ما زالتْ ردود الفعل الغاضبة من تعامُل السلطات القضائية مع قضيّة الطفلة القاصر خديجة السويدي، المنتحرة حرْقا قبل أيّام في بلدة بنجرير نواحي مراكش، احتجاجا على إطلاق سراح شبّان اغتصبوها، واستمرّوا في تهديدها بنشر صورِ لحظات الاغتصاب على مواقع التواصل الاجتماعي، (ما زالت) مستمرّة، ولمْ يخفّف بلاغ وزارة العدل والحريات من حدّتها، بلْ أفرزَ مزيدا من الانتقادات. وتساءلَ عدد من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي كيف ظلّت آذان العدالة "صمّاء" إزاء استغاثات الطفلة خديجة، ولمْ تتحرّك إلا بعدَ أنْ أقدمتْ على إضرام النار في جسدها وماتت حرْقا، بيْنما قالت المحامية بهيئة الدارالبيضاء خديجة الروكاني لهسبريس إنَّ الحُكم المخفف الصادر في حقّ أحد الجناة في وقت سابق، والذي لم تتعدّ مدّته 8 أشهر، "كانت كُلفته غالية جدا، وهي حياة طفلة قاصر"، وأضافت: "خديجة أحرقت نفسها بعدما فقدت الثقة في القضاء". بلاغ الرميد يرشح بُهتانا ودفعَ غضبُ الهيئات المدنية المدافعة عن حقوق النساء بالمغرب واحتجاجُها أمام وزارة العدل، وكذا الانتقادات الواسعة للسلطات القضائية على مواقع التواصل الاجتماعي، عقبَ انتشار خبر انتحار الطفلة خديجة حَرْقا، (دفع) وزارة العدل والحرّيات إلى إصدار بلاغ في الموضوع، حاولتْ من خلاله طمْأنة الرأي العام بأنَّ الجُناة سينالون جزاءهم، لكنّ هذا البلاغ أيضا وُوجه بانتقادات. وذهبتْ المحامية الروكاني (يسار الصورة) إلى اتهام وزير العدل والحريات ب"الكذب"، وقالت في حديث لهسبريس: "بلاغ وزارة العدل والحريات يَرشَحُ بُهتانا وفيه تزوير للحقائق لتبرئة ساحة القضاء المقدّس". وكانَت الوزارة قد أكّدت في بلاغها أنَّ أحد الجُناة حُكم عليه بثمانية أشهر حبسا نافذا "من أجل هتْك عِرْض قاصر دون عنْف"، لكنّ الروكاني تقولُ إنّ ما جاء في البلاغ غير صحيح. وتوضّح أنَّ القانون الجنائي المغربي لا يتضمّن عقوبة حبسيّة بثمانية أشهر في حقّ هاتك العِرْض، لتخْلُصَ إلى أنّ "هذا يعني أن ثمانية أشهر لم يُحكم بها على الجاني لأنه هتك عِرْض الطفلة خديجة، بل بتُهمة لاتجار في المخدرات"، وتساءلت الناشطة الحقوقية ضمن تحالف ربيع الكرامة: "لماذا أسقط الرميد المخدرات عمْدا من بلاغه؟ هادشي كُولّو كْدوب". "لماذا لم يستدعوا أمّها؟" ووقفت الروكاني عند جُملة من "الاختلالات" في التعاطي مع ملفّ الطفلة خديجة، وقالت في هذا السياق إنّ الاستماع إلى الضحية القاصر أثناء التحقيق بدون حضور أمّها "يعتبر خرْقا سافرا لقواعد المسطرة الجنائية"، وتساءلت: "لماذا لم يستدعوا أم الضحية لتنصّب نفسها كطرف مدني لتطالب بالتعويض؟ ولماذا حُكم على خمسة متهمين بالبراءة، وحَكموا على واحد بثمانية أشهر، رغم أنهم شركاء في الواقعة نفسها وفي مكان واحد؟". وفيما قالَ بلاغ وزارة العدل إنّ النيابة العامة "ستدافع بقوة بما يمليه عليها القانون وتحرص على إقناع المحكمة بثبوت أسباب الإدانة"، انتقدتْ الروكاني "تبريرات" وزير العدل، قائلة: "يقول الرميد إنّ ملف المتهمين الخمسة مُدرج في شهر غشت، فلماذا بقي رائجا أمام المحكمة لمدّة عشرة أشهر ولم يُبث فيه استئنافيا؟ المحاكمة العادلة يجب أن تكون في أجل معقول، وربما لو لم تنتحر خديجة ما كان الملفّ ليُفتح، لكن حين انتحرت واشتدّ الضغط طلبت النيابة العامّة تقريب الجلسة إلى 24 غشت". غيْر أنَّه وإن طالبت النيابة العامّة بتقريب أجلِ البتّ في ملفّ الطفلة خديجة، إلا أنّ الروكاني تُبْدي مخاوف من أنْ تتمّ المسارعة إلى طيّ الملفّ دونَ إنصاف الضحية، ولو أنّها غادرت الحياة، وقالت في هذا الصدد: "يوم الاثنين دّابْزنا مْدابزة حقيقية مع هيئة المحكمة، وتدخّل رئيس المحكمة وأعطى أجلا حتّى نتمكّن من تحضير الدفاع، لأن المحامين في عطلة، وأنا قطعتُ عطلتي لمؤازرة الضحية. كانوا يريدون أن يُبتّ في الملف في اليوم نفسه، وضغطنا إلى أن استُجيب لطلبنا بتأخير الجلسة إلى يوم الاثنين". عقلية ذكورية وإذا كانتْ الطفلة خديجة لنْ تتمكّن من أن تشهدَ العقوبة التي سيُنزلها القضاء بمُنتهكي عِرضها، ودفعوها إلى الانتحار حرْقا، ولنْ تطمَئنّ نفسُها، مهما بلغتْ قسوة العقوبات التي ستصدُر في حقّ من سيُدانُ منْهم، إلا أنَّ واقعة انتحارها تطرحُ أكثر من سؤال حوْل ما إنْ كانت فصول القانون الجنائي المغربي كافيّة لحماية النساء من الاغتصاب؟ وما إنْ كانَ قضاة المحاكم المغربية يتعاملون بما يكفي من الصرامة والحزم مع المُغتصبين؟ "نحن نعتبر أن التشريع المغربي بكل مكوناته قاصر عن حماية النساء من العنف، وخاصة العنف الجنسي"، تقول الروكاني، وتعدّد جُملة من عوامل هذا "القصور"، ومنها إقصاء النساء من الولوج إلى العدالة، لوجود إشكاليات كثيرة تحول دون ذلك، ثم عدم تجريم الكثير من الأفعال، والإفلات من العقاب الذي تعتبره الروكاني "إشكالية في التشريع الجنائي المغربي". ولهذه الأسباب تطالب الهيئات المدنية المدافعة عن حقوق النساء بقانون شامل لحماية النساء من العنف، يقوم على الزجر والحماية والوقاية والتكفل بالنساء ضحايا لعنف، "وهذا غير متوفّر في القانون الجنائي المغربي"، تقول المتحدثة. غيْر أنّ وضعَ ترسانة قانونية جيّدة قد لا يكفي لحماية النساء من العنف، خاصّة العنف الجنسي، لكون القانون الجنائي المغربي، بحسب الروكاني، يُعالج قضايا العنف الجنسي ضدّ النساء بمنطق صيانة الأخلاق العامّة والحفاظ على بنيان الأسرة وليْسَ بمنطق حماية النساء، موضحة: "حين تكون خلفية المعالجة بهذا الشكل فمن الصعب أن نتصور أن هذا القانون سيحمي النساء من العنف، لهذا نطالب بالتغيير الجذري والشامل للقانون الجنائي المغربي". وتُضيف الروكاني عاملا آخر ترى أنّه يعوق توفير حماية قانونية للنساء من العنف، وهو "الثقافة الذكورية" السائدة في المجتمع، "والتي صارت الخلفية التي تفسّر بها النصوص القانونية"، على حدّ تعبيرها، مضيفة "حين أتحدث عن استقلالية القضاء، لم أعد أطرح استقلالية السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، بل أصبحتُ أعتبر أن الاستقلال الحقيقي للقضاء، خاصة في القضايا المتعلقة بالنساء، هو استقلاله عن الإيديولوجيا، وعن ثقافته الذكورية، والثقافة المتخلفة السائدة داخل المجتمع". مقترحات لحماية النساء من العنف وإذا كانتْ أبرزُ ذريعة يتذرّع بها القضاة لعدم إنزال عقوبات مشدّدة في حقّ المتهمين بالاغتصاب هي صعوبة إثبات الإدانة، فإنّ الهيئات المدنية المدافعة عن حقوق النساء ترى أنّ هذه الذريعة واهية، وسبَق لتحالف ربيع الكرامة أنْ تقدّمَ بمقترحات في هذا الشأن في مذكّرة موجّهة إلى وزارة العدل والحريات، طالب فيها بأنْ يكونَ المُشتكَى به هو الذي يجب أن يُثبتَ براءته من تُهمة الاغتصاب، وليْس الضحية هي التي يجبُ عليها أنْ تُثبتَ حصول الواقعة. واستدلّت المحامية خديجة الروكاني، في هذا السياق، بواقعةِ اعتقالِ مُلاكم مغربي ضمن الوفد المشارك في الألعاب الأولمبية بمدينة ريّو دي جانيرو بالبرازيل، بعدما تقدّمت عاملتا نظافة في الفندق حيث يُقيم بشكاية ضدّه تتهمانه فيها بمحاولة الاغتصاب، وواقعة أخرى مشابهة تورّط فيها رئيس البنك الدولي السابق الفرنسي دومينيك ستراوس كان، موضحة: "جريمة الاغتصاب لها خصوصية، ولا يُمكن للقاضي أن يأخذ رأي المعتدي ويُلغيَ رأي الضحية". المقترح الثاني، الذي ترى الروكاني أنّه لا مَحيدَ عنه لضمان إنصاف النساء ضحايا العنف، هو وجوب أن تستنفذ الجرائم والاعتداءات على النساء جميع الإجراءات المسطرية المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية، سواء من قِبل الشرطة القضائية، أو قاضي التحقيق، ورئيس جلسة المحاكمة، معتبرة أنَّ الشرطة القضائية لا تقوم بالانتقال والمعاينة، ولا تستمع للشهود في جرائم العنف ولا تلتقط الصور الفوتوغرافية للضحايا. وثمّة عامل آخر ترى الروكاني أنّه يساهمُ بشكل كبير في إفلات الجناة المتورّطين في قضايا الاغتصاب من العقاب، وهو عدم توظيف الخبرة الطبية، موضحة أنّه في حالة الطفلة خديجة "أجروا الخبرة الطبية فقط لكي يتأكدوا هل هي حامل أم لا، أيْ إنّها فاسدة". وانتقدت الناشطة الحقوقية غيابَ قانون للطبّ الشرعي. ورغم أنّ وزارة العدل والحريات أعدّتْ مشروعا، إلا أنّ الروكاني اعتبرته "كارثيا"، لأنّه، بحسب قولها، "يشبه قانون الطبّ الشرعي لدولة أوروبية في القرن التاسع عشر، بيْنما أصبحت الدول المتقدمة تتوفر اليوم على طبّ شرعي فيه تخصّصات".