يرمي هذا المقال إلى تقديم قراءة من زاوية أخرى للمشهد السياسي المغربي الذي يشهد في الآونة الأخيرة تسارعا في الأحداث يصعب معها إدراك نسقيتها و الثابت و المتحول منها. ورغم تعدد الفاعلين المؤثرين في هذا المشهد و اختلاف مشاربهم و مأربهم فإننا سنركز هنا الحديث عن السيد بنكيران، رئيس الحكومة، من خلال تحليل سياسته و أبعاد علاقته بالأطراف السياسية الاخرى و خصوصا ما يصطلح عليه بدولة المخزن. لكن قبل ذلك يجب علينا حصر بعض المفاهيم المؤسسة لهذا التحليل و التي يمكن إجمالها في ثلاث نقاط : أولا: المقاربة المعتمدة للتحليل والتي ترتكز أساسا على آليات البحث الاستدلالي المبني على علاقة السبب بالنتيجة ذلك أن معرفة أسباب نزول الاحداث افيد و اثمن من الناحية العلمية من مناقشتها. فإذا عرف السبب بطل العجب كما يقال. ثانيا: إننا إذ تناول سياسة السيد بنكيران فإننا نناقش حمولة الرجل من منظور شمولي بصفته و موقعه بعيدا عن الشخصنة و الشيطنة. ثالثا: إن استعمال مصطلح المخزن وان استبدل حديثا بمفاهيم أخرى من منوال الحاشية ثم الدولة العميقة إلى غير ذلك من المسميات فإنما يجسد الدلالة على السلطة المتجسدة من خلال محيط السلطان وما يحوم حولها. وهو مفهوم متأصل في كتب التاريخ المغربية التي أفردت لها حيزا مهما لشرح مكوناته و مكنوناته و بنيات تطوره. بعد كل هذا جاز لنا أن نغوص في الموضوع و سنقوم بهذا انطلاقا من خمسة محاور رئيسية لنخلص بعد تجميعها لقراءة المشهد في شموليته. بنكيران و استراتيجية الحكم "من لا استراتيجية له يكون طرفا في استراتيجية الآخر". مقولة معروفة تلخص علاقة الفاعلين و خصوصا إذا توفر لدى أحدهم النية و العدة للاستحواذ و احتواء الآخرين. فهل يا ترى تتوفر لدى بنكيران و المخزن استراتيجية للحكم؟ بالمفهوم و المحتوى الأكاديميين للاستراتيجية، من السهل الجزم بأن بنكيران و إخوانه لا يمتلكون أي من أدواتها. أما المخزن فمن يرى كيف تم تسويق صورة الملك منذ السنين الأولى لحكمه و من يعرف كنه مبادرة التنمية البشرية على ما أعتلى تنزيلها من قصور و من يرى اطلاق جملة من المشاريع الكبرى و يقدم مقترح الحكم الذاتي للصحراء و يقرر العودة للاتحاد الأفريقي ليدرك بجلاء أن هناك مختبرا فكريا داخل منظومة المخزن يسهر على صياغة الاستراتيجيات ووضع الخطط. في هذا المشهد نقف اذن امام مسرحية يقوم فيها نفس الشخص بدور كاتب سيناريو و منتج و مخرج (من طينة ستيفن سبيلبرغ)، وممثلٍ اُنيط به لعب دور ما وفق نص مكتوب (تتوقف امكانية الخروج عن السكريبت بين الحين و الأخر على مهارة الممثل و قدراته الارتجالية واحتوائه لباقي الممثلين). بنكيران السياسي و بنكيران رجل الدولة لا أحد يجادل بقدرات بنكيران كسياسي على مقارعة الخصوم و استمالة الأنصار و ارتجال الخطب إلا أن ما ينقصه شكلا كان اتقان آليات التواصل باللغات الاجنبية و التكيف مع الاعراف البروتوكولية و الطقوس البلاطية و"اتيكيت" علية القوم فكان منه بعض الزلات اللسانية و الدخول بين الحين و الآخر في مشادات مع بعض منتقديه. ومن حيث المضمون لم يستطيع كمايسترو الفرقة الحكومية ظبط إيقاع العزف و نغمة اللحن ففقد السيطرة على بعض الوزارات الحيوية (التربية الوطنية، الخارجية، المالية...) حين سقط شباط هو الآخر ضحية لإستراتيجية طرف ما و ظهر في حالات عدة وكأنه يقود فرقة "كلها يلغي بلغاه". من جانب آخر اسهم ضعف فريق ديوانه كما هو حال اغلب وزراء حزبه وسط أسباب أخرى في استقبال المزيد من الضربات و فقد المزيد من الصلاحيات (الإشراف على الانتخابات، صندوق التنمية القروية، لغة التدريس...). لقد كان رجلا سياسيا لكنه لم يستطيع أن يكون رجل الدولة الملم و المتحكم في تفاصيل عزف و اشتغال فريقه الحكومي. بنكيران وتنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي ما انفكت المؤسسات الدولية المُقرِضة و من على شاكلتها من صندوق النقد الدولي و البنك الدولي...تطالب المغرب بإجراء العمليات الجراحية على اقتصاده و ماليته كرفع الدعم و تحرير الأسعار وتعويم الدرهم و "اصلاح" انظمة التقاعد و تقييد الاضرابات الشيء الذي لم تتجرأ عليه كل الحكومات السابقة بما فيها حكومة التناوب إلى أن جاءت حكومة بنكيران لتباشرها جميعا. أ فعلت ذلك لقوتها و شجاعتها أم أن هناك أمور أخرى دفعتها إليه دفعا؟ هذه الإجراءات المريرة هي الوصفة التقليدية للمؤسسات الدولية للحفاظ على التوازنات الماكرواقتصادية إلا أن المتضرر الأساس منها هي الطبقات المتوسطة و الفقيرة التي تشكل الغالبية العظمى للمجتمع و لذلك فإن تمريرها يبقى محفوفا بالمخاطر لتهديدها السلم الاجتماعي و استقرار البلاد. لذلك كان لزاما البحث عن طبيب له معرفة و دراية جيدة بالمريض حتى يستطيع قطع ساقه المريضة بدون "بنج" و دون ان ينتج ردة فعل عنيفة من طرف المريض. وهذا ما قام به بنكيران بكل عفوية و جدية وربما سذاجة إيمانا منه أن عدم استئصال الساق المريضة قد يعرض حياة المريض كلية للخطر. لقد قام بالمهمة على أحسن وجه! بنكيران و محاربة الفساد و الاستبداد عجل حراك الربيع المغربي على حمل بنكيران الى الحكومة بصلاحيات أوسع مقارنة بسابقيه و في سياق كان يبشر على كل حال بالقطع مع ماضي الفساد و الاستبداد وهو ما تناغم إلى حد كبير مع وعوده الانتخابية. إلا أن الإحساس بعد الجلوس على الكراسي الوثيرة و المكاتب المكيفة غالبا ما ينسي المرء و بسرعة حرارة الخطب النارية و آذى قرع الطاولات فتظهر الإكراهات و تبرز الاشكاليات و تتعقد الحسابات فتتعاظم المبررات و تُكيف التأويلات لتؤول في الأخير الى التسليم بمدلول "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" أو حكمة "كم حاجة قضيناها بتركها". فانهزمت شوكة من قامت الآمال عليهم لمحاربة الفساد و الظلم و الاستبداد عند اول امتحان (رخص المقالع) لتتوالى بعد ذلك النكسات و السقطات حتى اصبح التطبيع مع الفساد و التبرير للظلم ديدانا و توجها لحكومة بنكيران التي لم تعد ترتدع إلا مع هبَّات شعب الفيسبوك وما جاوره. لقد ابانت المعطيات المتوفرة، الضعف المخجل لحكومة بنكيران امام هيمنة و سطوة اللوبي الرأسمالي وحلفائه فأغدقت عليه المزيد من التخفيضات الضريبية و التحفيزات الاستثمارية و التشجيعات العقارية والتحصينات الجمركية وما شابه ذلك من الغنائم التي وصلت حد اقرار مبدأ "عفى الله عما سلف". وأطلقت له العنان من جهة اخرى، بعد تدمير جودة المرفق العمومي، في السيطرة على مفاصل الخدمات الأساسية من سكن و تعليم و صحة و ترفيه وما الى ذلك. فكانت المحصلة اغناء الغني و افقار الفقير و سحق الطبقة المتوسطة في مشهد ظهر فيه بعض وزراء حكومة بنكيران أكثر ليبرالية و توحشا من متطرفي الليبرالية. بنكيران والتيه بين خطاب الحكومة و المعارضة لقد شكل كل ما تمت الاشارة اليه اعلاه حمولة و خليطا اختلج في وجدان بنكيران، الرجل العفوي الذي عاش وسط الشعب ولامس معاناته و الحالم لخدمة وطنه بكل ما أوتي من قوة، فنطق لسان حاله تارة بلسان المسؤول الحكومي ليعدد انجازاته و مكاسب ولايته أو ليشكو الاكراهات و ضعف الميزانية و قلة ذات اليد. وتارة أخرى تجده يتقمص دور المعارض الثائر ليشكو التحكم و الفساد و تعطيل دوران عجلة حكومته فيرسل الاشارات يمنة و يسرة. ثم ما يلبث ان يدرك تعقيدات المشهد وطقوسه فيبادر في الأخير الى المبالغة في تقبيل اليد في موقف قد يحيل على طلاسم ايليا ابو ماضي. من خلال هذه المحاور الخمسة يمكن ان نستنتج ما يلي : اولا: ان فعل بنكيران و سياسته لا تعدو ان تكون في اطار الحيز الذي حددته له استراتيجية المخزن و هو على كل حال اشار الى هذا الوضع في عدة مناسبات. صحيح أنه من الممكن تصوير شكل هذه العلاقة احيانا بدور حامل الأمتعة بالنسبة للاعب الكولف لكن بنكيران استطاع أن يُدخل بالمقابل حزبه و اخوانه الى رقعة السلطة و هم الآن اكثر استعدادا و شوقا للولاية المقبلة. ثانيا : بالتأكيد ان بنكيران اكتسب خبرة عبر المدة التي قضاها على رأس الحكومة ولا شك أنه قيّم جدوى و كلفة الاصلاح من الداخل وهي تجربة لها مدلولها السياسي و التاريخي لكون تشكيلها جاء جوابا على الحراك الشعبي السائد انذاك ما يطرح التساؤل عن مدى قابلية استمرارها بتغير السياق و الظروف. وهنا يجب استحضار من الناحية التحليلية لمدى تطابق موقع بنكيران اليوم مع حال عبد الرحمان اليوسفي في 2002 ابان نهاية نسخة حكومة التناوب وما كان يُمنّي به نفسه من الاستمرار في هذه التجربة. و ما استدعاء الرجل في هذا الوقت بالذات و تكريمه بإطلاق اسمه على احد شوارع مدينة طنجة إلا تعبير عن طبخة يتم الاعداد لها لبنكيران او لربما تكون من قبيل محض الصدف. فهل يستمر تعايش الطرفين؟ هذا مرتبط اساسا بمريضنا فإذا كان جسمه لا يزال يعاني من بعض الأجزاء و الأورام التي يجب استئصالها فإن أفضل من يقوم بذلك هو السيد بنكيران ليس فقط للتجربة التي راكمها في هذا الميدان و لكن كذلك لاقتناعه و ولعه بهذا النوع من العمليات. أما اذا كان "مريضنا ماعندو باس" ففي هذه الحالة فان جدوى الرجل تناقش و ستحدد انطلاقا مما تحتويه جعبة المخزن من خطط استراتيجية مستقبلية. * أستاذ باحث