لعل المواطنين لاحظوا أن الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب جاء حازما في موقفه من تجار الدين ومشددا على ضرورة مواجهة التطرف والإرهاب وصريحا في إخراج الدواعش من ملة الإسلام . خطاب ، في شقه الأساسي يجسد السلطة الدينية لمؤسسة إمارة المؤمنين التي ينيطها الدستور المغربي بالملك ، حين أعلن صراحة (إن الإرهابيين باسم الإسلام ليسوا مسلمين، ولا يربطهم بالإسلام إلا الدوافع التي يركبون عليها لتبرير جرائمهم وحماقاتهم. فهم قوم ضالون، مصيرهم جهنم خالدين فيها أبدا). إن الخطاب في جوهره فتوى تستهدف قضيتين جوهريتين لم تجرؤ أية جهة أو مؤسسة إفتاء في العالم الإسلامي على معالجتهما بشكل صريح . أولاهما تتعلق بإخراج الإرهابيين من ملة الإسلام حتى لا تظل جرائمهم محسوبة على دين المسلمين ؛ إذ لم تجرؤ أي مؤسسة إفتاء رسمية أو أي مجمع فقهي أن يخرجا ، بفتوى رسمية ومؤسَّسة ، الدواعش وكل الإرهابيين في العالم من ملة الإسلام . وهذه خطوة مهمة تضع المجلس العلمي الأعلى في تناقض مع خطاب الملك بفعل فتاواه ومواقفه من قضايا كثيرة أبرزها : أ موقفه من الدواعش الذين لم يصدر فتوى تكفرهم وتخرجهم من دائرة الإسلام ، الأمر الذي يَفهم منه عموم المواطنين أن هؤلاء الإرهابيين هم مسلمون وينتمون لدين الإسلام إلا أنهم متشددون ومغالون في فهمهم للإسلام ولتعاليمه. وهذا اللبس يسمح للأئمة والخطباء بالدعاء بالنصر للمجاهدين دون تحديد من يقصدون بالمجاهدين . بل كثير من خطباء الجمعة يعتبرون العراقوسوريا واليمن وليبيا أرض الجهاد ، ما يسمح بالاعتقاد أن العناصر الإرهابية التي تقتل الأبرياء وتسبي الفتيات والنساء هم "مجاهدون". الأمر الذي يهيئ نفسية الشباب وذهنيتهم لتقبل خطاب التطرف الذي يبثه المتطرفون فضلا عن خلق الاستعداد لدى كثير منهم للالتحاق بمناطق التوتر ، وهذا ما يفسر وجود نسبة 10% من المغاربة يؤيدون الدواعش وجرائمهم في سورياوالعراق وليبيا. ب فتوى المجلس العلمي الأعلى بقتل المرتد ،وهي الفتوى التي ليس فقط تتعارض مع نص الدستور والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب ، ولكن بالأساس تناقض جوهر الدين الإسلامي ومنطوق القرآن الكريم الذي ينص على حرية الاعتقاد (لا إكراه في الدين). فالقرآن الكريم لم يخصص عقوبة دنيوية لمن ارتد عن دينه ولو لمرات عديدة ،مثل قوله تعالى( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا(ص:137). وكون المجلس العلمي يفتي بقتل المرتد ، معناه أنه يشرعن جريمتي التكفير والقتل ويحرض عليهما ، وفي هذا لا يختلف نهائيا عن عقائد الدواعش وفتاواهم . فالمجلس العلمي إياه يؤسس للدولة الدينية التي لا مكان فيها لغير المؤمنين ولا حق لهم حتى في الحياة أو الأمان . وهذا تخريب للمشروع المجتمعي والسياسي الذي أجمع عليه الشعب المغربي ، بل إن الدستور يجعل الخيار الديمقراطي ثابتا من ثوابت المغاربة بما يعنيه ويؤسس له من حقوق المواطنة بغض النظر عن العقيدة والمذهب والعرق . ج ثم ازدراؤه لبقية الديانات السماوية . فالمجلس العلمي الأعلى والمجالس الإقليمية المتفرعة عنه يجيز للخطباء بسب أهل الديانات والملل الأخرى ونعتهم بأقذع النعوت ، بل وتكفيرهم . وهذا مخالف للتوجه الرسمي للدولة المغربية التي انخرطت في محاربة الكراهية والتأسيس للحوار بين الأديان . اعتبارا لهذه المواقف السلبية للمجلس العلمي الأعلى ولتخلفه عن مسايرة حركية المجتمع والانفتاح عن قيم العصر وثقافة حقوق الإنسان ، فإن المنطق السليم يقتضي أن يتخذ الملك ، وفق ما تخوله له صفته الدستورية كأمير المؤمنين ، قرار حل المجلس العلمي الأعلى وإعادة تشكيله وفق معايير وأسس جديدة تأخذ في الاعتبار ماضي الأعضاء المرشحين للعضوية ومواقفهم السابقة من حرية الاعتقاد وحقوق الإنسان في بعدها الكوني وحوار الأديان وكذا مواقفهم من حقوق النساء والأطفال حتى لا يأتي يوم ويخرج المجلس العلمي الأعلى بفتوى تحرم سفر المرأة بدون محرم أو خروجها من البيت دون إذن الزوج أو توليها القضاء وغيرها من الوظائف والمهام التي ظلت الفتاوى الموروثة عن الفقه التقليدي تشترط فيها "الذكورة". فما يؤهل الفقيه لعضوية المجلس العلمي الأعلى أو المجالس المحلية المتفرعة عنه ليس شهاداته الجامعية ولكن مواقفه الصريحة من القضايا الجوهرية التي تتعلق بالدولة المدنية والمجتمع الحداثي والخيار الديمقراطية . فكل من يُدين القوانين الوضعية وينتصر لتطبيق الشريعة ويتطلع لدولة الخلافة لا عضوية له بهذه المجالس ولا سبيل له لاعتلاء منابر الجمعة أو دروس الوعظ والإرشاد ، لأنه يطعن في أسس الدولة وخيارات المجتمع وثوابته . فلا يمكن أبدا بناء مجتمع متماسك ومتصالح مع عصره ومنفتح على قيمه الكونية بفقهاء يقضون كل أوقاتهم في التحريض على الكراهية وتشكيل ذهنيات المواطنين بما يصادم العصر بقيمه وعلومه ومنجزاته . القضية الثانية الجوهرية التي تطرق إليها الخطاب الملكي بكل تركيز وجرأة تتعلق بسحب احتكار الدين وتمثيله عن الجمعيات والهيئات ذات المرجعية الدينية ، بل حمّلها مسئولية ما يقع بسبب هذا الاحتكار من جرائم (فعلى هؤلاء أن ينظروا إلى أي حد يتحملون المسؤولية في الجرائم والمآسي الإنسانية التي تقع باسم الإسلام). الآن وقد سمى الملك الأشياء بمسمياتها ، فهل ستتخذ الحكومة الإجراءات اللازمة لأجرأة الخطاب الملكي ؟ لا خيار أمام النظام والدولة والمجتمع غير التصدي الحازم للتطرف في منابعه الفكرية والاجتماعية قبل أن تحل الكوارث.