بعد أن تطرق الدكتور مصطفى بوهندي، مدير مركز أديان للبحث والترجمة أستاذ التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني بالدارالبيضاء، في الجزء الأول من مقال طويل خص به هسبريس، إلى فهمه للآية القرآنية "إن الدين عند الله الإسلام"، عاد في الجزء الثاني ليتناول عالمية الرسالة الإسلامية. وأورد بوهندي، في المقال التالي، بأن أتباع الديانة المحمدية وقعوا في الخطأ نفسه الذي وقع فيه بعض أهل الكتاب، عندما ظنوا أنه بإسلامهم قد أصبحوا أولياء لله من دون الناس؛ وأن الآخرة قد أصبحت خالصة لهم من دون العالمين"، معتبرا أن "الله سيدخل من اليهود والنصارى والمسلمين إلى الجنة، حسب إيمانهم وأعمالهم الصالحة". عالمية الرسالة وإنسانيتها: لاشك أن القارئ الكريم سيبهره عند التدبر، ذلك الكم الهائل من التوجيهات والآيات القرآنية التي تخاطب الناس مباشرة، وتبين أن رسالة محمد هي إلى الناس كافة برحمتها وهدايتها وبيانها القائم على الوحي والتوجيه الإلهي المباشر للبشر على وجه البسيطة. هي مئات من الآيات تنص على أن الرسالة المحمدية رسالة عالمية رحيمة لكل الناس، تبشرهم وتنذرهم؛ وهي رسالة تحمل البيان والبلاغ والبصائر والأمثال والموعظة والآيات البينة والعبرة للناس جميعا لعلهم يتفكرون ويذكرون ويهتدون ويخرجون من الظلمات إلى النور ويعقلون ويعلمون؛ ومئات أخرى منها تخاطبهم ب "يا أيها الناس". نداءات عديدة مباشرة إلى الناس، توجههم في مختلف قضاياهم الإنسانية الدنيوية والأخروية، لم ينتبه إليها كثير من رجالات ديننا، ولم يروا في هذا القرآن انفتاحه الرهيب على جميع الناس، بغض النظر عن دياناتهم ومستويات اعتقادهم وإيمانهم أو إعلانهم الانتماء إلى جماعة المسلمين المحمدية أو غيرها. إن هذا الخطاب القرآني المنفتح على البشرية لم ينته دوره باعتناق بعض الناس لدين محمد وتأسيس دولة المسلمين؛ وإنما بقي خطابا خالدا لكل الذين التحقوا بهذا الركب من جميع الناس وجميع الأمم، في كل العصور اللاحقة. لقد خاطب القرآن الكريم الجماعة المسلمة واهتم بمختلف قضاياها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والدينية وغيرها. لكن اهتمامه ب"الإنسان" و"الناس كافة" بقي محوريا، رغم ما طغى على تفسير القرآن من قراءات تاريخية للجماعات المسلمة من خلال قضاياها الخاصة في مختلف العصور، انزاحت به قليلا أو كثيرا عن هذه الأهداف الإنسانية الأساسية. ويمكن استرجاع هذه الأبعاد الكامنة بقراءة جديدة تتخلص من مشاكل التاريخ الإسلامي وأوحاله. ولعل ما نقوم به هو محاولة في هذا الاتجاه. دين الله الإسلام، هو دين الخلائق كلها، ودين الأمم كلها، كل قد علم صلاته وتسبيحه، وكذلك هو دين محمد والذين آمنوا معه، لكنه ليس خاصا بالمسلمين فقط، يحق لهم بموجبه أن يستأثروا به دون غيرهم من الأمم والشعوب والطوائف أو غيرهم من المخلوقات. هذا البعد الكوني والإنساني الذي قرره القرآن الكريم، كثيرا ما أغفله المسلمون في دراساتهم وأبحاثهم وأدبياتهم، كما أغفله كثير من أهل الكتاب من قبل، فضيعوا بذلك، البعدين الكوني والإنساني الذين هما أساس المراجعة والتلاوة القرآنية الجديدة، التي استعادت هذين البعدين بالذات بعد أن ضيعتهما الأمم السابقة في خضم أحوال التاريخ. مسمى الإسلام: لم يكن مسمى الإسلام والمسلمين حسب النص القرآني تسمية حديثة جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو حدثت على عهده؛ بل هي تسمية قديمة منذ نبي الله إبراهيم، ولم يكن الإسلام الذي سمانا به، خاصا بالأمة المسلمة التي هي دعوة إبراهيم، وإنما كان أمرا اختاره الله لإبراهيم وذريته من بعده؛ لقد سأل إبراهيم وإسماعيل الله، بعد رفعهما لقواعد البيت الحرام؛ أن يجعلهما مسلمين له ومن ذريتهما أمة مسلمة له. وما موضوع المناسك التي أسساها في أول بيت وضع للناس، إلا مظهر من مظاهر إسلام الوجه لله. كما سألا الله أن يخص هذه الأمة المسلمة التي ترعى هذه المناسك، برسول منها يعلمهم هذا الإسلام العالمي الإنساني؛ ؛ تلك هي ملة إبراهيم الإسلامية التي لا ينبغي للمؤمن أن يرغب عنها، وملته تلك، هي إسلامه لرب العالمين دون شريك: فبإسلامه لرب العالمين كان مسلما واختار دين الله الإسلام؛ ولم يكن هذا اختيارا له وحده، وإنما وصى به بنيه وأحفاده؛ وبإسلام ذريته بما فيهم يعقوب ، وموتهم على ذلك، يكون الدين الذي اصطفاه الله لهم هو الإسلام. ولم ينحصر الأمر في الذرية المباشرة لإبراهيم؛ وإنما تعداها إلى كل أحفاده وبنيهم. كما أن كثيرا من الأنبياء وأتباعهم غير إبراهيم وبنيه وأحفاده وصفوا بالمسلمين لكونهم استجابوا لأمر الله ودعوته؛ وبذلك يكون الإسلام صفة للناس الذين أسلموا وجوههم لله في كل آن وحين، من أهل الأديان المختلفة ومن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم. وبه يسقط الحكم الذي جاءت به الفتوى، عندما اعتبرت أن الإسلام ناسخ ومبطل للأديان السابقة، بل على العكس من ذلك فإن ما جاء به محمد يصدق الإسلام الذي جاء به جميع المرسلين، وأن كل من أسلم وجهه لله رب العالمين وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، فهو من المسلمين، سواء كان من اليهود أو النصارى أو المؤمنين. والله لا يضيع أجرهم ولا خوف عليهم ولا يحزنون. ثالثا: هل يجب ترك أهل الكتاب لدينهم واعتناق دين الإسلام، وإلا فهم من أهل النار؟ مراجعة مفهوم الدين عند الأمم: لقد راجع القرآن الكريم مشكلة عالمية الرسالة وإنسانيتها عند فريق من أهل الكتاب، الذين جعلوا دين الله العالمي والإنساني دينا خاصا عنصريا، صاروا فيه أولياء الله الخلص، وحرموا باقي عباد الله من الولاية لله والديانة والإيمان، بدعاوى باطلة لا أساس لها. وبناء على هذه المقولة نشأت مقولة أخرى أشد سفاهة، وهي ادعاؤهم أنهم أولياء لله من دون العالمين. وكان الجواب القرآني قويا وواضحا، يميز بين الديانة التي صنعها الناس في تاريخهم من خلال أحبارهم ورهبانهم، مثل اليهودية والنصرانية؛ حتى ادعوا أنهم أولياء الله وأبناؤه وأحباؤه من دون العالمين؛ وبين دين الله الأصل، الذي أنزله على جميع أنبيائه، والذي هو الملة الإبراهيمية قبل أن يدخلها التشويش ويتداولها رجال الدين وعدد من الشعوب العنصرية. تلك هي ملة الإسلام الإنسانية الشاملة لدين الله في كل آن وحين، وهي ليست خاصة بعنصر أو قوم أو شعب أو طائفة دون باقي العالمين. لم تكن المراجعة القرآنية التي سلطت على العديد من المفاهيم الدينية لدى أهل الكتاب، خاصة بهم؛ وإنما كانت مراجعة لمفاهيم إنسانية دائمة ومستمرة إلى عهد الرسالة المحمدية وإلى ما بعدها؛ وهي مراجعة من باب أولى للمفاهيم الدارجة التي تبناها المسلمون من أتباع القرآن كذلك، إلى هذا اليوم وربما اعتبروها جزءا من مفاهيم الدين والقرآن؛ ومنها ما جاءت به الفتوى التي نتدارسها. لم يكن "إسلام المسلمين" كما يستشهد به المسلمون اليوم على كونه هو المراد في قوله تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام"، يختلف كثيرا عن تسمية اليهود والنصارى لديانتيهم باليهودية والنصرانية، ولم تكن دعوتهم ل"إسلامهم" تختلف عن قول أهل الكتاب "كونوا هودا أو نصارى تهتدوا"؛ لقد وقع أتباع الديانة المحمدية في الخطأ نفسه الذي وقع فيه بعض أهل الكتاب، عندما ظنوا أنه بإسلامهم قد أصبحوا أولياء لله من دون الناس؛ وأن الآخرة قد أصبحت خالصة لهم من دون العالمين؟! وأن على أهل الكتاب أن يتركوا دينهم الذي كانوا عليه ويدخلوا في دينهم لينالوا الولاية لله وتكون لهم الدار الآخرة، وإلا فإنهم ليسوا على شيء، ولن يدخلوا الجنة أبدا؛ وهو مضمون الجزء الثالث من الفتوى التي نحن بصددها. لقد ترتب على هذا المعتقد عند اليهود والنصارى التنكر للمخالفين لهم؛ حتى قالت اليهود في النصارى أنهم ليسوا على شيء وقالت النصارى في اليهود أنهم ليسوا على شيء وهم يتلون كتابهم، ويعتبرونه جزءا من كتابهم المقدس؛ وتنكروا جميعا للرسالة المحمدية وصدوا عن سبيلها. لم يكن أصحاب الفتوى أحسن حالا عندما أعلنوا أن كلا من اليهود أو النصارى ليسوا على شيء حتى يتركوا أديانهم، ويتبعوا ما عليه المسلمون، ليكون له الهدى وتكون لهم الآخرة. المراجعة نفسها التي تناول بها القرآن موضوع الدين عند أهل الكتاب، تناول بها موضوع الآخرة؛ رادا على الذين ادعوا أن الآخرة لهم من دون الناس كذلك؛ لقد انبنى على عنصرية الولاية لله من دون الناس، الاعتقادُ بأنهم أولى الناس بفضل الله وأن لهم الدار الآخرة خالصة من دون العالمين؛ كان الرد القرآني على هذا الادعاء قويا وواضحا كذلك، يفرق بين الأماني كما تجول في أذهان الشعوب وثقافتهم، وبين الحقائق التي تحتاج إلى أدلة وبراهين؛ إنها مجرد أماني لا حقيقة لها، إلا بالإيمان والعمل الصالح وليس بالانتماء إلى هذه الديانة أو الفرقة أو الشعب أو الطائفة؛ إنما هو الإيمان والأعمال التي لا تمييز فيها بين يهودي أو نصراني أو حتى مسلم تسمى باسم الإسلام وحقيقة قلبه وعمله عند الله، وهو الذي يحكم بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون؛ وعندما يرجع الناس إلى الله سواء كانوا هودا أو نصارى فإن الله يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، ويُدخل من اليهود والنصارى والمسلمين من يشاء إلى جنته وفق إيمانهم وأعمالهم الصالحة كما وعدهم، والله لا يخلف الميعاد، والذين يستحقون وعده فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون مهما كانت انتماءاتهم الدينية. إن المطلوب من أهل الكتاب ليس أن يتركوا دينهم ليدخلوا في دين الإسلام المحمدي؛ وإنما المطلوب منهم أن يقيموا دينهم الذي جاء به أنبياؤهم وكتبهم، وصدقه ما جاء به كتاب ربنا؛ وهو الدين عند الله الإسلام؛ وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وفق ما ورد في الكتاب الذي أنزل عليهم، مطلوب منهم الصلاة والزكاة، ولكن ليس من اللازم أن تكون صلاتهم في مساجد المسلمين وإنما في بيوت أذن الله أن ترفع سماها القرآن صوامع وبيع وصلوات. المطلوب من أهل الكتاب هو إقامة التوراة والإنجيل وما نزل إليهم من ربهم. وإذا فعلوا ذلك استحقوا ما وعدهم الله في كتابهم؛ والمطلوب منهم إقامة الأمور المشتركة بين ما في كتابنا وكتابهم؛ وليس مطلوبا منهم أن يغيروا دينهم بدين آخر؛ وإنما أن يقيموا ما في جاء في دينهم، وكان قرآننا موافقا له؛ وهو معنى قوله: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم (الآية). وهناك نصوص كثيرة تتحدث عن إقامة التوراة والإنجيل والنجاح بهذا الفعل ؛ وكل ذلك فيه رد على العنصر الثالث من الفتوى. الاعتراف المتبادل بين المسلمين وأهل الكتاب لا يفرض علينا وعليهم أن يتبع بعضنا البعض الآخر وفق الخصوصيات التي نريد، فاعترافنا بما أنزل عليهم في أمر الصلاة لا يلزمنا بالصلاة في كنائسهم وبيعهم لكنه يلزمنا باحترامها واحترام حقهم في ممارسة طقوسهم فيها، وكذلك اعترافهم بالصلاة عندنا لا يلزمهم بالصلاة في مساجدنا وإنما بتوقيرها واحترام المصلين فيها واحترام طقوسهم ؛ والاعتراف المتبادل يفرض علينا العيش المشترك، بما يفرضه هذا العيش من مؤاكلة وتزاوج ومشاركة في الأموال والأولاد ؛. إن طعام أهل الكتاب ونساءهم من الطيبات التي أبيح لنا أن نشاركهم فيها بحقها؛ وكذلك طعامنا ونساؤنا لهم حق مشاركتنا فيها بحقها. لا إكراه في الدين، لا تستهدف أهل الكتاب بالأساس، لكونهم من المؤمنين الذين أمرنا بالاعتراف والإيمان بما جاءهم من رسول وأنزل عليهم من كتاب، ومشاركتهم في قيم الدين ومقتضيات العيش الكريم. وإنما تتعلق أساسا بالمشركين غير المحاربين، الذين يعيشون مع المؤمنين؛ فهي تضمن لهم حقهم في العيش الآمن الحر، بما يقتضيه حسن الجوار من واجبات البر والقسط؛وبالتأكيد فإن للحروب والطوارئ أحكامها الخاصة لدى كل الأمم والشعوب تتماشى مع حجم الأخطار المهددة لها. ولا ينبغي أن تصير هذه الأحكام الاستثنائية هي القاعدة، كما يتخيله كثير من المهتمين والدارسين. ولعل أبرز مثال قرآني يتجلى فيه احترام المشركين ولو كانوا من دعاة الشرك والعاملين فيه، هو قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ؛ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( لقمان 14-15) وقوله في سورة العنكبوت: "وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". الملاحظ أن بين الآيتين اختلافا في ذكر المصاحبة لهما في الدنيا معروفا رغم شركهما وجهادهما في نشر هذا الشرك، في الآية الأولى وعدم ذكر هذه المصاحبة في الثانية؛ إلا أنه مع بعض التأمل نجد أن الآية الثانية قد تحدثت عن الوصية بالوالدين بالإحسان، قبل الحديث عن جهادهما في الدعوة إلى الشرك؛ وبذلك يستوي النصان جميعا في الوصية بالوالدين إحسانا ومصاحبتهما بالمعروف وإن كانا من المجاهدين في الدعوة إلى الشرك. وهو ما يؤشر على مستوى عدم الإكراه في موضوع الدين، حسب القرآن الكريم. أما أهل الكتاب عموما، فهم من المؤمنين بالله واليوم الآخر، إلا من كفر منهم، ودينهم حق وكتبهم حق، وعلينا الإيمان بها، وكتابنا جاء مصدقا للحق الذي فيها، وأمرا رسوله والمؤمنين به بالإيمان بهذه الكتب وهؤلاء الرسل دون التفريق بينهم؛ ومراجعا للتدخلات البشرية التي ألحقت بالكتاب ما ليس من الكتاب ، ونسبت ما ليس من عند الله لله سبحانه. أو ألبست الحق الموجود فيها بباطل ملحق فكتمت الحق الذي فيها، فكانت مهمة رسولنا هي بيان الحق الموجود في هذه الرسائل والكتب وإبرازه وإن حاول المغرضون من أهل الكتاب وغيرهم كتمانه أو إخفاءه أو إطفاءه؛ والله متم نوره وحافظ ذكره ومكمل نعمته، ولو كره الكافرون والمشركون والمبطلون. لأهل الكتاب في المجتمع المحمدي، الحق في العيش الآمن الكريم، متمتعين بدينهم ودعوتهم ومعتقداتهم وشرائعهم وأعيادهم وعاداتهم وتقاليدهم ومشاركتهم للمسلمين في الطعام والزواج والعيش الكريم، يبنون بيوت عبادتهم كما يشاءون ويقيمون فيها طقوسهم كما يريدون، من غير أن يتدخل في شؤونهم غيرهم من الطوائف الأخرى المجاورة بما فيهم المسلمون؛ ما داموا يبادلون غيرهم من هذه الطوائف والأديان نفس الاحترام والتقدير، سواء بسواء. وهو ما يفسره قوله تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا.." وبيوت العبادة هذه هي المشار إليها في قوله تعالى: " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَار ( سورة النور 36-37)"؛ إن هدم بيوت الله المذكورة من طرف أيّ كان هو الفساد في الأرض؛ قال تعالى بنفس صيغة الآية السابقة: " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين-"، فاستبدل فعل هدم بيوت الله المذكورة بفعل الإفساد في الأرض؛ وهو ما يدل على أن من شروط صلاح الأرض وعمارتها عدم الإكراه في الدين ووجود بيوت الله المختلفة عامرة برجالها ونسائها يذكرون ويسبحون بحمده، كل قد علم صلاته وتسبيحه، بالغدو والآصال، لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة في معابدهم الخاصة، وإيتاء الزكاة لجماعاتهم المعينة من غير إكراه ولا تهديد. سواء بينهم وبين غيرهم من أهل الملل. وبهذا تسقط كل عناصر الفتوى التي نتدارسها، ويظهر بطلانها؛ وتظهر عالمية وإنسانية دين الإسلام، وأنه لكل الشعوب والأمم؛ وأن الاختلاف آية من آيات الله، في الألوان والألسنة والأديان، وهو أساس العمران والتطور والازدهار. وغاية خلق الاختلاف هو تحقيق التعارف بين المختلفين، والتعايش والتدافع بالتي هي أحسن بينهم : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ""؛ ومهمة المرسلين هي البلاغ المبين؛ ولكن الله سبحانه هو الحسيب على العباد دون غيره، وهو الحاكم بينهم، يوم يرجعون إليه، فيما كانوا فيه يختلفون. ونود قبل أن ندرج موقفا نبويا عظيما للسيد المسيح، عندما سئل عن الذين جعلوه وأمه إلهين من دون الله، هل هو من أمر بذلك؛ فكان جوابه بعد أن نفى أن يكون قد أمر بشيء من ذلك؛ فقال: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " ويظهر في عرض الاحتمالين معا على الله سبحانه وتعالى، أن السيد المسيح يلتمس العفو والغفران للذين أشركوا من أتباع رسالته، ففي العرض الأول هم عباد الله، يفعل بهم ما يشاء؛ ولكن الطلب المتضمن هو "لا تعذبهم يا رب لأنهم عبيدك"؛ وفي العرض الثاني، فهو يطلب لهم المغفرة لأنها صفة الله الغفور الرحيم. ونختم بموقف رجل داعية من زمن رسل آخرين، لم تذكر أسماؤهم كذبهم قومهم، فجاء من أقصى المدينة يسعى إلى قومه المكذبين، ويجهر بدعوة المرسلين ويبين حقيقتها. لكنه قومه لم يستمعوا له، ولا رجعوا عن تكذيبهم ومحاربتهم للمرسلين، والظاهر أنهم قد نكلوا به هو الآخر بسبب جهره بالحق. لكنه بدل أن يشكوهم لله عندما أدخله الجنة، كانت أمنيته أن يعلم قومه بالمغفرة والنعيم الذي حصل عليه عند ربه، فيستغفرون ويتوبون ويغفر الله لهم ويدخلهم الجنة كذلك: قال تعالى" قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون بما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ". تلك هي صفة المسلمين الذين لا يحكمون على أحد بهداية أو ضلال أو جنة أو نار بسبب انتماءات معينة، ولا يزكون أنفسهم وطوائفهم على حساب العالمين، ويتمنون التوبة والمغفرة والرحمة للناس أجمعين، ويوكلون أمر الحكم عليهم إلى يوم يرجع الناس لرب العالمين، الذي هو أعلم بالمتقين، فيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.