"من فضلك انزع قبعتك"، كان هذا الاستقبال من طرف قس ألماني أشقر يرتدي زيا دينيا أحمر كافيا لمعرفة أن تواجدنا داخل أضخم البنايات المسيحية في العالم، وبالضبط في كولونيا الألمانية، ليس بالأمر البسيط ولا العادي؛ لكن الهدوء والسكينة التي تميز أجواء أداء المسيحيين لشعائرهم الدينية في المكان المهيب لم تصدنا كزوار عن إشباع فضولنا الصحافي..مرحبا بكم في "كاتدرائية كولونيا" أو "الدوم". يقولون هنا إن كولن أو كولونيا، رابع أكبر المدن الألمانية، وتقع في غربها، "جسد بلا روح دون كاثدرائية الدوم"، لأن هذه المعلمة الضخمة تعد قلب المدينة النابض، وتتميز ببرجين يرتفعان ليبلغا 160 مترا تقريبا؛ كما يقولون إنه "في اليوم الذي تنتهي أعمال الترميم في الكاتدرائية ستقوم الساعة أو نهاية العالم"، ذلك أن الأشغال لا تنتهي، خاصة حين العلم أن طائرات الحلفاء إبان الحرب العالمية الثانية، وهي تقصف كولونيا، لم تخطئ قنابلها الكاتدرائية. أمام المدخل الرئيسي للكاتدرائية، أو "الباب المقدس"، كما يسمى، ينتشر العشرات من السياح المنهمكين في التقاط صور تذكارية لهم مع المعلمة التاريخية التي تثير انتباه الناظرين إليها والواقفين بجانبها إلى بنايتها الضخمة. وحين دخولنا وجدنا العشرات أيضا في الوضعية ذاتها، فيما آخرون، ممن يبدو أنهم مسيحيون، يؤدون قداسهم الخاص، داخل الكنيسة التي يقف عند مدخلها حاجز من رجال دين يطلبون من الزوار الالتحاق بعد دقائق. في انتظار دخولنا كزوار، أخبرنا قس يرتدي زيا دينيا بلون أحمر وتقاطعه في الكلام سيدة شقراء بزي مدني، وبجانبها صندوق صغير لجمع التبرعات، أن الموعد سيتم بعد نصف ساعة، في انتظار الانتهاء من أداء القداس..ليأخذنا الفضول إلى قاعة صغيرة غير محروسة يجلس على كراسيها عدد قليل من الزوار، أخذوا وسط جو من الخشوع في ترديد بعض الأدعية أمام عشرات القطع من الشموع الدائرية صغيرة الحجم. في جانب "الباب المقدس" عبارة تنبيه كتب عليها: "المكتب الديني.. يرجى عدم التجوال"، وهو تنبيه يحذر من الدخول إلى مكان أداء القداس والتشويش على المصلين، فيما تنتشر على أسقف وجدران الكنيسة أعداد هائلة من الرموز والرسوم واللوحات التي تحيل إلى المسيح عيسى عليه السلام وأتباعه على مر العصور. كثيرة هي الأمور التي تميز كاتدرائية كولونيا، منها أن بناءها واستكمالها لهندستها النهائية استغرق 7 قرون في فترات متقطعة، إذ تشير المعطيات التاريخية إلى أن حجر الأساس وضع في عام 1248 ميلادية من قبل رئيس الأساقفة في كولونيا "كونراد فون"، فيما انتهت أعمال البناء في العام 1880 ميلادية. يحتفظ المبنى المسيحي المهيب بأعظم مقدسات الكنيسة الكاثوليكية في العالم، ويتعلق الأمر برفات ثلاثة ملوك قديسين، تقول الروايات التاريخية إنهم "تنبؤوا بميلاد السيد المسيح"، وإن رفاتهم نقل من القدس أثناء الحملات الصليبية إلى ميلانو، ثم إلى كولونيا، كهدية من القيصر "بارباروسا".. فيما تضم كاتدرائية كولونيا أعمالا فنية قديمة تمتد إلى قرون بعيدة. تقول منظمة "يونسكو"، التي اختارت كاتدرائية "الدوم" في العام 1996 كأحد مواقع التراث العالمي، على موقعها الإلكتروني: "هي تحفة من الفن القوطي.. خلال القرون السبعة من بنائها، تحلّى البناة المتوالون بالإيمان نفسه وبروح الوفاء المطلق للمخططات الأصلية؛ وبالإضافة إلى قيمتها بحدّ ذاتها وإلى التحف الفنية التي تحتويها، فإن كاثدرائية كولونيا شهادة عن قوة وتواصل الإيمان المسيحي في أوروبا".