المؤمن مخير بين الصيام وبين الإفطار. إن شاء صام وإن شاء أفطر ولا ذنب عليه. ويفدي عن كل يوم أفطر فيه بإطعام مسكين؛ وإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم أفطر فيه فهو خير. لكن أن يصوم فهو أفضل له. كيف ذلك؟ صام يصوم أي انقطع أو أمسك. وفي هذا مشقة وجهد. فصام يصوم صوما عن الكلام بمعنى انقطع عنه أي سكت. عدم الكلام فيه جهد ومشقة. قال تعالى مخاطبا مريم ”فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ﴿26﴾“ مريم:26. وصام يصوم صياما أي أمسك عن الطعام والشراب والمباشرة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. الصيام فيه مشقة وجهد كذلك. فالصوم هو عن الكلام بينما الصيام هو عن الطعام. الصيام ليس فِطرة. فالإنسان عموما لا يمسك عن الطعام أو الشراب من تلقاء نفسه؛ لأن في الصيام إرهاق ومشقة. وهكذا جاء الصيام ككَفَّارة لمَحْو الذنوب؛ ولنا في كتاب الله بعض الأمثلة. الصيام كفارة الظِّهار في المجادلة:3-4 ”وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿3﴾ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ۚ ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿4﴾“. الصيام كفارة حنث اليمين في المائدة:5 ”... فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿89﴾“. لكن الصيام لا يستعمل ككفارة فقط. الصيام قد يستعمل كفِدية كذلك. الكفَّارة ليست كالفدية. الفرق بينهما هو أن الكفارة هي لمَحْو ذنب أو إثم ما. بينما الفدية هي ذاك البديل الذي يعوض شيئا آخر بقيمته المادية أو المعنوية، وهي ليست لمَحْو الذنوب. ”وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.“ الصافات:107. ”...إِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً...“ محمد:4. ”فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ مَأْوَاكُمُ النَّارُ ۖ هِيَ مَوْلَاكُمْ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.“ الحديد:15. الآية تتحدث عن يوم القيامة؛ ذاك اليوم يكون قد فات فيه الأوان لتكفير الذنوب، لكن الفدية لا تنفع كذلك. إقرأ كذلك المعارج:11 ”يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ﴿11﴾“. البقرة:196 تعطي لنا مثلا عن متى يكون الصيام فدية ”... وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ...“ بعد هذه التوطئة التي من خلالها رأينا أن الصيام فيه مشقة، يمكننا أن نفهم أنه جاء للمؤمنين ولهم فيه الإختيار. لنر الآن ماذا عن ذلك كما جاء في سورة البقرة. ”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿183﴾ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿184﴾ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿185﴾ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿186﴾ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿187﴾“ الآية 183 تخاطب الذين آمنوا وقد أُعطوا فرصة الصيام للتقوى. بعدها تتكلم الآية 184 عن الصيام في عُمومه. فهي تحدد ما العمل عند المرض أو السفر، وهو الصيام في وقت لاحق. ماذا تعني ”وعلى الذين يطيقونه“؟ المعنى المتداول هو أنه ”يشُقُّ عليهم“. هل هذا صحيح؟ الآية قد رخَّصت الإفطار آنفا عند اختيار الصيام مع وجود المرض أو السفر. معناه أننا الآن في حالة عدم اختيار الصيام رغم أننا نستطيع ذلك. ويُعزِّز هذا الفهم ما جاء في الذكر الحكيم في سورة البقرة:286 ”...رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ...“ ما لاطاقة لنا به تعني ما لا نُطيقه وما لا نستطيع تحمله. وهكذا ما نُطيقه هو ما نستطيعه. فالمؤمن الآن ليس مريضا ولا على سفر ويُطيق الصيام بمعنى يستطيع القيام به؛ ثم يتسائل ماذا لو اختار الإفطار بدل الصيام؟ الآية تجيب وتحدد ما يقوم به المؤمن في هذه الحالة. عليه إذن بالفدية، وليس بالكفارة، لأنه لا ذنب عليه إن أفطر”وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ“. فله أن يفدي بإطعام مسكينا عن كل يوم يفطره؛ فإن تطوع وأطعم أكثر من مسكين واحد كفدية عن اليوم الواحد الذي أفطره فذلك أفضل. لكن الآية تكمل وتقول بأن إختيار المؤمن الصيام هو أفضل من الإفطار ”وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون.“ الآن وقد إختار المؤمن الصيام فمتى وكيف وغيره؟ هذا ما تجيب عليه الآيتان 185 و187. الصيام في رمضان الذي أُنزل فيه القرآن كما جاء في 185. لاحظ معي أنه في هذه الآية إعادة لإستثنائي الإفطار عند الإرادة، المرض والسفر ”وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ“، مع تبيان السبب ”يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ“.ولكن الآية 185 لم تُدرج مع هاذين الإستثنائين ”وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ“ كما جاء في الآية 184، لأن هذا أصلا ليس من إستثناء الصيام عند الإرادة كما سبق القول أعلاه. من بين ما تشمله الآية 187 هو تعريف الصيام بالإمتناع عن الأكل والشرب والمباشرة من الفجر إلى الليل أي إلى أوله. أول الليل هو بعد غروب الشمس؛ أنظر تفصيل هذا في مقال سابق ”اليوم والنهار والليل“. الصيام إختيار. إن شاء المؤمن صام وإن شاء أفطر ولا ذنب عليه. للإستئناس التاريخي وكما رُوي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم، فإن المؤمنين الأوائل كان منهم من يصوم وكان منهم من يفطر. إذا قرر المؤمن الصيام فهو مرخص له بالإفطار في حالتَي المرض أو السفر؛ على أن يصوم في وقت لاحق نفس عدد الأيام التي لم يصمها في وقتها المحدد في كتاب الله. إذا قرر المؤمن الإفطار بدل الصيام وهو يستطيع الصيام فعليه بالفدية. الفدية في هذه الحالة هي أن يطعم مسكينا واحدا عن كل يوم أفطره؛ وإن تطوع بإطعام أكثر من مسكين فهو أفضل. لكن ليتذكر الذين آمنوا بأن الله قد فضل لهم الصيام حين قال جل وعلا ” وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون.“ *أستاذ وباحث جامعي