نصف قرن و3 سنوات تكون قد مرت، بحلول السادس من فبراير، على رحيل "الأمير الهمام" وملهم حركات التحرر العالمية، ابن الريف القائل: "لا حل وسط في قضية الحرية"، والاسم الخالد الذي ظل محظورا ومغيبا. هو الرجل الذي سبق زمنه، وجاء ربما في غير أوانه، ازداد سنة 1882 بأجدير، وتوفي سنة 1963 بالقاهرة، وعاش منفيا ومات منفيا، لا وطنه آواه، ولا التفت إليه أهل هذا الوطن، إنه "ميس ن سي عبد الكريم"، المعروف بابن عبد الكريم الخطابي. الرمز والزعيم المغيب هو بطل وزعيم ورئيس وقائد عسكري ورجل سلم وسلام، "زعزعت إستراتيجيته الحربية النظام الاستعماري وهو في أوج قوته آنئذ، ووضعت فراسته السياسية كمصلح أسس دولة ما قبل حديثة وثورية قياسا إلى عصره وإمكانياته"، تكتب زكية داود، أو كما جاء على حد تعبير "برونو إتيان"، فإنه "وبالفعل، ظل أثر عبد الكريم باق إلى اليوم، دون نسب سياسي مباشر وقائم، بل مع الرفض العنيد لهذا النسب، وهو رفض مدهش كقصة الرجل نفسه، وها إن نجمه مستمر في اللمعان ليس فحسب فوق جبال الريف، بل حتى خارجها. لقد صار أسطورة ومحظورا". فماذا بقي، إذن، من فكر وتجربة الأمير الخطابي؟ وكيف نعيد اليوم قراءة ملحمة محمد بن عبد الكريم الخطابي؟ وما هي مظاهر راهنية فكره وتجربته وعبقريته؟ وماذا تبقى من ملحمة الذهب والدم التي صنعها "فينيق أنوال"؟. الاسم المحظور من أبرز القضايا التي تعكس عناصر تجربة "الحداثة السياسية" التي بلورها "فينيق أنوال"، إعادة النظر في طبيعة الواقع الذي كان سائدا داخل مجتمع الريف خلال مرحلة بداية القرن 20، والناجمة عن اختلال العديد من البنيات السياسية والسوسيو- ثقافية داخل هذا المجتمع "الانقسامي"، كما جاء عند "دافيد هارت" و"جون واتربوري"، وكذا إشاعته للسلم المدني، وتقويم النظام الجبائي والإداري والزراعي، وإرساء دعائم دولة قوية وحداثية وبمقومات تجعل من الشهيد الخطابي شخصية سبقت زمنها بقرن، على حد تعبير أحد الذين ألهمتهم تجربته الرائدة. علاوة على ذلك، عمل أمير الريف على إصلاح المنظومة القضائية وإقامة العدل، وأسس جيشا حقيقيا وحكومة منظمة، وجمعية وطنية (برلمان)، وتوج ذلك بوضع دستور، وإنشاء المدارس، وخلق أوراش. كما سعى إلى تنمية وتقدم وتطوير منطقة الريف، وتجاوز الأوضاع السائدة آنذاك، وكلها إنجازات قياسية بالنظر لطبيعة ظرفية الحرب القائمة. من جهة أخرى، عمل على "تحديث بلاده وتمكينها من أسباب التقدم التقني". فهل كان إذن، بهذه الإنجازات، مجرد زعيم قبلي وفقيه بسيط لا يفقه شيئا في السياسة وأمور التنظيم والبناء والإصلاح الجذري؟ أم إنه كان مجرد مجاهد ومصلح ديني بمنظور ضيق ومتزمت؟ إنه، بكل تأكيد، شخصية ثورية تمتلك رؤية مجتمعية ومشروعا حداثيا قائما على تصور واضح للسياسة الدولية. لقد كرس تجربة رائدة ما زالت في حاجة إلى من يتمعن فيها بعمق ويدرسها، ويفك طلاسمها، في زمن لم تكن فيه شمس الحداثة المميعة - كما هو المجال في زمننا هذا- قد بزغت بعد. فهل فعلا جاء قبل الأوان؟ تجيب سريعا الكاتبة زكية داود قائلة: "لقد جاء قبل الأوان فعلا. قبل الأوان في ما يتعلق بمحاولاته الحداثية التي أسيء فهمها، وتوظيفه للتماسك الاجتماعي الذي لم يكن في البداية ديني المنزع، ودولته وجمهوريته. ولكن قبل الأوان أيضا بالنسبة للقوى الكبرى". فهل لهذا السبب ظل اسما محظورا؟ المشروع المؤجل لقد استطاع الخطابي أن يؤثر في الأوساط العالمية، خصوصا فرنسا وإسبانيا، حيث أحدث هزات سياسية كبرى داخل هذين البلدين، بل أثر في مجرى الأحداث الدولية، وامتدت تأثيراته هاته إلى عمق التقلبات التي شهدها العالم إبان زمن المخاض والصراعات والتحولات العالمية. كما أنه بتجربته وإنجازاته التي انبهر لها الجميع وكانت باعثة عن الإعجاب والتقدير، استطاع أن يكرس تجربة جمعت بين الخصوصي والكوني، وجسدت نموذج "عولمة سياسية بحتة" إن صح التعبير، تفوق عولمة الزمن الراهن والرديء، وهو بذلك لم يكن "شاهدا على الريف، ولا حتى على المغرب، بقدر ما كان شاهدا على حقبة تتلمس طريقها، ونتبين بذهول أنها كانت محتدمة بعولمة كالتي نراها حاليا، دون أن يدركها فاعلوها دائما بوضوح، ماعدا السرياليين مرة أخرى". وحتى نعيد الاعتبار، في كل معانيه، لرموز الوطن والوطنية والذاكرة والحقيقة، فقد آن الأوان لأن نفهم تجربة أسد الريف، ولأن نكون الجيل الذي سيسير على نهجه ويحمل مشعل معركة الحرية والعدالة والكرامة، والمصالحة مع الذات والتاريخ. لقد مضى زمن طويل من دون أن يجد فيه أمثال عبد الكريم مكانتهم المفترضة، رغم حضورهم الدائم في الوجدان والذاكرة الجماعية للمغاربة. فهل ستنصف رموزنا وشهداؤنا ووطنيونا؟ إنه السؤال المحرج الذي تجيب عليه زكية داود في خاتمة كتابها: "صمت، حرج، حيرة، إجلال، بحث، هذه هي الكلمات التي تتحرك بينها ذكرى عبد الكريم في الجهة الأخرى للمتوسط، شاهدة، هنا أيضا، على طول عمره السياسي المدهش. فهذا الفينيق ينبعث من رماده باستمرار، لأنه جزء أساسي من الثورة الواعية للشعب المغربي. وإذا كان يعتبر فقط ذاك الذي ألقى، من خلال جمهوريته، حجرا ثقيلا في مستنقع الأنظمة الاستبدادية، فإنه أكبر من ذلك بكثير في الحقيقة. لذلك يحوم ظله أبدا فوق أجدير".