، تبيينا وتزييفا. ثانيا : القيام مع ذكر ولادة المصطفى تعوّد الناس عند ذكر قصة المولد، أن يقفوا عند وصول القوال/السارد إلى لحظة وضع السيدة آمنة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد نهى عن الوقوف تلك اللحظة العلامة الصوفي السيد عبد الله بن الصديق الغماري، ودعا إلى الوقوف آخرون، فنحترم هنا رأي الأستاذ ولا نؤيده ولا نخالفه، لكن ما نختلف فيه مع السيد الكتاني، هو مبالغته في الأمر، وادعاؤه أنه كالفريضة، التي يتهم تاركها، وهذا غير صحيح، وقد حضرنا الموالد في أكثر من بلد، ومنذ أمد، ولم نر ما قاله الأستاذ ولم نلمسه، وخلاصة القول أن المسألة فرعية وجزئية، لا تستحق التضخيم والتهويل كما جنح إلى ذلك الأستاذ المذكور، وقد انتصر للوقوف علماء كبار، يقعون منه هو قبل غيره موقع القبول، منهم جد جده العلامة الشريف السيد محمد بن جعفر الكتاني صاحب الرسالة المستطرفة وغيرها، قال رحمه الله : "وقد جرت العادة أيضا، بالقيام عند قراءة مولده عليه الصلاة والسلام لدى ذكر الوضع الشريف، وما يتبعه من حسن التوصيف، وهذا القيام لم يفعله السلف، وإنما عمل به من بعدهم من الخلف، وليس هو في الحقيقة للذات المحمدية كما توهمه قوم من البرية، فاعترضوا وأطنبوا، وإلى إنكار فعله ذهبوا، وإنما هو قيام فرح وسرور، وابتهاج وطرب وحبور، ببروزه صلى الله عليه وسلم لهذا الوجود، وإشراق نوره فيه على كل موجود ..."1. ثالثا : المولد والعيد استنكر الأستاذ الكتاني جعل يوم المولد عيدا يضاهي الأعياد الشرعية، ولست أدري سبب الإنكار، لعدم التوضيح والإظهار، إلا أن لنا احتمالين اثنين : الاحتمال الأول : إطلاق لفظ العيد على يوم المولد بمعناه الشرعي، أي يوم عيد بصلاة مخصوصة كما هو الشأن بالنسبة للأضحى والفطر، وهذا غير وارد، ولم يقع منذ أن قرر المسلمون الاحتفال منذ قرون، فهو جهاد في غير عدو. الاحتمال الثاني : إطلاق لفظ العيد على يوم المولد بمعناه اللغوي، وقد جرت العادة بذلك، حيث يطلق الناس – مسلمون وغير مسلمين – على أيام مخصوصة لفظ العيد، لما يغشاها من الفرح لسبب ما، ومنه أطلق الصحابة الكرام اسم العيد على يوم الجمعة، وقد وردت في ذلك نصوص كثيرة، بل ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في سنن أبي داود وابن ماجه، حيث قال : "اجتمع عيدان في يومكم هذا"، ويقصد توافق العيد مع الجمعة، لذا كان تسمية يوم المولد عيدا مما يباح ولا يستنكر، إذ لا نص يمنع ذلك ويحرمه، ومن المعلوم المقرر أنْ لا حظر إلا بنص، وهو منتف هنا. قال الشيخ محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله تعالى : "ثم ليلتا المولد الشريف المكرم، والمعراج النبوي المعظم، يظهر أنهما خير ليالي الدنيا بلا تردد ولا ثنيا، ... وإذا كانا هكذا، فهما جديران باتخاذ أمثالهما من بعدهما عيدا من الأعياد، وموسما من مواسم الخير والاجتهاد". رابعا : الذكريات وسرد الأحداث نبّه الأستاذ الكتاني إلى أن أحداث شهر الربيع تهيج الأشجان، وتكون سببا في سرد الأحداث النبوية، والسيرة العطرة، وهذا من المحمود المستحسن، وكأني به يستحضر قاعدة : "المناسبة شرط"، وهذا مما يحمد له ويشكر، ويُذكر ولا يستنكر، وهو مما نوافقه عليه ونثمنه، جزاه الله خيرا. خامسا : الموضوعات والمكذوبات في قصة المولد. استنكر الأخ حسن الكتاني تلاوة قصة المولد المستمدة من الأحاديث الواهية والموضوعة مما جعلها أشبه بالأساطير، وهنا أجدني متوافقا معه تمام الموافقة، دون أدنى تعقيب أو استدراك، لأن في الصحاح والحسان كفاية وغناء، بل والضعيف من الآثار أجازه الأكابر في هذا المجال بلا امتراء، وقد استنكر قبله محدث المغرب ومفخرته العلامة الصوفي السيد عبد الله بن الصديق الغماري في الموالد أمرين اثنين : السجع المتكلف المرذول، والموضوعات والأكاذيب، ويمكن أن أورد نماذج للأكاذيب التي طرز بها العلماء مولدياتهم، وذلك من خلال مولد السيد الفضيل محمد بن جعفر الكتاني قدس الله روحه ونور ضريحه. ** قال الكتاني في مولده : "ثم إن الله منّا عليه وإنعاما، زاده فضلا وإكراما، فأحيى له أبويه الشريفين حتى آمنا به ليكونا من أمته المخصوصة به، ومن خصوصيته لهما ومعجزة له" ص : 8. وحديث إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ليؤمنا به حديث موضوع. ** أكثر السيد الكتاني في مولده من الإرهاصات التي سبقت المولد المعظم، منها حديثه عما وقع بداية حمل آمنة به، فقال : "ونودي في الملكوت والملك الظاهر بالبشر، ألا أنه قد حملت آمنة بسيد البشر، وأصبحت أصنام الدنيا منكوسة، وأَسرة ملوك الأرض مقلوبة معكوسة، وكل ملك من ملوك الدنيا أصبح أخرس قد منع من النطق يومه ذلك، وحيل بينه وبين ما يريده منه هنالك، ولم تبق دابة لقريش إلا نطقت تلك الليلة وقالت : حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة ...." ص 10. ** أورد العلامة الكتاني رحمه الله في مولده ما قيل في وفاة عبد الله بن عبد المطلب فقال : "فيا سعد من قصد ضريحه وزاره، ولما توفي قالت الملائكة : إلهنا وسيدنا ومولانا، وعالم سرنا ونجوانا، بقي نبيك يتيما لا أب له، فقيرا لا مال له، فقال الله مما ليس هذا لفظه الوارد بل مؤداه، أنا حافظه وراعيه، أنا ناصره وكافيه، أنا رازقه وحاميه ..... وأذن الله تعالى في تلك السنة للحاملات من نساء الدنيا أن يحملن ذكورا كرامة له غدا ذِكرُها في الصحف منشورا ..." ص 11 – 12. قال الشريف الكتاني : "ولما مرّ بها من حملها به ستة أشهر، أتاها آت في المنام، وقال لها يا آمنة إنك قد حملت بخير العالمين وسيد الأنام، فإذا ولدتيه فسميه محمدا، واكتمي شأنك ولا تذكري لأحد قبل الولادة أمرك". ص 12. قال الشريف الكتاني رحمه الله عن لحظة الميلاد على السيدة آمنة : "فسمعت وجبة عظيمة وأمرا عظيما هالني، ثم رأيت كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي فذهب عني الروع وكل وجع أجده، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء ظننتها لبنا، وكنت عطشى، فشربتها فإذا هي أحلى من العسل، وأصابني نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل طوالا، كأنهن من بنات عبد مناف يحدثن بي، فبينما أنا أتعجب وأقول : واغوثاه من أين علمن بي ؟ قال في غير هذه الرواية : فقلن لي نحن آسية امرأة فرعون، ومريم ابنت عمران، وهؤلاء من الحور العين ...." ص 13. قال الشريف الكتاني رحمه الله في مولده المذكور : "وظهرت إذ ذاك ليلة مولده في العالم آيات وخوارق وإرهاصات، تمهيدا لنبوته وإعلاما بظهوره وعزته، منها إخبار كثير من الجن والأحبار من اليهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب، بأنه قد ولد الليلة النبي المختار المقرب، نبي آخر الزمان الذي ينسخ دينه الأديان ..." ص : 27 – 28. قال السيد الكتاني عن رضاع النبي صلى الله عليه وسلم : "وجاء عن ابن عباس أن الجن والطير تنافست في إرضاعه، فنوديت أن كفوا، فقد أجرى الله ذلك على يد الإنس، يعني لما يحصل له بهم من الراحة والأنس" ص : 30. قال السيد الكتاني رحمه الله : "وعند ابن عائذ : أول ما تكلم به حين خرج من بطن أمه، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وفي شواهد النبوءة، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وضع على الأرض رفع رأسه وقال بلسان فصيح، لا إله إلا الله، وإني رسول الله ... وروى الخطيب وابن عساكر والبيهقي وغيرهم أن القمر كان يحدثه وهو في مهده، ويلهيه عن البكاء، وأنه عليه السلام كان يناغيه، أي يحادثه ويحاكيه، ويشير إليه بأصبعه، فحيث أشار إليه مال، وإنه كان يسمع وجبته، أي سقطته حين يسجد تحت العرش". ص : 31. قال الشريف الكتاني : "وفي شواهد النبوءة، أنه لما صار ابن شهرين، كان يتزحلق مع الصبيان إلى كل جانب، وفي ثلاثة أشهر، كان يقوم على قدميه، وفي أربعة كان يمسك الجدار ويمشي، وفي خمسة حصلت له القدرة على المشي، ولما تم له ستة أشهر كان يسرع في المشي، وفي سبعة أشهر كان يسعى ويغدو إلى كل جانب، ولما مضى له ثمانية أشهر كان يرمي السهام مع الصبيان ..." ص : 32. قال السيد الكتاني قدس الله روحه : "فنزل تحت شجرة في سوق بصرا، قريبا من صومعة الراهب نسطورا، فدنا إليه، وقبل رأسه وقدميه، وقال آمنت بك وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر بك عيسى، فإنه قال لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلا النبي الأمي" ص : 35. وحري بالذكر أن السيد محمد بن جعفر الكتاني وإن اشتهر بعلم الحديث والاشتغال به بين أقرانه ومعاصريه، إلا أنه كان محدثا على سبيل المشاركة، ولم يكن محدثا متمكنا ناقدا، أما القول بأنه كان حافظا، فلا يعدو أن يكون دعاية صنعها له بعض أحفاده، وقلده في ذلك الأتباع، بدون تثبت ولا روية، وما ذكره في القصة المولد مما ذكرته ولم أذكره، ناقض للدعوى، هادم للدعاية من أساسها. هذه نماذج وعينات، ذكرتها للتدليل على صدق وصوابية ما قاله الأخ حسن الكتاني من محاولة أسْطَرَة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بالإكثار من ذكر الأكاذيب والموضوعات، والابتعاد عن الثابت الصحيح في السنة والسيرة. ولو اكتفى كُتاب الموالد بالصحيح لأفادوا واستفادوا. 1 اليمن والإسعاد، بمولد خير العباد : 20.