كان لافتا الهجمة الشرسة التي شنها أكاديميون جزائريون على هامش الجامعة الصيفية التي احتضنتها إقامة المعهد الجزائري للبترول بمدينة بومرداس الساحلية. ورغم أن هذه الجامعة الصيفية تنظم بشكل سنوي في إطار الدعم النفسي الذي مافتئ النظام الجزائري يقدمه للجبهة الإنفصالية، فإن المحاضرات التي تم إلقاؤها من طرف بعض الأكاديميين، شكلت استفزازات جديدة في مسلسل معاكسة الوحدة الترابية للمملكة، وعكست حالة السعار التي باتت تنتاب الجارة الشرقية كلما تمكن المغرب من تحقيق مكاسب دبلوماسية في ملف الصحراء المغربية. ما سمي بالمحاضرات العلمية التي قدمها ما أطلق عليهم في الإعلام الجزائري ب "الاكاديميون"، بدت وكأنها حوارا للطرشان، في غياب حوار علمي أكاديمي، ينبني على المواجهة والإقناع. هم يدركون بالتأكيد، أن المعايير العلمية لسير الجامعات بكل فصولها الأربعة، تقتضي معايير عملية واضحة، وشروطا تستوجب نقاشا هادفا و بناءا، من خلال الرأي و الرأي الأخر. ويستوجب أيضا الإدلاء بالحجج و المرتكزات العلمية لما يتم سرده من وقائع ومعطيات خلال المحاضرات. هذا فقط من الناحية الشكلية. أما من ناحية المضمون، فالمواضيع التي تم تناولها من خلال هذه المحاضرات، من قبيل: الروابط التاريخية بين سلاطين المغرب و سكان الصحراء، حق الشعوب في تقرير المصير، واقع العزلة الدولية للمغرب، خلفيات طلب المغرب للعضوية داخل الإتحاد الإفريقي...فهي مواضيع لا تشكل بعدا راهنيا للجزائر، وتشكل بالمقابل، بغض النظرعن طريقة تناولها، تدخلا سافرا في شؤون دولة شقيقية وجارة. بالنسبة لهؤلاء الأكاديميين، أعتبر أن تناولهم لهذه المواضيع، تشكل استنزافا فكريا لهم، بعدما شكلت المواضيع ذاتها، وعلى الدوام، استنزافا ماليا لخزينة بلدهم. بالطبع، فالمواقف التي عبر عنها بعض "الاكاديميون" برحاب جامعة بومرداس، لا تعبر البتة عن رأي كل الأكاديميين الجزائريين. لكن يبدو أن النظام قد كرس مقاربة جديدة/قديمة، ترمي إلى تجييش بعض أساتذة الجامعات الجزائرية، من أجل الترويج للسياسة العدائية تجاه المغرب، والقائمة أساسا على إذكاء النعرات الإنفصالية بالأقاليم الجنوبية للمملكة. تبني هذه المقاربة من طرف الدبلوماسية الجزائرية الخاضعة للنظام العسكري، تعكسه خمس خلفيات رئيسية. الخلفية الأولى لهذه الهجمة الشرسة، تتعلق بالرهان أكثر فاكثر على الوسائل و الإمكانيات الداخلية للجزائر، وذلك بعدما أصبحت الوسائل الخارجية مكلفة في زمن الأزمات العالمية. ومن بين الحلول الذاتية المقترحة في هذا الإتجاه، هو تجييش بعض الأكاديميين وحثهم على توجيه سهام نقدهم إلى الدبلوماسية المغربية. وإذا كان النظام الجزائري قد سلك النهج ذاته مع وسائل الإعلام الخاضعة لخطه التحريري، فإن البون يبدو شاسعا بين الآليتين المعتمدتين. فالإعلام يملك مبدئيا، هامشا من الحرية للتصريح بما يملى عليه في غياب أدلة ثبوتية، لكن الواقع الأكاديمي، يستلزم بالضرورة الدقة و الموضوعية، وإلا فإن المارقين عنه، كما هو الشان بالجامعة الصيفية لبومرداس، لن تبقى لهم المصداقية الضرورية، لمواجهة طلبتهم حين يلتحقون بمدرجات الجامعة حيث يدرسون. الخلفية الثانية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالخلفية الأولى، وتتعلق باستغلال مواقف "الأكاديميين"، لتخفيف حدة التوثرات الإجتماعية داخل الجزائر، و التي ضافت درعا بالإمكانيات المالية الهائلة التي يرصدها النظام في سبيل دعم التوجهات الإنفصالية داخل الجار الغربي. فخلال سنوات الرخاء النفطي التي عاشتها الجزائر لسنوات طويلة، لم يكن باديا التأثير المباشر لذلك الدعم على عيش المواطن الجزائري، رغم أن التأثير كان كارثيا على الإقتصاد الجزائري. بعد اضطرار الجزائر للجوء لاجراءات تقشفية صارمة في الآونة الأخيرة، بدأت التخوفات من الردود الشعبية الغاضبة. وهنا نعتقد أن ما روج له أكاديميو النظام بمدينة بومرداس، يعكس توجها مفضوحاا لإيجاد التبريرات المناسبة لاستمرار تدخل الجزائر في ملف الصحراء. الخلفية الثالثة لتجييش "الأكاديميين" وحثهم على مهاجمة المغرب، تأتي في إطار ردة الفعل على الخطوة المفاجئة التي أقدم عليها المغرب، وذلك من خلال التقدم باستعادة العضوية داخل المنظمة الإفريقية. خطوة أربكت كثيرا مخططات النظام الجزائري، وهو ماعكسته بشكل واضح، طبيعة التدخلات التي قام بها أكاديميو النظام، في محاولة يائسة منهم للتقليل من أهمية الخطوة وبعدها الإستراتيجي، خاصة ما أعقب ذلك من تقدم 28 دولة افريقية بطلب طرد الكيان الإنفصالي من منظمة الإتحاد الإفريقي، وعزم دول أخرى القيام بخطوات مماثلة. الخلفية الرابعة تعتبر امتدادا طبيعيا للخلفية الثالثة، وهي استباق ما يمكن أن تعيشه الجزائر من عزلة دولية إن نجح المغرب بالفعل في استعادة عضويته كاملة، ونجح في مسعاه بطرد الكيان الإنفصالي من الإتحاد الإفريقي. ولعل ما يؤكد هذا الطرح، تركيز جل المحاضرات وبشكل مبالغ فيه، على ما تم اعتباره عزلة دولية يعيشها المغرب، واقع يعكسه المثل العربي: "كل إناء بما فيه ينضح". وفي هذا السياق، فالخلفية الخامسة والأخيرة تعكس محاولة يائسة للتقليل من قيمة المكاسب التي تحققها الدبلوماسية المغربية في الآونة الاخيرة، وتعبئة كل الأطراف الداخلية بالجزائر بما فيها اساتذة الجامعات، للنيل من المغرب، وبالتالي امتصاص الضربات التي يتعرض لها النظام و تخفيف تأثيرها أمام الرأي العام الجزائري. وحتى لا نذهب بعيدا عن ملف الصحراء المغربية، فهناك مواضيع أكثر راهنية وأهمية بالنسبة للجزائر. وهنا أقترح على هؤلاء "الأكاديميون"، أسئلة يمكن أن تشكل مواضيع لمحاضرات وملتقيات علمية رصينة، كما يمكن أن تشكل قيمة مضافة للسياسة الخارجية الجزائرية إن أرادت أن تكسب بعدا استراتيجيا. ماهو الدور الحقيقي الذي يجب أن يلعبه الأكاديميون و المفكرون في سبيل التقريب بين الشعوب المغاربية؟ما هي الكلفة الحقيقية التي قدمتها وتقدمها الجزائر لاستمرار النزاع في ملف الصحراء المغربية؟ ما هو ذنب المواطن الجزائري البسيط حتى يتحمل تبعات نزاع إقليمي لايهمه لا من قريب ولا من بعيد؟ ماهي تأثيرات النعرات الإنفصالية على مستقبل واستقرار الدول المغاربية؟ ماهي التهديدات التي تشكلها منطقة الساحل و الصحراء وتاثيرها على الأمن القومي للدول المغاربية؟... بالطبع، تبقى هذه مجرد اقتراحات لفائدة أكاديمي النظام الذين شاركوا في الجامعة الصيفية لبومرداس، وأيضا لكل الزملاء الأكاديميين الذين يكدون داخل مدرجات الجامعات الجزائرية بكل استقلالية وعزة نفس. وربما ستسنح لي الفرصة يوما ما، بلقاء بعض من أكاديمي الفئة الأولى ، لنقوم بنقاش حقيقي وهادف لكل المواضيع ذات الصلة، نقاش يستجيب فعلا للمعايير العلمية و المعرفية المتعارف عليها دوليا. [email protected]