الحملات الانتخابية هي في العمق عمليات سياسية الغاية منها حث الناس على المشاركة في التصويت، واختيار المرشح أو البرنامج المعبر عن تطلعات المواطنين والمحقق لحاجياتهم المادية والرمزية..إنها تشكلات وتمثلات ووسائل ورسائل تواصلية، بها يتقرب المرشحون من المصوتين لقياس درجة تفاعلهم مع برامج وحملات الأحزاب السياسية، ومدى تأثيرها على اختياراتهم وسلوكاتهم الانتخابية. وعلى هذا الأساس تعتبر الحملات الانتخابية بالنسبة للأحزاب السياسية مناسبة لضبط نبض الرأي العام ونظرته للسياسة العامة وللسياسيين وللانتخابات، كما تعتبر معيارا لقياس، إما قوة الحزب أو ضعفه.. إنها لحظة تجسد إما الرداءة السياسية أو الجاذبية السياسية. إذا، في أي سياق تنظم الحملة الانتخابية لسابع أكتوبر؟ ما هي أسسها وخصائصها؟ وما هي علاقاتها بالتواصل السياسي، وبالجاذبية والتأثير، وبصناعة وتوجيه الرأي العام؟ وهل هي حملة انتخابية مهنية أم مشخصنة؟ وكيف تتمم عملية تسويقها؟ سياق الحملة الانتخابية لسابع أكتوبر: تعتبر الحملات الانتخابية في عمقها اتصالا سياسيا محددا زمانيا ومؤطرا قانونيا، وتجسد طبيعة النظام السياسي القائم ومؤسساته؛ لذلك يصعب مقاربة حملة الانتخابات التشريعية لسابع أكتوبر دون ربطها بالسياق العام الذي تنظم فيه، والمتميز بكونه ملوثا سياسيا، تراجعت فيه هيبة الدولة، وتاهت فيه الأحزاب، واتسعت فيه دائرة فقدان الثقة في المؤسسات، خصوصا بعد صدمة المواطن بفضيحة مسيرة الأحد العبثية، وتنصل وزارة الداخلية وكل الأحزاب منها، وسكوتهم عن المطالبة بفتح تحقيق في القضية التي شوهت صورة المغرب داخليا وخارجيا. الحملة الانتخابية والمرجعيات الدستورية والقانونية: من أهم مرتكزات الحملة الانتخابية للانتخابات التشريعية لسابع أكتوبر هي مقتضيات دستور 2011، خصوصا في فصله 11 الذي نص على أن الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي، والقوانين المؤطرة لها، خصوصا القانونان التنظيمان رقم 1620- المتعلق بمجلس النواب، ورقم 16 -21 المتعلق بالأحزاب السياسية، إلى جانب عدد من الأحكام والمراسيم والقرارات والأنظمة الأساسية للأحزاب التي تجمع كلها على التدبير الديمقراطي للاستحقاقات الانتخابية، وعلى إلتزام السلطات العمومية الحياد التام إزاء المرشحين وعدم التمييز بينهم. لكن رغم وجود هذه الترسانة القانونية المؤطرة لانتخابات سابع أكتوبر المقبل فإن الكثير من قادة الأحزاب والمرشحين، سواء في الدوائر الانتخابية المحلية أو الدائرة الانتخابية الوطنية، المخصصة للشباب وللنساء، لا يلتزمون بهاته الترسانة القانونية، ولم يطلعوا عليها؛ بل حتى بعض السلطات المحلية تتغاضى عن عدد من السلوكات الحزبية المتناقضة مع القوانين المؤطرة لهاته للحملة الانتخابية، وهذا ما يفقد القضاء والقانون هيبتهما، ويقضي على التنافس الشريف والعادل. الأحزاب السياسية والحملة الانتخابية: تتميز الحملة الانتخابية المعتمدة من طرف الأحزاب بآلياتها التقليدية في تقديم البرنامج الانتخابي والتسويق لمرشحيها والاتصال بالمواطنين، رغم التجاء بعض منها إلى مكاتب وشركات خاصة بالتواصل والتسويق السياسي والانتخابي؛ فضلا عن "التهافت" على وسائل التواصل الاجتماعي كواجهة للدعاية الانتخابية. ورغم كل المجهودات المبذولة من طرف الأحزاب، أكدت الأيام الأولى من الحملة الانتخابية العقلية التقليدية لأغلب زعماء الأحزاب السياسية ومرشحيها في تدبير إدارة الحملات الانتخابية والاستثمار في الاتصال السياسي، والاقتناع بأن القرن 21 هو قرن المعرفة والإعلام، الذي تقوت فيه سلطة التواصل السياسي على صناعة الرأي العام وتوجيهه. حملة انتخابية دون أي طعم أو جاذبية: بعد مضي أكثر من أربعة أيام، لاحظ الكل فتور الحملة الانتخابية لسابع أكتوبر المقبل وبرودتها من حيث عقد وتنظيم التجمعات الحزبية الجماهيرية الكبرى أو الخرجات التواصلية الجذابة والمثيرة، فباستثناء حزب العدالة والتنمية الذي نظم تجمعا جماهيرا كبيرا بقاعة مغطاة بمركب رياضي، تميز بالتنظيم والانضباط والجمالية والإثارة، وتجمع حزب الأصالة والمعاصرة بالصويرة الذي كان متميزا في شكله وفي مضمونه، وتجمع الحركة الشعبية بجهة فاسمكناس، نجد أن انطلاق حملة باقي الأحزاب كانت باهتة، الأمر الذي دفع المواطن أن يشعر بأنها حملة انتخابية بلا هوية أو طعم أو إثارة أو جاذبية أو مضمون أو رهانات أو تنافس حقيقي أو احترافية في التواصل السياسي؛ ما حولها إلى مجرد تواصل شكلي أو تمرينات تواصلية بصيغ تعبيرية متنوعة أو "نزهة اتصالية" في زمن انتخابي باهت يهيمن فيه التنافس بين الأشخاص وليس بين البرامج الحزبية كما أشرت إلى ذلك في إحدى مقالاتي. حملة انتخابية حول الأشخاص وليس حول البرامج: تجسد أشكال ومضامين الحملات الانتخابية عقلية وثقافة ووعي ومستوى زعماء الأحزاب السياسية ومرشحيها الذين لا يستغلونها كمجال حيوي للتنافس والصراع حول الأفكار والبرامج والأطروحات والرهانات والبدائل، بل كمجال للمس بالحياة الخاصة لقادة الأحزاب والمرشحين دون أي أساس، الأمر يسمم أجواء الحملة الانتخابية ويفرغها من محتواها لتكون مجالا تواصليا لطرح البدائل وتصحيح مسار الدولة وإقناع المواطن. إن رهن الحملة الانتخابية بالأشخاص بدل البرامج يعكس في العمق أزمة الثقافة والنخب الحزبية والسياسية والتناقض مع المبادئ الديمقراطية وأسس التواصل المؤسساتي والسياسي النظيف. الحملة الانتخابية وتشابه برامج الأحزاب السياسية: أكدت الحملة الانتخابية أزمة التعددية السياسية والتعددية الحزبية من حيث تشابه البرامج الانتخابية، إلى حد اغتيال المرجعية الإيديولوجية الحزبية؛ بل إن المهتم يشعر وكأننا أمام برنامج انتخابي واحد لحزب واحد وليس ل32 برنامجا انتخابيا ل 32 حزبا أو 32 خطابا سياسيا أو 32 رهانا إستراتيجيا أو 32 سلوكا حزبيا مشاركا في الحملة الانتخابية لسابع أكتوبر.. الأمر يعمق ضعف المؤشرات السياسية داخل الحقل الانتخابي الذي يكاد في حالات كثيرة يتحول إلى حقل لا سياسي؛ مما جعل بعض الفاعلين السياسيين، ومنهم الدكتور حسن طارق يعتبر الانتخابات المغربية ظاهرة سوسيولوجية أكثر مما هي سياسية. حملة انتخابية دون رهانات إستراتيجية: تتواصل الحملة الانتخابية في غياب رهانات سياسية إستراتيجية كبرى وواضحة، رغم أهمية الانتخابات التشريعية لتاسع أكتوبر وما ستفرزه من مؤسسات تشريعية وسلطات تنفيذية. ولعل تغييب الرهانات الإستراتيجية الكبرى في الحملة هو ما سبب غياب التنافس السياسي المؤسساتي بين البرامج الانتخابية والمشاريع المجتمعية المتنافسة. ومن المؤسف أن تغيب الأحزاب في برامجها الانتخابية التحديات الوطنية والإقليمية والدولية التي تنظم في ظلها هاته الانتخابات، وأن تربط رهاناتها في هذه الحملة بتقديم عروض سياسية للناخبين من أجل الوصول إلى هدف أساسي هو الفوز بالأصوات وبالمقاعد وبالمناصب على حساب الرهانات الإستراتيجية للبلاد، وفي مقدمتها قضية الصحراء والإرهاب والتنمية وقضايا الهجرة ورهانات الجهوية المتقدمة وترسيخ الحكامة الترابية والديمقراطية التشاركية وربط المسؤولية بالمحاسبة. -الحملة الانتخابية والتسويق السياسي: يعتبر التسويق السياسي عملية اتصالية تعتمد على تقنيات محددة تدرس حاجيات الناخبين وتطلعاتهم وسلوكهم الانتخابي بهدف استثمارها في تقديم مرشح أو ترويج مشروع سياسي ما بطرق شبيهة بالإشهار وبالأنماط البلاغية التي تستهدف الإقناع وإحداث التأثير. وتركز هذه التقنيات على المظاهر الانفعالية، شأنها في ذلك شأن الدعاية التضليلية la propagande، إلا أن أساس العملية التسويقية يبقى في النهاية تقنيا له مختصوه ومؤسساته وخبراؤه ومناهجه. حملة انتخابية لزمن سياسي رديء ولأحزاب شعبوية: ما يميز الحملة الانتخابية لسابع أكتوبر - إلى حد الآن- هي روتينيتها وتشابه برامجها وموادها الانتخابية، وغياب عوامل الفرجة والتشويق والجاذبية في برامج الأحزاب السياسية المشاركة فيها. ولعل غياب الفرجة والتشويق والجاذبية هو ما أضفى على الحملة الانتخابية الجارية نوعا من الملل، وجعل المواطن لا يوليها أي اهتمام. لقد أثبتت الأحزاب أنها لا تولي أي اهتمام للجاذبية في الفعل الانتخابي، بل ما يهمها هو الفوز بالمقاعد بغض النظر عن الكيفية، وفي هذا خطر على السلوك الانتخابي وعلى العملية الانتخابية ذاتها . والغريب في الأمر أن تشابه الأحزاب السياسية في حملاتها الانتخابية مس حتى شعارات وخطابات المرشحين الفاقدة لكل واقعية في أرقامها وفي إحصاءاتها وفي معطياتها. فلغة خطابات الأحزاب في هذه الحملة الانتخابية هي لغة الوعود الواهية، ولغة دغدغة المشاعر. وهذه المبالغة في الأرقام والإحصاءات والبرامج تعتبر في حد ذاتها تحايلا على الناخبين واحتقارا لذكائهم بعدم القدرة على التمييز بين الوعود الانتخابوية السياسوية والالتزامات التعاقدية الواقعية القابلة للتنفيذ؛ الأمر الذي يفيد بأن التحايل على المواطن في الزمن الانتخابي وباقي الأزمنة أصبح ماركة مسجلة للأحزاب السياسية المغربية . الخلاصة يتبين مع بداية الحملة الانتخابية والوصلات الإشهارية للأحزاب وبرامجها الحوارية أنها تمارس حملة فاقدة للاحترافية المبنية على أسس التواصل السياسي وليس على أسس المناورات السياسيوية الضيقة. ورغم كون المغرب منتميا إلى مجتمعات الإعلام والمعرفة، فجل الأحزاب السياسية المغربية- بدرجات مختلفة- مازالت لم تدرك قيمة الخطاب وقيمة الصورة في التأثير والإقناع وصناعة الرأي العام أثناء الحملات الانتخابية، بل إنها مازالت سجينة الاعتقاد بأن الاتصال السياسي الانتخابي هو مجرد تحويل زمن الحملة الانتخابية لتصفية الحاسبات السياسوية والدعاية السياسية لتبخيس برنامج المرشح المنافس، وهو مؤشر على أن الحملة الانتخابية لسابع أكتوبر لن تكون إلا حملة انتخابية شعبوية بلا أخلاق وبلا مبادئ وبلا أسس، وسيسطع خلالها نجم الحزب الشعبوي والمرشح المتحايل والتواصل السياسي الخبيث والعنيف والحاقد الذي سيفقد الحملة الانتخابية قيم الجمالية والجاذبية والإقناع والتأثير، وسيحولها إلى حملة انتخابية تشبه يوم القيامة كما جاء في الخطاب الملكي الأخير. *أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال [email protected]