كيف تستقيم ديمقراطيتنا ؟ إن ما يفرض طرح هذا السؤال القديم _ الجديد هو استمرار أعطاب وعوائق الدمقرطة المطلوبة للدولة ومؤسساتها وللمجتمع بمختلف مكوناته وهيئاته المدنية. فمنذ ستينيات القرن الماضي و التجربة الديمقراطية المغربية لا تخطو خطوة صغيرة ,و شكلية, إلى الأمام إلا لتتراجع خطوات إلى الوراء في مشاهد انتكاسية محبطة كما وقع ,على سبيل المثال عندما تم خرق " المنهجية الديمقراطية" بعد انتخابات 2002 ما أدى إلى إجهاض تجربة التناوب التوافقي , وعندما عادت الدولة إلى عادتها القديمة بتدخلها التعسفي في الحقل الحزبي منذ 2009 إلى لحظتنا هذه لأجل التحكم في التوازنات السياسية بين مختلف الفاعلين الرئيسيين , ما يؤدي إلى إعادة إنتاج "ديمقراطية الواجهة" ضدا على المكتسبات المحققة ,وفي مقدمتها اليوم نص وروح دستور 2011. إن أي جواب عن السؤال أعلاه سيظل غير مكتمل إذا لم ينطلق من بديهية أن الديمقراطية منظومة متكاملة العناصر, يرتبط فيها جدليا الاقتصادي بالسياسي والاجتماعي والحقوقي والقانوني والثقافي..الخ , ومن هنا لا تصير الديمقراطية باعتبارها كذلك واقعا معاشا في أي مجتمع إلا عندما تتجسد في تعددية سياسية تمثيلية حقيقية , وعندما تتقلص الفوارق الطبقية بنهج سياسات اقتصادية واجتماعية تجعل من العدالة الاجتماعية والمساواة أفقا لها, وعندما تترسخ فكرة وثقافة وقيم المواطنة في كل النسيج المجتمعي كبديل عن مختلف الانتماءات والو لاءات العصبوية والقبلية والعشائرية والطائفية. إن إسقاط أي عنصر من هذه العناصر المركزية في البناء الديمقراطي أو إرجاؤه بذريعة معينة ( كإرجاء حرية المعتقد في الدستور مثلا) سيصيب حتما العملية الديمقراطية بعطب بنيوي يعطل مسارها, فالديمقراطية كل لا يتجزأ, وبالتالي فهي لا تقبل الإنجاز بالتقسيط . بناءاعلى هذه المقدمات, يمكنني هنا اقتراح عناصر جواب أولية عن سؤال: كيف تستقيم ديمقراطيتنا ؟ وبصيغة أخرى, ما سبل إنعاش التجربة الديمقراطية المغربية وإنقاذها من الإرتكاس, أو التحول إلى سلطوية ناعمة, مقنعة ,تنتحل صفة الديمقراطية بينما هي في الممارسة الملموسة استبداد جديد, سواء كان تحت يافطة " الحداثة" أ وباسم مرجعية " الإسلام السياسي" ؟؟ العنصر الأول: إنضاج وصياغة تعاقد وطني , سياسي واجتماعي, بين مكونات الحقل السياسي على اختلاف مرجعياتها ,وبين هيئات المجتمع المدني, وذلك على قاعدة روح دستور 2011 ,و منهجية التأويل الديمقراطي الحداثي لمقتضياته, مع تعديل بعضها وإضافة أخرى بما يفتح الأفق أكثر نحو إرساء نظام الملكية ا لبرلمانية . العنصر الثاني: حماية الدين الإسلامي كمشترك هوياتي تاريخي ووطني موحد من التنافس على حيازة السلطة السياسية, والنأي كذلك ,بالمجال السياسي عن توظيف المرجعية الدينية في التحشيد والتجييش والسجال السياسي لما يشكله ذلك من خطر على المجالين معا, الديني والسياسي ,وعلى التدبير الديمقراطي العقلاني والسلمي للاختلاف. إن الفصل بين هذين المجالين أمسى ضرورة حتمية لأي تقدم ديمقراطي. إن نظاما سياسيا ديمقراطيا في ظل دولة وطنية مدنية, دولة الحق والقانون , هو ما ينبغي أن يشكل الترجمة الفعلية والملموسة للخيار الديمقراطي الذي نص الدستور عليه كثابت من الثوابت الوطنية ما يفرض الارتكاز عليه كأرضية مشتركة في أية توافقات أو تحالفات بين الفاعلين المركزيين في الحقلي السياسي , وبين مختلف مكونات المشهد الحزبي . العنصر الثالث : سن ونهج نموذج تنموي جديد ,يضع حدا لإنتاج وإعادة إنتاج الفوارق الطبقية الحادة المتعددة التجليات الاجتماعية الفاضحة لمستويات الفقر والهشاشة والأمية وانعدام شروط العيش الكريم لفئات واسعة, والتي تزداد اتساعا بفعل الطابع النيوليبيرالي لجل السياسات العمومية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. ولأن التجارب برهنت على فشل رهان التنمية بإرجاء, أوعلى حساب, مطلب الديمقراطية, فإن أي رهان لا يربط بشكل جدلي ووثيق بين التنمية كأفق للعدالة الاجتماعية وبين الديمقراطية في أبعادها المتكاملة, لن يحالفه غير الإخفاق أيضا, وفي أحسن الأحوال التعثر الدائم المفتوح على الانتكاس .. العنصر الرابع: الانخراط القوي, المؤطر والمؤثر للنخب الثقافية في سيرورة البناء الديمقراطي . إن قضايا كبرى تواجه الفاعل السياسي , ولن يجيب عنها بالوضوح والاستشراف المطلوبين غير النخب الفكرية والثقافية , كقضايا الهوية الوطنية , والتعدد والتنوع , والإصلاح التربوي والتعليمي واللغوي , والإصلاح الديني , وعلاقتنا بالقيم الكونية لحقوق الإنسان المعاصر, وغيرها , وإلا تركت للإبتذاال والتوظيفات السياسوية السطحية ذات العواقب الوخيمة على السياسة والثقافة معا . العنصر الخامس : عدم اختزال الديمقراطية في ثنائية أغلبية ومعارضة تفرزهما صناديق الاقتراع . وقد لا أبالغ, أو أجانب الصواب إذا ما قلت هنا بجزم: هذا هو الطريق الحريري لعبور واستتباب الاستبداد. ولا أحتاج في هذا الحيز إلى استعراض أمثلة من تجارب باتت معروفة . العنصر السادس: إصلاح الحقل الحزبي, وذلك بالقطع النهائي مع أي شكل من أشكال تدخل أجهزة الدولة في رسم الخريطة الحزبية الوطنية على المقاسات ووفق التوازنات التي تخدم هيمنتها , فقد أدى المغرب منذ ستينيات القرن الماضي إلى هذا اليوم من الألفية الثالثة تكلفة غالية بفعل سياسة صنع أحزاب هجينة باتت اليوم عبئا على الانتقال السلس نحو التداول الديمقراطي للسلطة السياسية . كما يقتضي إصلاح الحقل الحزبي دمقرطة حقيقية للهياكل الحزبية من جهة , وفتحها على المجتمع لتقوم بدورها التأطيري المطلوب من جهة أخرى . العنصر السابع : الانتقال التدرجي "والإرادوي" من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التشاركية الأفقية, ديمقراطية تقررها وتنجزها الإرادة السياسية المشتركة للدولة بمختلف مؤسساتها ومكوناتها والمجتمع المدني كطرف رئيس فيها , أما دون ذلك, فسيظل مسار بناء الديمقراطية أسير ثنائية أغلبية _ معارضة, التي تهدد بالارتداد والانتكاس والتحول إلى " استبداد ديمقراطي" !! إن إسقاط أي عنصر من هذه العناصر في البناء الديمقراطي أو إرجاؤه بدعاوى معينة سيصيب حتما الديمقراطية كمنظومة متكاملة بعطب يعطل مسارها, وقد يوقفه نهائيا , فالديمقراطية مشروع مجتمعي متكامل لايقبل التجزيء ولا الإنجاز من خلال جرعات مضبوطة على مقاسات مصلحية غير مقاس المصلحة العامة للوطن وللدولة وللمجتمع ..