في الوقت الذي كان فيه كثيرٌ من المفكرين العرب يُحَولُونَ عُروضهم النّظرية عن أبي الوليد بن رشد إلى نظريات في المعارضة، يتم فيها استغلال هذا الاسم حصان طروادة لتصفية حسابات إيديولوجية صرفة، كان المرحوم جمال الدّين العلوي بحرص جميل منه، يحاول أن يُهَرِّبَ صورة ابن رشد الحقيقية بعيدا عن مستنقع التطاحن والتوظيف الإيديولوجي العقيم، و يمسح عنه لوثات التّأريخ الوهمي له، ويحاول استنقاذه من قبضة الحَجْب والطّمر والتَّنكر المضاعف له، وكأنه أوكل لنفسه مهمة إصلاح تاريخ ابن رشد وتاريخ فلسفته، ورسم الصورة الحقيقية له من خلال ما كَتبه ابن رشد بنفسه، الصورة التي نسفتها الإيديولوجيات الأكثر ابتذالا من السِّحر نفسه، وسعت سعيها في تشويه حقيقتها الأولى، أو كأن الرب أطلعه على أن الهدف النبيل من حياته وعمله هو إكمال ما لم يكتمل من تحقيقات متون ابن رشد التي استكملت دورتها الحضارية بعد سبعة قرون عجاف لحضارتنا، سبعة قرون قضتها تآليف فيلسوف قرطبة ومراكش في الضفة الشمالية قبل أن تقرر العودة من جديد إلى الضفة الجنوبية مع تجدد سؤال النهضة فيها، وبعد أن لم تكن تصلح عند بعضٍ من أسلافنا من مشيعي جثمان أبي الوليد من القائمين على نقله من مراكش إلى قرطبة إلا لمعادلة جسد ابن رشد الميت مع كتبه. (المرحوم جمال الدّين العلوي ( صاحب المحفظة السوداء) بين خريجي أول فوج لشعبة الفلسفة العامة بكلية الآداب والعلوم الانسانية ظهر المهراز بفاس ) بعيدا عن محاصرة ابن رشد ضمن الجدال المحتدم الذي استغرق تاريخ أبي الوليد بيننا، والذي أضر بابن رشد كثيرا وبسَيْرِ وسِيرة تفكيرنا الفلسفي المعاصر عنه وفيه، الشيء الذي جعل من فيلسوفنا دون كيخوطي كل المواقع والمعارك الأيديولوجية والسياسية بين المُتعلمن والمتدين، وبين المتفلسف والفقيه، وبين الحداثي والمحافظ، وبعيدا عن التغرير بالرّشدية إلى استيهامات غير رشدية تَبْتَسر صورة ابن رشد وتنزلق بفكره بعيداً بعيداً، وتقتطعه على مقاسات أسئلة مزيفة، لتختزله بالتالي في بوتقة ضيقة دلت عليها الطبعات المتعددة والمتكررة لكتب أبي الوليد الفصل والكشف والتهافت، والسكوت التام في المقابل عن كتبه المنطقية غير المستثمرة والإمعان في إهمالها، بشكل مقصود، وتركها من تمة مقبورة غير مُحتفى بها. بعيدا عن كل هذا إذن، كان المرحوم جمال الدّين يعيش مع فكرة أَلَّا مكان ولا إمكان لاستيعاب فكر ابن رشد وغيره من فلاسفة الغرب الإسلامي، وإحكام تأويل نسقهم بشكل نهائي وصحي، دونما البداية بترميم خروم النصوص، وجمع ما بقي في مكتباتنا وفي أديرة العالم من نصوص وفصوص فلسفية لفلاسفة الغرب الإسلامي، وإخراجها من تم إخراجا يليق بقيمتها ومنزلتها الفلسفية، في تحقيقات صافية وعلمية أوقف عليها المرحوم شطرا صالحا من عمره. جمال الدّين العلوي أو الرجل الذي أرهقته النصوص القديمة لابن رشد وسلفه الفلسفي، وأنهكه دهره وهو يقابل بين نسخ المخطوطات، يصلح عجز وتصحيف إحداها على كمال الأخرى، ويصلح خروم الثانية على صلاح الأولى، وعلى ما استنطقه من نسخ غيرهما، وكذا السبر والبحث في فهارس المكتبات الوطنية في براغ ودير الإيسكوريال ولندن وباريس ومخطوطات برلين عن دليل يقود إلى مخطوط جديد، أو إلى إحالة على نص مبتور لأحد نصوص من وهب نفسه لإحياء أعماله، وأعياه تعقب ابن رشد الحقيقي وتخليصه من ابن رشد المنحول، وهكذا دواليك، في عمل هو الأشد تعقيدا والأبلغ إرهاقا وقهرا. لكن عناء مقابلة النصوص والتروي في مقارنتها لم يكن بأعز من تحقيق أمنيته في أن يرى المتن الباجوي والرّشدي وقد اكتمل تحقيقه، وتصفيفه في نصه العربي الأصيل بعد نقله من النص والحرف اللاتيني والعبري إلى حرفه ولغته الأصيلة، التي هجرها في وقت صار اسم أبي الوليد بن رشد اسما ممنوعا ومحظورا لا ينبغي حتى ذكره، أو حتى الإشارة إليه لا من قبل تلامذته المباشرين أو غير المباشرين. كان الرجل مفرطا في الثقة بجدوى عمله أو بالأحرى مشروعه لتشكيل صورة طبق الأصل عما كانت عليه نصوص وفلسفة السابقين، لذا احتضن بإخلاص فكرة تحقيق التراث الرّشدي والباجي، بالرغم من أن جمال الدّين لم يكن مهيئا لذلك لغرابة النزعة التحقيقية أصلا على جو المدرسة المغربية، وبخاصة من لدن المشتغلين بالدرس الفلسفي ولعدم تلقيه تكوينا كبيرا فيها ولعدم توفره على عدة ثقيلة فيها، اللهم تجربة شيخه سامي النشار في تحقيقات الأخير لكتب المرادي وابن الأزرق. لتكون تحقيقاته للمتن الفلسفي في الغرب الإسلامي هي الأشد تماسكا والأكثر صلابة إلى جانب تحقيقات مستشرقين كبار كموريس بويج وجيرار أندرس. فالبحث عن الأصول والمتون الفلسفية لابن رشد وسلفه هو الطريق الوحيد لقيام فلسفة رشدية، الشيء الذي دفعه إلى أن يكون رجلا "تحت أرضي" أو كائنا "سردابيا " بتعبير نيتشه، على عكس الذين قاربوا ابن رشد أو بالأحرى استغلوه أيديولوجيا من الذين كانوا يعيشون تحت الأضواء، في الوقت الذي كان جمال الدّين يفتح الأبواب الموصدة ويفك طلاسم المخطوطات العربية واللاتينية والعبرية، ويحفر عميقا وما يستدعيه هذا من تقدم ببطء وبروية لكن بتبصر وحكمة مرنة، رغم ما يصاحب ذلك من حرمان من الهواء والضوء. لكن إيمانه بقيام فلسفة رشدية من جديد كان يقوده إلى الأمام ويدفعه إلى المزيد من بدل الجهد، وفكرة معانقة ابن رشد الحقيقي كانت عزاء يواسيه لأجل استكمال مسيرة حياته الأكاديمية المائزة، حياة ستنتزع ابن رشد من المتأدلجين وستؤسس لمدرسة فاس التي ستعتني بالنصوص والمتون الأصيلة وستؤكد على وجوب الرجوع الدائم إليها وحرمة الانكفاء عنها، في وجه باقي المدارس التي تعاني من اضطراب الايديولوجيا واختلاطها بداء السياسة وما يفترض من ضررهما على صحة التنظير وتصحيح النظرية. إلى جانب تحقيقاته المتعددة للمتن الباجي والرّشدي، كان هناك عمله الأصيل الموسوم ب" المتن الرّشدي " الذي يعد الخيط الهادي نحو عالم ابن رشد، وشمعدان الرّشدية ما بعد جمال الدّين العلوي، والذي لا يمكننا القول عنه أنه مجرد صفحات قيمة عن ابن رشد، بل إنما هو محاولة إنقاذ فلسفية من رشدي متأخر لابن رشد، فمع هذا المؤلف المتأمل لسبل تآليف ابن رشد الملتوية هدأت إلى حد ما ضجة الأسئلة المتكثرة الحائمة حول كثير من تآليف أبي الوليد، وصار ملاذا لمن يعانون دوار الليل بشأن كرونولوجيا فلسفة أبي الوليد. كما كان مؤلفه الموسوم ب " مؤلفات ابن باجّه "، منارة محيط متلاطم عند الحديث عن ابن الصائغ، وذلك بعيدا عن عجرفة الأيديولوجي والسرابات المرتعشة التي حاول أن يدخل إليها ابن رشد وفلسفته، حيث يبقى كتاب جمال الدّين نسخا وبأثر رجعي إلى عصر أرنست رينان ومماحكات فرح أنطوان وصاحب رسالة التوحيد، نسخا لجوانب كبيرة وكثيرة تهم أغلب ما قيل عن تطور ابن رشد الفلسفي. فكتابه هذا يسير وفق مخطط أفلاطوني ثابت، وهو تحويل النظرة عما هو زائف ومزور إلى ما هو حقيقي ومتكامل، إذ أن كل كتاب لابن رشد يجب أن يوضع في إطاره الزمني وضمن التحقيب المرحلي، الذي يهم تطور تفكير ابن رشد وتوجهاته واختياراته الفلسفية، بحيث يكون كل مؤلف هو عنصر في متوالية فلسفية، أو مجموعة رياضية لها علاقاتها وقواعدها التي تحدها وتعرفها. فلا يوجد كتاب الا بوصفه دليلا يمكن التعرف فيه على ابن رشد الفترة والمرحلة المؤشرين على تطوره، والمحيلين على درجة التحليل والتحايل على واقعه الثقافي والسياسي، بما هو التأليف الرّشدي مرتبط بمجموع الكتب الأخرى التالية والسابقة عليه والمنتمية للمكتبة الرّشدية. التي ما ترك صاحبها إضافاته إليها إلا ليلة حزنه على موت والده و فرحه ببنائه على أهله لأنه عنصر من مجموع كلي يتخلى عن فوضاه التي شوهت تاريخ الفيلسوف وتاريخ حياته وبعثرت زمنه وأيامه لصالح إجابات مسبقة يمتلكها الأيديولوجي وتتملكه ويوجه بحسبها نصوص الفيلسوف المقتطعة والمبتسرة ليسهل تأويلها لأجل خدمة أغراضه المتضخمة جدا. لقد كان المرحوم جمال الدّين العلوي لحظة حقيقة يقظة الفلسفة المغربية، وواقعة جديدة تنحو إلى رد الاعتبار إلى ابن رشد ببعث كتبه الدفينة في مكتبات الدنيا من جديد، لتصير رحى كل قول ممكن عنه، بدل المسلمات الاعتباطية التي تصدر عن المتقولين عليه، والتي يتم فيها اقتصاد الصواب وإباحة الخطأ، لتستغرقهم غمرة المدّاحين لهم، من كون أعمالهم أعمال جليلة، في الوقت الذي كانت تشبه عند جمال الدّين جرائم الوشاة وأكاذيبهم الدنيئة، ليكون هو في مسيرته العلمية بمثابة الإرادة المنقذة، ولفحة الشمس التي تنبهنا على مسارات الحقيقة الرّشدية التي ضيعناها، أو ضاعت منا لتتحول إلى مرايا مكسورة لا نهائية، بقدر ما نعتقد ألا سبيل إلى استرداد شظاياها أو الجمع بينها، إلا ونحن مع جمال الدّين عبر أعماله التحقيقية، نسترد بعض الأمل في العثور على سيماء أبي الوليد المندسة في كل مرآة، وفي كل نص، وفي كل فلسفة، وفي كل صفحة من المعاجم وكتب الطبقات والرجال، وتمييزها عن كل الحكايات المزيفة والمسروقة من أكاذيب وأضاليل الأيديولوجي الرديئة التي يجب أن يُغض الطرف عنها حتى لا تبتلع ابن رشد ضمن إطار الإقليمية والمحلية، والصور الضيقة التي قد تحتملها تقسيمات القطيعة لا التقاطع الفكري للمنتوج الإنساني الذي يمثل ابن رشد أحد شخوصه المفهومية، بل وأعمق نماذجه، التي يكتشف معها وعندها تقاطع الدّين والفلسفة، وفلسفة الإسلام وفلسفة فلاسفة الإغريق، والحكمة والشريعة، الشيء الذي مكنه من تحقيق هجراته المتعددة والمتكررة بين الضفتين في حياته كما الأمر عقب موته، والمجد للحي الذي لا يموت.