يبدو أن محاولة الضرب على وتر حظ الدعوة والتربية لدى حركة التوحيد والإصلاح بعد انتخابات السابع من أكتوبر وفوز العدالة والتنمية بأغلب المقاعد البرلمانية يكتسي طابعا "منغصا" على قلوب بعض محترفي السياسة، ومن تضخم لديهم هم المناصب والامتيازات. فحركة التوحيد والإصلاح، باعتبارها جمعية دعوية، وواحدة من التنظيمات الإسلامية المغربية، ومساندة بأي وجه من الأوجه لحزب العدالة والتنمية، مدعوة أكثر من أي وقت مضى أن تجيب عن أسئلة مصيرية في حياتها التربوية والدعوية، وتحديد علاقاتها بشركاء الوطن الواحد في محاولة للقطع مع عقليات السبعينات، التي منحتها نتائج السابع من أكتوبر "ريعا" سياسيا بامتياز. وزاد من استفزازنا لكتابة مثل هاته المقالة بعد أن تكرس هذا المعطى بتحول جريدة "التجديد"، الناطقة بلسان حال الحركة، إلى ناطق باسم سياسة حزب العدالة والتنمية، وأصبحت تتقن السباحة في مياه غير مياه التربية والدعوة بالحسنى. وإذا كان لمقالتنا علاقة بجزء مما سبق أن ألمحنا إليه في مواضيع ومقالات سابقة، مثل الحاجة إلى "الروسيكلاج التربوي"، و"الرابحون والخاسرون بعد مؤتمر حزب العدالة والتنمية"، فالحاجة إلى التنبيه والتحذير تبقى قائمة حتى يحصل المراد. مظاهر وتجليات قبيل الانتخابات شنت حملات شعواء حول ترشح أسماء ذات مسحة دعوية وتربوية (عبد الحميد القباج، محمد الأمين بوخبزة...) للبرلمان، وشنت حروب إعلامية وسياسية لإقبار هذه الأصوات وغيرها ومنعها من التغريد تحت القبة الحمراء، حتى استسلمت الغالبية لضجيج دهاقنة السياسة، واطمأنت بأنه فعلا يجب التخلي عن مثل هؤلاء، لأنهم يعبرون بصدق عما يعتقدون به وما يعتبرونه صوابا، لأن الحاجة الانتخابية وقتها تفضل من يتمسحون بأي وضع حتى يحافظوا على امتيازات السياسة والبرلمان. والغريب بخصوص هذين المظهرين التقريبين، وقصدنا هنا التحديد حتى لا تتيه المعنى ويضيع المقصود، أن أعضاء من حركة التوحيد والإصلاح، بل ومن قيادييها أيضا، فضلوا الصمت المطبق، لأن الأولى بقبة البرلمان هم أهل السياسة، وليسوا أهل الدعوة أو اللحية، وحتى من رشح لمثل هاته المسؤوليات، يبقى، إن نجح، في الحقيقة والجوهر الفكري "داعية بعقل السياسة". وحده العالم الجليل أحمد الريسوني من دبج مقالا بعنوان: "منع القباج من الترشح، هل تم تعليق العمل بالدستور والقانون؟" عسى أن يجد له آذان واعية، لكن الحركة، والجريدة معها، لزما حكمة "الصمت حكمة"، حتى لا تفسدان على أهل السياسة نشوتهم وآمالهم العريضة. في وقت اهتمت فيه الجريدة الناطقة باسم الحركة بالتغني بالسياسة، تاركة ساحة الدعوة بالحسنى وابتغاء الخير لدى كل السياسيين إلى وقت لاحق، ناسية أن الدعوة إلى دين الله تسع الجميع، أفرادا وأحزابا، وليست "أصلا تجاريا" محتكرا لحزب واحد أو أشخاص معينين، وذوو الفهوم السياسية يعرفون المقصود بذكائهم السياسي النابغ. تذكير منهجي لقد شنت في وقت سابق حروب ثقافية وإعلامية ممنهجة حول كتابات الدكتور فريد الأنصاري، رحمه الله، وتنبيهاته حول التضخم السياسي لدى الحركة الإسلامية، في محاولة لإقبار تحذيراته، بل تبجح البعض بوصف الشخص، رحمه الله، بأنه يعاني من "اضطراب نفسي" في ما ذهب إليه، لأنه فقط أراد لساحة الدعوة والتربية أن تبقى بيضاء ناصعة تجرد الإخلاص لله وحده وتبتغي الخير للجميع بدون حجره على فئة من فئات المجتمع. ولم يعرف أصحاب العقل السياسي المضخم بأن محاولاتهم تلك لإقبار بعض أفكاره الكبيرة باءت بالفشل، فاتجه الناس متيقنين أن القرآن السبيل الوحيد لبناء العمران، علهم يبقوا ثابتين على العهد النبوي في ابتغاء وجه الله والدار الآخرة. وبعد مرور 20 سنة على الوحدة المباركة، بين حركتي "رابطة المستقبل الإسلامي" و"الإصلاح والتجديد"، ما يزال سؤال: "الفصل" بين الحزب السياسي والحركة الدعوية يتجدد بإلحاح، ليس تشفيا في محدودية التأثير السياسي لفائدة التدين والدعوة، الذي قد ينتهي تأثيره على مدى خمس سنوات تقريبا، ولكن فقط من أجل بلوغ تنشئة متوازنة لأجيال مقبلة تعرف أن حركة التوحيد والإصلاح، ومعها باقي الحركات الإسلامية الأخرى، هي بمثابة الأم أو الشجرة التي تؤتي الثمار الطيبة للجميع وكل حين، سواء تعلق الأمر بمجال السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام أو الاجتماع. فأغلب من نظر لضرورة "الوصل"، باعتباره خيارا استراتيجيا بين الهيئتين، انفصل عن الحركة وركب سفينة الحزب الآمنة والمغرية، إما مستشارا أو برلمانيا أو مساندا لهما، بل بلغ من أمر الحزب وبعض قادات الحركة أن أصدروا بلاغات تتبرأ من كل من تسول له نفسه الترشح أو دعم اختيار غير العدالة والتنمية (قضية محمد الأمين بوخبزة نموذجا)، وقد كان أولى بالحركة أن تكون حكما شريفا ومحايدا في مثل هاته النوازل، وتؤكد أنها تزكي كل الصالحين، وتبقى في منأى عن تجاذبات السياسة وكواليسها "النتنة". وهو المطلب المأمول بأن تتخذ الحركة المسافة واحدة بين كل الهيئات المجتمعية والسياسية الأخرى، بدون حزبية مقيتة، أو تعصب يخدم أصحاب العقل السياسي أكثر من الدعوة والتربية. حلول ومقترحات قد يعتبر البعض ما أوردناه في ما سبق "تنغيصا" عن الفوز المبين بالمقاعد والأغلبية المؤهلة لحكومة تدير شؤون المغاربة، ولكنه مجرد همس في كل قلب ما يزال يحتفظ ببذرة حياء وغيرة على تدين المغاربة. فمن حق حزب العدالة والتنمية، ورئيسه بنكيران، أن يتحالف مع لشكر بما تمليه حسابات السياسة، دون أن يطرح على طاولة المفاوضات الموقف من"الإرث" أو "الزواج المثلي" أو "الإفطار العلني"، فذلك من مكر السياسة وترتيباتها. ومن حقه أيضا أن يتجاوز عمن وصفه ب"داعش" ومناصرتها، فالأغلبية تقتضي غض البصر عن مثل هاته الزلات، لكن من حق أي فرد من حركة التوحيد والإصلاح بالمقابل أن يقول: لا للتحالف مع من لا يثبت على قرار، حتى ولو كان حزب العدالة والتنمية نفسه. إن حركة التوحيد والإصلاح، وبعد مرور 20 سنة، وبعد أن شب حزب العدالة والتنمية عن الطوق، وأصبح كهلا بشاربين يميلان إلى الشيب، مطالبة اليوم بأن تعود إلى ذاتها، وتحدد ماهية وجودها وحدود علاقاتها الاجتماعية والسياسية من جميع الفرقاء بصوت صريح ومسموع. وهي مطالبة أيضا بأن تعيد النظر في المجالات الوهمية والثغور الحقيقية، الموكول إليها حمايتها مع إخوتها من الصالحين، سواء كانوا عاملين في الشأن الديني أو من باقي الحركات الإسلامية الأخرى. وهي أيضا "مجبرة"، إن صح التعبير، على تفويت جريدتها "التجديد" إلى حزب العدالة والتنمية، الذي فشل في إنجاح أية تجربة إعلامية، لأن العقل السياسي يرى ربح اللحظة السياسية أهم من نداء "يا سارية.. الجبل". قد تكون مثل هذه التحذيرات شديدة اللهجة، لكنها صرخة صادقة، تريد للحركة أن تلزم وظيفتها النبوية، التي ترتفع عن حسابات السياسة المؤقتة والمتغيرة بتغير الظروف، ويكون أثرها غيث رحمة للجميع. وهي أيضا ملزمة بطرح عوائدها الدعوية والتربوية من الفعل السياسي بقوة السؤال: ماذا حققنا بأسلوب المشاركة السياسية وماذا فقدنا؟ وما الغاية أن تبقى وجوه هي المرشحة الوحيدة دائما للبرلمان دون غيرها ولو تطلب منا الأمر ضرب إرادة القواعد في اختيار من يمثلهم أفضل تمثيل، كأننا نحاول أن نبلغهم بأنهم "سفهاء" يحتاجون إلى من يحجر عليهم؟ ثم ما موقف الحركة من المبادرة الداعية إلى ضرورة قيام تجديد ديني بالمغرب بعد 13 سنة من فتح ورش الإصلاح الحالي؟ وما موقفها مما تتعرض له الأمة الإسلامية اليوم من تقتيل في فلسطين وسوريا وليبيا واليمن وبورما وباقي الدول؟ أية إسهامات للحركة في نصرة المستضعفين عبر العالم والتبشير بدين الإسلام إنه لمن غريب الأمور أن نقرأ خبرا تم ترويجه مجلة "التايمز" مفاده قيام منظمة "الخوذات البيضاء" بإنقاذ السوريين ونشلهم من تحت الأنقاض، وتنشر تغطية بعنوان "من أحيى نفسا كأنما أحيى الناس جميعا"، ولا نبادر من جهتنا بشكرها على عملها الإنساني الراقي ببلاغ إعلامي يناصر الخير والحق من أي منبع نبع. أسئلة يضيق المقال عن إيراد غيرها، لكن يبقى الخيط الناظم بينها هو: ما المكاسب الحقيقة والمتوهمة والمحاذير من أن تضع الحركة كل بيضها في "قراب" السياسة، وتغني بأي لحن عزف لها من لدن حزب العدالة والتنمية؟ والله المستعان. - كاتب وصحافي