الفساد هو انحراف قيمي وأخلاقي في أداء العمل وتحمل المسؤولية وعدم ربطها بالمحاسبة، وهو كلمة ولفظة صعبة النطق ومفردة شديدة المعنى والمدلول، ترفضها العقول السوية والسديدة وقبل ذلك تأباها النصوص القرآنية والدستورية والقانونية. ولكن هل الخوض فيها مرفوع ومرفوض والحديث عنها ممنوع حتى يعطى الضوء الأخضر لنا به؟ أ ليس من حق العباد القول للفساد: لا، وبكل جرأة. أ لم يَرِدِ في الباب الأول من دستور البلاد الممنوح في سنة 2011 وبالتدقيق في فصله الأول مبدأ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة؟! أ لم يؤسس دستور البلاد لرفض التمادي في الفساد ببناء وبإحاطة المجتمع بسياج الرفض والإباء؟!. الفساد مرفوض بنص القرآن الحكيم وقد جاء في قوله تعالى في سورة البقرة - الآية 205 (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) وفي سورة المائدة – الآية 64 (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وفي سورة القصص – الآية 77 (وأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، ثم بسلطة الدستور المناهض والرافض له والقانون الرادع والمانع له. ليبقى السؤال الأهم هل وجدت بذرة الفساد تربة صالحة وبيئة قابلة ومشجعة لظهوره وهل يسهم المواطنون في هذا صمتا وتواطؤا؟ وماذا عن بعض المثقفين الذين يشتركوا عن قصد وعمد ويشاركوا ويباركوا للفساد بإعطاء شرعية مقيتة من خلال شرعنته فكريا وثقافيا؟ أ لم يبلغ الفساد ذروته من خلال جشع التجار لدرجة بيع ضمائرهم وبالأطباء من خلال المتاجرة والاتجار بأرواح مرضاهم بارتكاب أغلاط وطلب أقساط ونسيان مشرط أو لقاط أثناء إجراء عمليات في مستشفيات لا تمت ليس فقط لقسم أبقراط بل ولا صلة لها بالرحمة لا من قريب ولا من بعيد؟. الفساد من أخطر الظواهر الاجتماعية على أمن البلاد وسلامة واستقرار العباد خصوصا عندما يتحول إلى ثقافة عامة ويستمر عقودا عديدة حيث تجذر في الشخصية المغربية، وربما أصبح سمة من سماتها وهو ما يُكَوِنُ قطيعة في العلاقة بين الدولة والمواطن وبين المواطن والحكومة وبين المواطن وضميره الوطني. وللفساد وجوه عديدة ومتعددة تأتي على رأس قائمتها انتهاك مبدأ النزاهة والشفافية والشطط والإساءة في استغلال واستعمال السلطة كالتلاعب بأموال العباد من دافعي الضرائب والثروات والخيرات المدفونة تحت وفوق البر والبحر، وجميع أشكال الفساد والسرقة والرشوة والابتزاز والاختلاس والاحتيال والمحاباة في المحسوبية والمنسوبية وغسل وتبييض الأموال واستغلال المنصب والمكتب ونهب الأموال العمومية والعامة وأي ظلم أو هضم لحقوق الآخرين في الاختلاف وغيرها من أنواع وأشكال سوء استخدام المنصب والوظيفة، ليبقى الوجه الأقبح للفساد هو سوء استخدام السلطة واستغلالها من قبل المسؤولين بغرض تحقيق مكاسب خاصة لا شرعية ولا مشروعة. لا يمكن النظر إلى الفساد المستشري اليوم في جميع مفاصل الدولة والمجتمع بمعزل عن النظام السياسي فكل معالم الفساد والخراب التي تعم البلاد هي بسبب السياسة الغير الرشيدة والسياسيين الغير العقلانيين، كما أن مشكلة الفساد لا يمكن فصلها أيضا عن مشكلة الإنصاف في الحقوق والمساواة في الواجبات والتكافؤ في الفرص التي ترسخت في العقول وتجذرت في الضمائر لتصبح أفعالا وتنتهج سلوكا وأفكارا عند العباد في هذه البلاد بجميع أنواعهم البيولوجية وكل تلويناتهم السياسية ومعظم نخبهم الفكرية، مثل من يختزل العلم في فتاوى الدين كما يقول المفكر سعيد ناشيد أو ذاك الذي يختزل الفتنة في زينة وجمال المرأة أو من يختصر جوهر الأخلاق في مظاهر النفاق أو من يُرهن وجوده الإنساني في مجرد صراع بين مؤمنين وكافرين، مما يشق ويصعب التخلص منها في أمد غير بعيد، حيث منذ الاستقلال حتى واقع كتابة هذا المقال ندرك أن الفترة كانت كافية لتقديم مؤشرات واضحة أحيانا وأخرى فاضحة على أزمة الضمير الوطني والمهني التي تعكسها مراتب البلاد في مؤخرة سلم محاربة الفساد في العالم؛ وكأنهم يمررون رسالة بأن من كان يؤمن بصدق بأن محاربة المجالس العليا والمؤسسات وغيرها من الجمعيات "التي ذكرها الدستور" للفساد، فهذه المجالس العليا والمؤسسات وغيرها قد عجزت وامتنعت وتوقفت، وأما من كان يؤمن بالفساد والمفسدين فإنهم أحياء غير ملومين ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولأن محاربة فساد المواطنين خير عند حكومتك وأبقى من محاربة فساد المسؤولين والموظفين كبارا وصغارا، سنعاين انتشار فساد حقيقي في هذه البلاد من سماته وعلاماته عدم تحالف كل السياسيين ضده، ولهذا أطلب منك التفكر والتمعن في تحالف من فاز بالانتخابات التشريعية الأخيرة مع أي حزب ولو كان يعتقد يقينا بفساده فما هو إلا مرآة عاكسة لحزب ينخر جسده الفساد. أخيرا، ستسأل من مواطن حتما، وهل نحن بحاجة لسفينة نوح حقيقية كي ننجو جميعا من طوفان الفساد لنحط الترحال في دولة مؤسسات الحق واحترام الدستور وتفعيل وأجرأة القانون؟، الجواب ببساطة: لا. هذا يصلح لقوم نوح فقط، أما حاليا فلن يتركك المفسدون والفاسدون على هذه الأرض تشيد سفينة، لن يكتفوا بالسخرية كقوم نوح بل سيقومون بكل ما في وسعهم واستطاعتهم سواء بمنعك من قطع الخشب أو إرسال من يحدث فيها ثقبا أو يبعثون من يثبط أملك ويحبط حلمك وعملك أو يقومون بمراقبة هاتفك وبريدك الالكتروني وحساباتك في مواقع التشابك وليس التواصل الاجتماعي، ربما قد تواصل التشييد فيرسلون من يعتقلك وطيورك وباقي الحيوانات التي تجمعها لتتم إحالتك على القضاء بتهمة الخيانة والعمالة، لا تشيدوا سفينة نوح، ليس لأن زمنها تُجُووِزَ ولكن لأنها لن تصمد أمام طوفان الفاسدين والمفسدين. الإنسانية هي الحل