"روزييس" كما سماها الرومان قديما، أو "مازاكان" كما سماها البرتغاليون في القرن السادس عشر، أو "الجديدة" كما صارت تسمى لاحقا بعد أن استعادها السلطان محمد بن عبد الله في القرن الثامن عشر، المدينة التي لا تنام صيفا، المدينة الحالمة والهادئة، والشبيهة بناياتها الشاطئية بسرب من النوارس نزل من السماء وجفل على مقربة من البحر ليحرس المدينة، المدينة العريقة التي احتضنت على مدار القرون أعراقا وأديانا وثقافات مختلفة، حين تقف على جراف الشاطئ مديرا ظهرك للبحر ستبدو لك الصومعة والكنيسة والبيعة متجاورة في حي واحد. وأنت تجول في الجديدة ستحس أنك تسير بين دروب مدينة مضيافة. التقيتُ بمراد الخطيبي في مقهى الطابق الخامس من بناية "مرحبا" المطلة على المحيط الأطلسي، هناك حيث كانت قاعة سينما جميلة تحمل الاسم نفسه، أُغلقت الصالة ممثلما أغلقت معظم صالات الفن السابع بالمغرب، لكن ظلّ اسمها العبارة الأنسب لاستقبال كلّ من يفد إلى المدينة في مختلف الفصول. مراد الخطيبي شاعر ومترجم يحمل دكتوراه في الأدب الإنجليزي وقد أصدر أربع مجموعات شعرية ونشر عددا من الدراسات النقدية والترجمات الأدبية والفكرية، كما أشرف قبل سنتين على كتاب جماعي عن عبد الكبير الخطيبي عنوانه: "ولدتُ غدا"، صدر بالعربية والفرسية والإنجليزية. التقينا هناك على مقربة من الشاطئ حيث تتعالى أشجار لاروكاريا وتحجب بأغصانها الهائلة شمس الظهيرة، وكان سبب اللقاء وغايته هو استعادة عبد الكبير الخطيبي بوصفه أحد أبراج المدينة، يتحدث مراد عن عمّه بحب جارف، ويدعوه "سي عبد الكبير" كلّما جاء على ذكر اسمه. ما كنا نراهن عليه في تلك الجلسة المطولة هو أن نستحضر الأشياء غير المعروفة عنه، الأشياء غير المتداولة في الصحافة والإعلام، فكان ذلك بالنسبة لي شبيها باكتشاف جديد لرجل نظن جميعا أننا نعرفه. كانت البداية من الأم عائشة بوخريص التي تنحدر من منطقة "دكالة"، وبالضبط من قبيلة بني هلال. يقول عنها مراد: "كانت جميلة جدا بعينين خضراوين ووجه مشرق، دائمة الابتسامة، طيبة جدا. لم تطأ لا مدرسة ولا كُتّابا ولكنها كانت ذكية جدا، ودودا وصاحبة نكتة وقدرة قوية على الحكي. كانت تحب ابنها عبد الكبير أكثر من إخوته الذكور ربما لأنه كان الأصغر حيث ازداد بعد أخيه مصطفى وأخيه الأكبر محمد، وربما أيضا بدافع اليتم الذي أحس به بعد الرحيل المبكر لوالده، فقد كان يبلغ فقط سبع سنوات عندما توفي أبوه أحمد الفاسي سنة 1945. كانت تعجبه لغتها الدارجة وتعليقاتها المضحكة على بعض الأمور، لقد كان مفتونا بقوة شخصيتها وذكائها الشديد، وكانت دائما تشجعه على الزواج من مغربية." أخبرني مراد أن "الفاسي" كان هو اللقب الأول لعائلة عبد الكبير قبل إنشاء دفتر الحالة المدنية سنة 1956، وقد كان اختيار اسم "الخطيبي" من طرف أخيه الأكبر محمد خريج جامع القرويين الذي كان يشتغل في سلك التعليم. إضافة إلى محمد (والد مراد الخطيبي) لعبد الكبير أخوان وأختان: مصطفى وزبيدة اللذان اشتغلا أيضا بالتعليم، وربيعة التي فارقت الحياة في عامها العشرين بسبب المرض، وأخ آخر توفي في صباه. أما الوالد أحمد الفاسي الذي درس في جامع القرويين فقد اختار العمل في تجارة الخشب متجنبا سلك القضاء، خوفا من الرشاوي والمال الحرام، وقد كان يلقي الدروس الدينية بمسجد صغير في حي الصفاء، وغالبا ما كان يلجأ إليه الناس من أجل تسوية الخلافات بينهم لما عرف عنه من ورع وحكمة. يبتسم مراد وهو يتحدث عن سر تسمية الخطيبي بعبد الكبير، فقد ولد في الحادي عشر من فبراير 1938، وهذا اليوم كان موافقا ليوم عيد الأضحى آنذاك، فسمي بهذا الاسم تيمنا بالعيد، لأن المغاربة يسمون الأضحى "العيد الكبير"، والفطر "العيد الصغير". يضيف مراد: "كان عبد الكبير أخضر العينين محظوظا إلى حد ما، لأنه الوحيد من إخوته الذي وافق الأب على أن يتابع دراسته بالمدرسة الفرنسية المغربية، علما أن الوالد كان من أشد المتعصبين للغة العربية. وعلى عكس إخوته، لم يتردد عبد الكبير على الكُتّاب القرآني إلا لفترة يسيرة. وكسائر أبناء جيله، كان حليق الرأس إلا من خصلة شعر طويلة". ما لا يعرفه الكثيرون أن الخطيبي كان لاعب كرة قدم جيدا، وكان يُتوقع له مستقبل كبير في هذه الرياضة. يقول عبد اللطيف الشياظمي اللاعب الدولي السابق وصديق عبد الكبير: "كان لاعبا ممتازا، وكان من المتوقع أن يلعب في فريق الدفاع الحسني الجديدي". وما سيحول في الحقيقة بين الخطيبي وكرة القدم هو شغفه الكبير بالكتب التي كان يحلو له قراءتها منذ صباه قرب البحر. لم يكن الخطيبي ذلك التلميذ النموذجي والمنضبط في المدرسة، وربما نقطة التحول في حياته ستكون هي انتقاله إلى مراكش، سيُغرم هناك بثلاثة شعراء هم جبران وامرؤ القيس وبودلير، وربما بسبب هؤلاء وبتحفيز من أخيه الأكبر سيدخل عالم الكتابة شاعرا، فقد كتب نصوصا باللغة العربية أولا، ثم بالفرنسية لاحقا، وكان ينشرها في جريدة "ماروك بريس". وكان أصدقاؤه في مرحلة المراهقة يستغلون موهبته في الأدب ويطلبون منه كتابة رسائل غرامية لحبيباتهم، فكان الخطيبي يقوم بهذه المهمة بكثير من الإبداع. في الفترة ذاتها كان شغوفا بجمع وتصنيف الكلمات الغريبة في اللغتين العربية والفرنسية. بعد مراكش سينتقل إلى الدارالبيضاء ليدرس المرحلة الثانوية في "ليسي ليوطي"، وسيحصل بعد نجاحه في الباكالوريا على منحة تخول له متابعة الدراسة بجامعة السوربون الفرنسية، وسيعود منتصف الستينات حاملا لشهادة الدكتوراه في الرواية المغاربية، أشرف عليها السوسيولوجي الفرسي الشهير جاك بيرك، وضمت لجنة مناقشتها كلاّ من الناقد المعروف رولان بارث والباحث اللساني روني إتنبل. سنة 1966 سيعين الخطيبي مديرا لمعهد علم الاجتماع الذي سيلحق فيما بعد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. واستطاع مع بول باسكون خلال هذه الفترة القصيرة تكوين مجموعة من الطلبة، سيصيرون في ما بعد باحثين متميزين أمثال: عبد الله حرزني، أحمد زوكاري، عبد الله حمودي وآخرين. لكن هذا المعهد المهم سيتم إغلاقه سنة 1970 من طرف الملك الحسن الثاني. يستعيد مراد أصدقاء عمّه: "طيلة حياته كوّن الخطيبي صداقات فكرية وإنسانية مع مفكرين ومبدعين مرموقين أذكر منهم: رولان بارث، جاك دريدا، جان جينيه، إدوارد سعيد، محمود درويش، أدونيس، فيروز والقائمة طويلة. بخصوص رولان بارث، سيتجدد لقاؤه في المغرب مع الخطيبي عندما عمل بارث أستاذا بجامعة محمد الخامس بالرباط أواخر الستينات، وكان يقطنان بنفس العمارة مما جعلهما يلتقيان بشكل دائم". يقول رولان بارت في شهادته التي كتبها تحت عنوان (ما أدين به للخطيبي): "إنني والخطيبي، نهتم بأشياء واحدة، بالصور، الأدلة، الآثار، الحروف، العلامات. وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي جديداً، يخلخل معرفتي، لأنه يغير مكان هذه الأشكال، كما أراها يأخذني بعيداً عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحس كأني في الطرف الأقصى من نفسي." ويقول عنه جاك دريدا: "عبد الكبير الخطيبي ليس فقط كاتباً "يتعذّر تجنّبه"، كما يقال، لمَن يهتم بالأدب الفرنكفوني لهذا القرن، بهذا الأدب حيثما يفيض، ويفكّر، ويحوّل الثقافة الفرنسية، وحيثما يشهد على التاريخ السياسي، والاستعماري، وما بعد الاستعماري، الذي يربط فرنسا بمستعمراتها ومحميّاتها السابقة. فأعماله هي أيضاً "قدوة"، من جهة أخرى، لمَن يهتم بمشاكل "التعددية الثقافية" و"حالة ما بعد الاستعمار" كما يشغف بها اليوم، بشكلٍ مبرَّر، كمٌّ من المثقفين والجامعيين والمواطنين من جميع الأصول". قليلون جدا أولئك الذين يعرفون مقدار تشبث الخطيبي بالمغرب، فالرجل كان عاشقا كبيرا لبلده، ذلك العشق الذي لا يحتاج بالضرورة إلى مكبرات صوت وصورة، فهو لم يكن ينتظر أن يأخذ من بلده شيئا، لكنه بالمقابل كان مشغولا بما سيقدمه هو لهذا البلد. وعلينا أن نعود على الأقل إلى حدثين وقعا في حياة الخطيبي كي ندرك مقدار تعلقه ببلاده، فخلال مرحلة تواجده بفرنسا من أجل الدراسات العليا بالسوربون سيتعرف على السويدية منى مارتنسن التي ستصير في ما بعد عالمة اجتماع، ستأتي معه إلى المغرب منتصف الستينات، وبعد عشر سنوات من الزواج سينفصلان بسبب رغبة الخطيبي البقاء في المغرب بدل الذهاب مع زوجته إلى السويد. الأمر ذاته سيتكرر مع زوجته الفرنسية ماري التي رفض أن يعيش معها في باريس مفضلا البقاء في بيته الهادئ بالهرهورة على مقربة من الرباط. هذا البيت الخالي من الأثاث، والمليء بالكتب واللوحات التشكيلية. أخبرني مراد أن بيت الخطيبي لم يصر فيه بعض الأثاث إلا بعد قدوم زوجته الأخيرة أمينة العلوي التي عاش معها قرابة العشرين سنة، فالبيت ظل لعقود فارغا من الأفرشة، ولم يكن فيه تلفزيون، وكان هناك سرير في المكتبة يفضل الخطيبي أن يرقد فيه على مقربة من الكتب بدل الذهاب إلى غرفة النوم. عاش الخطيبي تجربة الزواج خمس مرات، ورغم انفصاله عن زوجته الأولى ظل على صلة بها، ويبدو أن روايته "صيف في استوكهولم" هي بمثابة نوع من التكريم لها، وقد كانت هي الأخرى تقدّر الخطيبي ليس كزوج سابق فحسب، بل أيضا كصديق وكزميل في مجال بحثها، بل إنها كانت حريصة على حضور معظم اللقاءات التي خصصت لاستعادة تجربة الخطيبي بعد رحيله. كان الخطيبي كما روى لي ابن أخيه مراد محبّا للشاي بالنعناع، ومولعا بالجاز الأمريكي، وبأغاني فيروز التي جمعته بها صداقة كبيرة، خصوصا خلال أيام باريس، إضافة إلى ولعه بأغاني كَناوة ذات الأصول الإفريقية، وبالأغاني الثراتية المغربية، وبالمجموعات الفنية التي تنقّب في تاريخ المغرب وتغترف من ماضيه الفني كفرقة ناس الغيوان ومجموعة تكَادة وغيرهما. كان محباّ للسفر والترحال، ومشّاءً بامتياز، إذ غالبا ما تراه عاقدا يديه خلفه ومستغرقا في المشي لمسافات طويلة، وفضلا عن كرة القدم كان سباحا ماهرا، يتردد باستمرار على شواطئ الجديدة مدينته الأصلية، والهرهوة مكان إقامته، والصويرة التي كانت مدينة أثيرة لديه في شبابه، حيث كان يقضي هناك معظم إجازاته المدرسية. والصويرة أو موغادور هي مدينة تشبه الخطيبي في تفكيره وفي أسلوب عيشه وطريقة نظرته للحياة، فهي مدينة الانفتاح والتعايش والتعدد الثقافي، لقد كان لموغادور أثر في تكوينه وفي فتح أفق تفكيره على مساحات شاسعة. هناك كان يقضي ليالي الربيع والصيف عند خالته السعدية، التي يعتبرها أمه الثانية، كان يحلو له أن يتجول بين الأزقة القديمة ويعيش الكثير من التفاصيل في مدينة يمكنك أن تسمع فيها كل لغات العالم وترى فيها كل السحنات والوجوه القادمة من جهاته الأربع. والحقيقة أن الخطيبي كان سيفقد حياته بهذه المدينة في فترة مبكرة لولا لطف الأقدار، فقد نجا من الغرق في البحر بأعجوبة. كان يحب السينما، ويتابع جديدها باستمرار، لكنه بالمقابل لم يكن يملك جهاز تلفزيون في بيته وكان يعتبره مضيعة للوقت، لذلك لم يدخل التلفزيون إلى بيته إلا في سنواته الأخيرة نزولا عند رغبة طفليه: أحمد الذي يواصل الآن دراسة السينما في فرنسا، وشامة التي تدرس القانون بالجامعة. الخطيبي والعائلة وعن علاقته بعائلته في الجديدة أكد لي مراد أن زياراته كانت دائما مدعاة فخر لكل أفراد العائلة وفرحا عظيما لا ينقضي إلا بعد مغادرته: "كان يدأب على مشاركتنا أفراح عيد الأضحى لأنه ازداد كما نعلم في هذا اليوم المقدس، وقبل أن يهمّ بالقدوم يتصل عبر الهاتف أولا، يحدد برنامج زيارته بكل التفاصيل الممكنة: اليوم وتوقيت وصوله وعدد الأيام التي سيقضيها وكذا الأطباق التي يقترحها، حيث يفضل دائما الأكلات المغربية خاصة الكسكس الدكالي والرفيسة. ما كنت أستغرب له هو أنه كان يفضل في بعض الأحيان تناول طبق الكسكس ليلا، هذا قبل أن يتبع في ما بعد نظام تغذية صارما". كان يطيب لمراد أن يدعوه عمه في جولاته بالمدينة، يقول عن ذلك: "أكون دائما سعيدا عندما يدعوني إلى جولة معه لأنني كنت دائما أتعلم منه أشياء جديدة. كان دائما يحمل مذكرة يسجل فيها ملاحظاته. مرة ونحن في محل للنجارة سمع شخصا ينادي صديقه بأسلوب فيه نوع من الخشونة فأخرج مذكرته وشرع في تدوين بعض الأفكار فيها. وأتذكر يوما آخر كان يشاهد معنا شريطا لعرس عائلي، أخرج مذكرته وبدأ يكتب وسط الضجيج، وحين تلصصت على ورقه فيما بعد وجدته يكتب عن الرقصات الصوفية ويرسم خطاطة، ربما هي فكرة لمشروع كتاب أو دراسة أو ما شابه ذلك". ما كان يسهل زيارات عبد الكبير إلى مدينة الجديدة – حسب مراد- هو أن أغلب أفراد العائلة المقربين يقطنون في حي واحد تقريبا، وهو حي الصفاء. هناك كانت تعيش والدته عائشة بوخريص رفقة أخيه مصطفى، وعلى مقربة منهما تقطن أسرة أخيه الأكبر سي محمد، وأسرة خالته مينة بوخريص التي كان يعشق الحديث إليها كثيرا. يضيف مراد: "ونحن، أي أفراد عائلته الجديدية، نستعد لاستقبال هذا الضيف الكبير بشكل خاص، كنا نرتدي أجمل الثياب ونتهيأ لاستقبال أسئلته، استفساراته وربما عتابه في بعض الأحيان. لكن عتابه ونصائحه كان يوجهها إلى المعني بالأمر مباشرة ودون حضور أي شخص آخر. كنا نتلقى هداياه بفرح شديد. وكان ينتقي هداياه بدقة وحسب سن كل واحد من أفراد العائلة ومستواه الدراسي. فمثلا فيما يخصني، كان يقدم لي هدايا حسب كل مرحلة عمرية مررت منها. وأنا طفل مولع بكرة القدم كان يهديني كرات، وعندما كبرت أصبح يقدم إلي هدايا تنمي الذاكرة، أتذكر خاصة لعبة Scrabble. وفي ما بعد أصبح يهديني كتبا ثمينة لا زلت أحتفظ بها إلى الآن أذكر من بينها كتابا باللغة الإنجليزية كان قد صدر لتوه عن مركز الدراسات العربية المعاصرة التابع لجامعة جورج تاون بالولايات المتحدةالأمريكية تحت عنوان :Contemporary North Africa: Issues of Development andIntegration، والذي يضم مقالات مترجمة إلى الإنجليزية لمفكرين ينتمون إلى دول المغرب العربي أمثال عبد الكبير الخطيبي، محمد عابد الجابري، حليم بركات، وغيرهم. ومرة أهداني كتابا بالفرنسية حول الديمقراطية، ولاحقا مؤلف كارل ماركس المعروف :Le Capital." لم يكن الخطيبي يتحدث عن كتبه مع أفراد العائلة ولا يقدّمها لهم، بل كان يكتفي في الغالب بإخبارهك بصدورها. يقول مراد: "أتذكر في إحدى زياراته للجديدة سأله أحد الأقارب عن كتاب صدر لتوه، وعبر له عن رغبته في الحصول على نسخة منه، أجابه بابتسامة تخفي الكثير من الكلام وبدارجة جميلة: (لكتاب راه في المكتبة كيتسناك/ الكتاب في المكتبه ينتظرك ). احمرّ وجه السائل حينذاك ولم يدرك ربما المغزى من جوابه. أن تقرأ كتابا عليك أن تتعب للحصول عليه، وهذا ما قصده الخطيبي". بخصوص الابتسامة، كما حكى لي مراد، يمتلك الخطيبي سحرا ليس فقط في كلامه "الدارجي" الجميل، بل أيضا في صمته وابتسامته.الابتسامة المتعددة ذات الدلالات المتباينة، تلك الابتسامة التي تنوب عن الكلام حسب السياق والموضوع. فقد يعبر عن إعجابه بابتسامة وأيضا عن امتعاضه بابتسامة، بل وأيضا عن استغرابه بابتسامة مختلفة. عن الأوقات التي كان يقضيها بالجديدة يقول مراد: "ما كان يثير إعجابي في زياراته هو الدقة المتناهية التي يقوم فيها بتوزيع وقته. يستيقظ ثم يتناول فطوره، يتجاذب أطراف الحديث معنا، يتأبط محفظته التي لا تفارقه أبدا ويغادر إما لزيارة قريب أو صديق أو جولة في أحياء مدينة الجديدة، تليها جولة في الشاطئ الذي كان يعشقه كثيرا. فهناك تعلم السباحة وهناك مارس كرة القدم. وقد كنت محظوظا كثيرا لأنني رافقته عدة مرات في جولاته الرائعة تلك. كان يفضل التجول مشيا على الأقدام حتى يتواصل من جديد مع الأمكنة التي كانت لا تزال موشومة في ذاكرته. قبل الخروج من أجل تنفيذ برنامجه الصباحي يخبر عن موعد رجوعه من أجل تناول وجبة الغداء وبطبيعة الحال هو من يقترح الوجبة. كان يعجبه الأطباق التي تعدها والدتي (ابنة خالته مينة) كثيرا. بعد وجبة الغداء، يلج غرفته وفي غالب الأحيان يقرأ رواية أو شعرا قبل النوم قليلا. تسللت مرة إلى غرفته ووجدت كتابا لبول فاليري Paul Valery على وشك أن ينتهي من قراءته، مع الأسف لا أتذكر العنوان.فرغم وجوده في زيارة عائلية إلا أن الكتب لم تكن تفارقه أبدا". كان الخطيبي يشجع أفراد عائلته على القراءة، خصوصا الصغار منهم، إذ غالبا ما كان يعبر عن غضبه حين يجدهم جالسين أمام التلفاز لساعات طويلة. لم يكن يحب الشخص الكسول، وبالمقابل يشجع من يلمس فيه قدرة خاصة على العطاء والإبداع وهو ما حصل مع مراد حين سلمه بعض نصوصه الشعرية المنشورة في الجرائد الوطنية خلال دراسته بسلك الثانوي حيث شجعه كثيرا على الكتابة. أخبرني مراد أن الخطيبي لا ينسى أصدقاء الطفولة وحتى إذا لم يتمكن من رؤيتهم فإنه كان يسأل عن أحوالهم. كان يساعد في حدود المتاح وفي حدود ما يتناسب مع مبادئه فمثلا قد يساعد فردا من أفراد العائلة يوجد في وضعية مادية قاهرة أو يعيش ظروفا صحية قاهرة ولكن الخطيبي –حسب ابن أخيه مراد- لن يساعدك على الحصول على وظيفة ولو بوساطة والدته التي كان يحبها كثيرا. يقول عن ذلك: "هنا لا بد أن أحكي قصة أختي ربيعة الخطيبي التي حصلت على الإجازة في الحقوق بامتياز وعانت مع البطالة لسنوات عديدة وتقدمت إلى مباريات كثيرة إلا أنها لم توفق. لجأت حينذاك إلى عمها الذي كان يحبها كثيرا، لكنه رفض وأخبرها أن ذلك يتعارض مع مبادئه، وأنها ستعي مغزى ذلك فيما بعد. غادرت الرباط في اتجاه مدينة الجديدة وهي تجهش بالبكاء".