المنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية: من أجل سياسات هادفة إلى تعزيز التماسك الاجتماعي والتضامن تخليدا لليوم العالمي للعدالة الاجتماعية الذي يصادف يوم 20 فبراير، بادر مجلس المستشارين بالمغرب إلى تنظيم المنتدى البرلماني للعدالة الاجتماعية تحت شعار "تنمية الكرامة الإنسانية لتمكين العيش المشترك" يومي19 و 20 فبراير 2016. ويتم تنظيم هذا المنتدى البرلماني الدولي، من أجل التداول بشأن الدور الأساسي للبرلمانات الوطنية في تدعيم مختلف الجهود الوطنية والدولية في مجالات "القضاء على الفقر وتعزيز العمالة الكاملة والعمل اللائقوالمساواة بين الجنسين وتحقيق الرفاه الاجتماعي والعدالة الاجتماعية للجميع". ونعتبر أن تنظيم مجلس المستشارين لهذا الملتقى يأتي في انسجام مع ما جاء في الدستور المغربي من تكريس لاختيار "إرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤالفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم في نطاق التلازم بين الحقوق والواجبات"، وحظر لكافة أشكال التمييز، و "توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنينوالمساواة بينهم ومشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية"، وتعبئة الوسائل الضرورية لضمان التمتع الفعلي للمواطنات والمواطنين على قدم المساواة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية، وحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لفئات عمرية ومجتمعية، تحقيقا للطابع الإدماجي للعدالة الاجتماعية. إن هذه الموجهات، في اعتقادنا، يمكن استثمارها لوضع سياسات هادفة لتعزيز التماسك الاجتماعي والتضامن، ولوضع آليات قانونية وسياسات اجتماعية منصفة ومدمجة، ترتكز على تأمين الولوج للحقوق الاقتصاديةوالاجتماعية (خاصة التعليم والصحة والتشغيل والسكن اللائق)، وتهدف إلى تحقيق الإدماج الاجتماعي، وتعميم الحماية الاجتماعية (خاصة بالنسبة للفئات والأفراد الأكثر احتياجا)، والعدالة التوزيعية والضريبية المنصفة(خاصة على مستوى إصلاح هيكل الأجور والدخول وتقوية شفافية النظام الضريبي فيما يخص إعادة توزيع الدخول وطريقة توزيع الأعباء الضريبية)، بالإضافة إلى تأمين الخدمات الاجتماعية اللازمة للعيش بكرامةوتوليد فرص العمل اللائق والعمالة الكاملة والمنتجة. فالتحولات البنيوية التي يعيشها العالم على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية والثقافية والروحية، وضعت كل السياسات القائمة على المحك، في وقت أصبحت تتزايد فيه وتيرة المطالبالاجتماعية والإنسانية، وانتشار البطالة وضعف التغطية الاجتماعية الأساسية، واندلاع الحروب والكوارث البيئية، وندرة الإمكانيات. ولعل الأزمة التي يعيشها العالم اليوم تتجلى في عدم القدرة على الحسم في العديد من القضايا الإقليمية والدولية المرتبطة بالأمن والاستقرار والسلم، أدت إلى سقوط العديد من الأنظمة الاستبدادية والعسكرية، وتغييرأنظمتها السياسية، لتدخل بعد ذلك في نفق مطبوع بموجة من العنف الطائفي والمذهبي والديني، بسبب عدم القدرة على إعادة بناء الدولة الديمقراطية الحديثة. وهو ما شكل أرضية خصبة لانتشار الجماعات الإرهابيةالمسلحة، ولتنفيذ مخططاتها التدميرية عبر مناطق عديدة بالعالم. ولم تكن منظومة القيم الكونية بمنأى عن هذه التحولات، خاصة مع بروز دعاوى الحقد والكراهية والإسلاموفوبيا والتطرف الديني. والمغرب لم يكن بمنأى عن دينامية التغيير، فقد عاش بدوره موجة من الحراك الاجتماعي، الذي شكل إحدى اللحظات المفصلية الفارقة في مسار انتقاله الديمقراطي، حيث انخرط إراديا في رسم معالم التغيير الممكنوالمتاح، بناءا على شروطه الذاتية والموضوعية. وتوج هذا المسار السياسي ببناء وثيقة دستورية، كانت نتاج توافق الفاعلات والفاعلين من مختلف مشاربهم الاجتماعية والسياسية والفكرية، وتؤسس لمرحلة سياسية جديدة عنوانها البارز ضمان الحقوق والحريات، وفصل متوازن بين مختلف السلط، وتفعيل مقتضيات الحكامة المؤسساتية والمشاركة وربط المسؤولية بالمحاسبة... وقد انخرط كدولة لها وزنها في المنظومة الدولية، من خلال الالتزام بكافة العهود والمواثيق والاتفاقيات الدولية، كما انخرطت مكوناته السياسية في تحصين الاختيارات الديمقراطية وتدعيمها بالإصلاحات المؤسساتيةوالقانونية الضرورية، وفي العمل على توفير شروط إنضاج مقومات إحقاق العدالة الاجتماعية والإنصاف بين الأفراد والجماعات والجهات، وتدعيم ركائز دولة الحق والقانون. وترسيخ المكتسبات الديمقراطية، وإغنائهابمزيد من الانفتاح على القيم الكونية مع التشبث بمقومات الشخصية الوطنية الأصيلة بتعدد وتنوع روافدها. وإيلاء الأهمية لقضايا التنمية المستدامة، ومحاربة الفقر والهشاشة والتهميش والإقصاء، والبناء القاعدي باعتمادالجهوية المتقدمة ومزيد من اللامركزية واللاتمركز، كمسارات تروم تحقيق القرب، والمشاركة كأسلوب لضمان الحكامة الجيدة. وخلق الشروط الضرورية لاسترجاع ثقة المواطنات والمواطنين في نبل العمل السياسي وأهمية الانخراط الملتزم للجميع في المجهود الجماعي من أجل رفع تحديات المستقبل؛ تنموية وبيئية وروحية وأمنية. وتقديرنا السياسي للمرحلة يتمثل في أن المغرب رغم ما حققه من مكاسب وإنجازات في مجال الإصلاح السياسي والاقتصادي والتنموي، خاصة في العقدين الأخيرين، لا زالت العديد من المعيقات تحول دون إحقاق التنمية بأبعادها المختلفة، والتي أفضت الى استشراء العديد من المظاهر السلبية. وهي تعتبر معيقات مقلقة أمام تحقيق النقلة النوعية في مجال التنمية المستدامة وترسيخ بناء دولة الحق والقانون. لذلك، فالضرورة تحتم العمل على مدخل إعادة الاعتبار إلى العمل السياسي ونهج سياسة القرب، وتخليق الحياة العامة، والاستجابة لرغبة النخب والفعاليات الجديدة في المساهمة من أجل ترسيخ الاختيار الديمقراطي. وانطلاقا من رؤية واقعية للإصلاح، مستحضرة للسياق السياسي المغربي، ومبنية على دينامية الثبات والتحول، باعتبارها معادلة تستحضر الموروث السياسي والثقافي والديني، وسيرورة التحولات المجتمعية،والمشروع الديمقراطي الحداثي، فإن الممارسة السياسية ترابيا ومركزيا هي ما يسهم في تحديد وترجمة هوية الفاعل السياسية ومنظومته الفكرية. وهو ما يتطلب تعميق المنحى النقدي القائم على أساس منهجي، قوامهالربط الجدلي بين مرجعية الديمقراطية الاجتماعية والممارسة السياسية والتنظيمية، عبر خلق فعل تواصلي ذي أبعاد جماهيرية يتعين توجيهها وتأطيرها. لقد شكلت المسألة الاجتماعية المتمثلة في المطالب الاجتماعية للفئات الشعبية وعلى رأسها فئة الشباب المغربي محور الحراك الشعبي، وقَوَّت مطالب الإصلاح السياسي الذي عرفه المغرب سنة 2011، وأبرزتتحديات جديدة أفرزها الحقل السياسي، وأضحت تتخذ - تدريجيا - طابعا مهيكلا للنقاش العمومي، تجلت أساسا في تعزيز أدوار الفاعلات والفاعلين السياسيين في إنتاج السياسات، والتأكيد على المقاربة التشاركية، عبرإقرار صيغ جديدة للمشاركة في تدبير الشأن العام، سواء من خلال توسيع مجال المسؤولية السياسية للحكومة والبرلمان وتقوية دور المعارضة وإحداث العديد من مؤسسات الحكامة، وتعزيز صلاحيات المؤسسات المنتخبة وإعادة الاعتبار للوظائف السياسية للتنظيمات الحزبية وتقوية حضور المجتمع المدني. وقد جاءت الإصلاحات الدستورية كاستجابة موضوعية لمطالب الشعب المغربي وقواه الحية، وفي سياق سلسلة من مسارات الإصلاح التي دشنها المغرب في السنوات الماضية، لتأمين حظوظ الانخراط في مساراتالدمقرطة ومتطلبات التنمية، استجابة لشروط المرحلة الراهنة. وهو ما يعني أن هذه المرحلة الإصلاحية الجديدة لم تكن معزولة عن سياقاتها التراكمية بفعل النضالات التاريخية للقوى الوطنية والديمقراطية والحداثية منذمطلع الاستقلال، وعلى امتداد عقود من الزمن. وهي السيرورة التي دشنت المسارات الديمقراطية بالمغرب بتجربة "التناوب التوافقي"، وتدشين تجربة المصالحة والإنصاف، وما تلاها من نقاشات واسعة بخصوصالانتقال الديمقراطي، وطي صفحة الماضي، وصياغة تقرير الخمسينية، وصولا إلى إقرار دستور جديد في المرحلة الراهنة. ودخلت بلادنا مرحلة جديدة من مسارات الإصلاح المؤسساتي بإقرار دستور 2011. وهي المرحلة التي جاءت في سياق الحراك الاجتماعي والسياسي الذي عرفه الشارع المغربي، وما عبرت عنه من مطالب تخصالعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد وإقرار إصلاحات سياسية ومؤسساتية تؤمِّن للمغرب شروط تحقيق الديمقراطية المنشودة ودولة الحق والقانون. وأفضت المرحلة ذاتها الى إجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها وإلىتناوب سياسي من نوع جديد. وبقدر ما شكلت هذه المرحلة منعطفا مميزا في تاريخ بلادنا، بقدر ما شكلت أفقا للانتظار علقت عليه أمال عريضة لعموم أفراد الشعب المغربي من أجل المضي قدما في تعزيز أدوات الديمقراطية التمثيلية والتشاركية،وتحقيق مطالب الشعب المغربي في العيش الكريم والرفاه والمساواة وتحقيق العدالة ومحاربة الفساد والرشوة واقتصاد الريع. فالوثيقة الدستورية قدمت وإلى جانبها إرادة الفاعلات والفاعلين ومتطلبات الحياة السياسية ما يضمن النجاعة والعقلانية والاستقرار جوابا على إشكالية التدبير السياسي للشأن العام، عبر تحديدها لمجمل المبادئوالقيم الموجهة لعملية إنتاج وصياغة السياسات العمومية، وإقرارها لهندسة الصلاحيات والاختصاصات وتحديدها لأدوار ووظائف السلط والمؤسسات الدستورية، وهو ما لم يعكسه نموذج التدبير السياسي وطبيعةالاختيارات السياسية للحكومة الحالية، الذي يغيب فيه الشرط السياسي الديمقراطي التشاركي ومقوم الانسجام الداخلي.