ثلاثون حولاً بدون بورخيس.. " لقد إرتكبتُ أسوأ أو أفدحَ خطيئةٍ فى حياتي.. لم أكن سعيداً " ! هذا ما قاله وتركه لنا مكتوباً الأديب الأرجنتيني الذائع الصّيت خورخي لويس بورخيس ،فى حين أنه أسعد بكتاباته الكثيرين من المعجبين بإبداعاته، من العاشقين للأدب الرفيع،والوالهين بالإبداع الراقي البديع ، الذي لا تحدّه حدود ،والذي يحلّق فى الآفاق الشاسعة، وفى الخيال المجنّح ،الضارب فى أعماق التاريخ، والسّابح فى بواطن الخرافات، والأساطير، والغرائبيات العجيبة،واالغنائيات الجميلة التي تتميّز بها كتابات هذا المبدع الضرير- البصير ،هذه الكتابات التي لم تمت، ولن تموت بموت صاحبها، والتي تقوم على سحر آسر، وأسلوب سلس جذاب، وبيان مغناطيسي مدهش لا يطوله البلى، ولا يعلوه الدّرن، ولا يغشاه النسيان. فى هذا الإتجاه أعلن المشرفون على " مؤسّسة بورخيس الدّوليّة " التي ترأسها الكاتبة والمترجمة ماريا كوداما أرملة الكاتب الأرجنتيني الرّاحل الذّائع الصّيت خورخي لويس بورخيس التي قدّمت مؤخراً بالعاصمة الإسبانية مدريد برنامجاً حافلاً حول التكريم الذي ستخصّصه الأوساط الأدبية فى مختلف أنحاء المعمور لبورخيس فى ذكرى مرور ثلاثين حولاً على رحيله حيث إعتبر هذا الأمر من أهمّ الأحداث الأدبية الكبرى التي سيشهدها عام 2016 الذي ما زلنا نخطو أولى خطواته، أونتلمّس أولى عتباته،وهكذا سيتمّ تنظيم إحتفاليات تكريم واسعة النطاق على إمتداد السنة الجارية لهذا الكاتب العالمي الكبير. ومن المُنتظر أن تتضمّن برامج هذه الإحتفاليات الهائلة - التي تسهر على إعدادها هذه المؤسّسة الثقافية الآنفة الذكر التي تحمل إسمَ أحد كبار المبدعين فى أمريكا اللاتينية والعالم الناطق باللغة الإسبانية - تنظيم سلسلة من التظاهرات الثقافية، والملتقيات الأدبية، والندوات والمحاضرات الفكرية حول أعمال هذا القاص، والرّوائي، والشاعر، والمترجم الذي طبّقت شهرته الآفاق نظراً لخصوصيات إبداعاته،وتفرّد نوعيّة عطاءاته، وتفتّق عبقريته على الرّغم من عاهة العَمىَ التي أصيب بها منذ نعومة أظفاره، وصغر سنّه .فضلاً عن عرض أفلام وثائقية، وأشرطة شخصية عن بورخيس، وإقامة معارض حول كتبه، ووثائقه،وصوره الشخصية، ومخطوطاته، فى كلٍّ من " دار أمريكا" و" مركز الفنّ الحديث"،و" مكتبة معهد سيرفانتيس" بالعاصمة الإسبانية مدريد التي تحمل إسم بورخيس منذ 25 سنة خلت، ومن المنتظر أن تُقام هذه الإحتفاليات كذلك فى العديد من المعاهد الثقافية الإسبانية التي تحمل إسم " سيرفانتيس " فى مختلف عواصم ،وحواضر،ومدن العالم الأخرى من بينها جنيف( بمؤسّسة " بودمير" التي تحتفظ بمخطوطاته)، والعاصمة الفرنسية ( ب" دار أمريكا اللاّتينية بباريس)، ونيويورك ، فضلاً عن معظم عواصم وكبريات مدن بلدان أمريكا اللاتينية ،وبشكل خاص فى بلده ،ومسقط رأسه الأرجنتين، حيث سيتمّ تنظيم خلال شهرأغسطسالقادم ملتقى كبير خلال الأسبوع الذي يصادف عيد ميلاد الكاتب الراحل ،وتأتي هذه الإحتفاليات والتكريمات العالمية نظراً للمكانة الرّفيعة ، والمنزلة السامية اللتين يتبوّأهما هذا المبدع البصير فى عالم الخلْق والعَطاء والإبداع فى مختلف أنحاء المعمور . من فتىً أعمى مغمور إلى أديب بصير مشهور ولد بورخيس فى 24 أغسطس 1899 ، فى شارع " توكومان" ببوينوس أيريس فى منزلٍ متواضعٍ صغير، الذي على الرّغم من عاهة العمى التي حرمته نورَ البصر، فإنّ الحياة لم تحرمه نعمة البصيرة، مع ذلك أمكنه بما ألّف وخلّف لنا من أعمال جليلة،وإبداعت رائعة أن يملأ الدّنيا ويشغل الناس فى حياته وبعد مماته على حدٍّ سواء .وقد حكى لنا بورخيس فيما بعد فى كتاباته بحسرة وعلى مضض أنّ ذلك المنزل البسيط الذي كان مسقط رأسه لم يعد له وجود، إلاّ إنه لا يعلم، أو ربّما يعلم أن الذي بقي لنا مشعّاً ولامعاً هو عالمه الأدبي الفسيح، وخياله الإبداعي المجنّح، حيث سيصبح ذلك الفتى المغمور من أبرز الوجوه الأدبية فى القرن العشرين المنصرم .وفى الرابع عشر من شهر يونيو (حزيران) القادم من العام الجاري 2016 تحلّ الذّكرى الثلاثون لرحيل خورخي لويس بورخيس، أحد أقطاب،وأهرامات الأدب الأمريكي اللاّتيني الكبار المعاصرين ، حيث توفّى بجنيف(سويسرا) فى التاريخ الآنف الذكر من عام 1986 عن سنٍ تناهز 87 سنة . الكتابة والمكتبة والكتاب كتب بورخيس ذات مرّة يقول : " عندما كنت أفكّر فى الجنّة دائماً كنت أتخيّلها شكلاّ من أشكال المكتبة".خلال فعاليات ندوة دولية إنعقدت بالعاصمة الإسبانية مدريد ، تحت عنوان "الكتاب مثل الكون" كانت أرملة الكاتب الارجنتيني الرّاحل ماريا كوداما قد شاركت فيها بعرضٍ ضافٍ قدّمت أثناءها تحليلاً دقيقاً وافياً وموفياً لعلاقة بورخيس الحميمية بعالم الكتب والمكتبات، نظراً لمزاولته مهنة مدير للمكتبة الوطنية ببوينوس أيريس، كما سلّطت الأضواءَ على المعايشات التي تسنّى لزوجها من جرّائها خلق" عوالم مكتبيّة " فسيحة خاصّة به فى العديد من أعماله، حتى أصبح هذا الهاجس عنده رمزاً كلاسيكيّاً للثقافة المعاصرة، وتعرّضت ماريا كوداما خلال هذه الندوة كذلك إلى مذكّراتها أو ذكرياتها التي تفصح فيها عن حياتها الحميميّة الخاصّة مع بورخيس وسفرياتها المتعددة معه، كما تتضمّن هذه المذكّرات العديد من الأخبار،والأقاصيص، والأ سرار التي لم يسبق نشرها أو ذيوعها حول حياة بورخيس من قبل .وتعتب كوداما فى كل مناسبة على النقّاد الذين تطاولوا أو تهجّموا عليها أو على زوجها بعد رحيله ، وقالت إنّ مذكّراتها تسلّط الأضواء على كل ما كان مبهماً،أو غامضاً، أومجهولاً فى حياة بورخيس، ذلك أنّ العديد من الناس، والكتّاب، والنقاد قد نشروا غيرَ قليل من الأكاذيب ، والأباطيل ،والإدّعاءات، والمبالغات حوله. كما أكّدت ماريا كوداما فى هذا القبيل كذلك :" هذه المذكّرات جاءت نتيجة المعاناة التي كانت تشعر بها حيث سبّب لها كلّ ما نُشر حول بورخيس من هذه الإفتراءات حزناً عميقاً،وقلقاً مفرطاً وصل بها حدّ الإكتئاب ، بل إنّ كلّ تلك الأكاذيب الملفّقة قد أصابتها بالدهشة، والشدوه من هؤلاء الذين يطلقون الكلامَ على عواهنه، حتى ولو لم يتعرّفوا قطّ على بورخيس بصفة شخصية ، على الرّغم من أنّ بورخيس لم ينظر قطّ بعين الإزدراء أو الإحتقار أو الإستصغار نحو أيّ كاتب أو أيّ عمل أدبي، بل إنّه كان يكنّ الإحترام للجميع،وهو حتى وإن لم يتعاطف مع بعض هؤلاء الكتّاب فإنه كان لا يتورّع من تقديم النّصح لبعضهم وإنتقادهم ، ذلك أنّ النقد عنده كان يعني ضرباً من " اللّعب" نظراً لطبعه المرح الذي يميل إلى الدعابة، والسّخرية، والتسلية والتسرّي، حيث كان يطبّق ذلك حتى على نفسه وأعماله".!. المكتبة تعلّم الصّبر وتلقّن الأناة تؤكّد ماريا كوداما أنّ بوخيس إشتغل فى مدينة بوينوس أيريس فى الفترة المتراوحة بين 1937 و1945 فى وظيفة " كتْبي" فى المكتبة الوطنية بالعاصمة الأرجنتينية حتى عيّن مديراً لها فى المدّة المتراوحة بين 1955 و1974، هذا المنصب كان من الأحلام التي كانت تراوده فى تلك الأيام ،ومن غريب الصّدف ومفارقات الأقدار أنّ إثنين من الكتّاب المرموقين فى الأرجنتين تولّيا كذلك هذا المنصب ،وكانا هما الآخران قد فقدا النظر مثل بورخيس وهما "خوسيه مارمول"و"بول غروساك". وقد عمل بورخيس على إعادة إصدار مجلة "المكتبة" التي كان قد أنشأها "غروساك". كان بورخيس كُتْبيّاً عاشقاً للكتب ،وقد ظهر ذلك جيّداً فى مختلف أعماله وإبداعاته ، وقد كتب بضعة فقرات كتقديم للمجلة المذكورة ، والواقع أنّ ما كتبه بورخيس فى هذا التقديم ظلّ صفحة مجهولة أو منسيّة للكاتب الأرجنتيني العالمي. وقد عنون بورخيس هذه الصفحة ب "النوايا"، وعلى الرّغم من قصرها فإنّ القارئ واجد فيها مميّزات هذا الكاتب ، بل لابدّ أنه سوف يشمّ فيها ما أبرزته أعماله الأدبية من قيم، وأفكار،ومواضيع، إذ تترى فيها معاني النسيان ،والخلود، والأحلام، والمجد، وجلال الآداب القديمة ،والشّرف، والكرامة،والصّبر،وهندسة المعمار، والفلسفة،وبالجملة يجد فيها القارئ نموذجاً رائعاً " للأسلوب البورخي" المميّزالذي أصبح شعاراً للآداب الإسبانية المعاصرة. من جملة ما جاء فى هذا التقديم :"المكتبة لا حدود لها ،إنها مطاوعة ، كريمة ،معطاء ،تعلّم الصبر، وتلقّن الأناة،إنها تضمّ وتحفظ جميع الكتب ،إن أيّ كتاب فى يوم مّا قد يكون نافعاً وذا جدوى لأحد،وقد يجد فيه القارئ ما ليس نافعا ولا مجديا له، تسعى المكتبة بأن تصبح جميع الكتب، بمعنى آخر تسعى بأن تصبح كل الماضي دون تنقية أو تصفية أو تبسيط النسيان. المكتبة مثل الكون بل إنّها الكون بكل معارفه ،وقوانينه ،ونواميسه ،وأنظمته،أمّا المجلة بخلاف المكتبة فهي ذات نزعة إنسانية ، وهي معرّضة للإطراء والخلافات ، ذلك أنها تمثّل وتقدّم المكتبة،لذا فهي تثير الفضول مثل هذه الأخيرة،بل إنها ليست أقل منها تجانساً وتغايراً،إنها دائرة المعارف وجميع العلوم وليس التاريخ وحده ، ذلك أننا نعرف اليوم أنّ التاريخ ليس بعيداً عن شحذ السيوف القديمة والنصوص الجيّدة ، وهو ليس أمراً مصنوعاً أو جاهزاً بل إنّه يصنع فى الأحلام وفى جنح الليل . فى مرحلتها الثانية تتطلّع هذه المجلّة بألاّ تكون مصدر حنق لمؤسّسها الأوّل "بول غروساك" ولا للأزمان العسيرة الصعبة التي قيّض الله لها أن تعيش فيها،كل مجلة ، كما أنّ كل كتاب إنمّا هو حوار". وتعرّضت ماريا كوداما على وجه الخصوص إلى المرحلة التي كان فيها بورخيس مديراً للمكتبة الوطنية فى العاصمة الأرحنتينيّة (بوينوس أيريس) وعلاقته الحميمية مع مكتبته الخاصّة، ومع الكتب بشكل عام ، فضلاً عن صلاته وآرائه حول العديد من المؤلفين والكتّاب أمثال "كيبلينغ"، "وايلد" ،"سيرفانتيس"، "كيبيدو" ،"شكسبير"،"شوبنهاور" وسواهم من الكتّاب، والمُبدعين الآخرين الذين كان بورخيس يبدي نوعاً من التعاطف معهم، والإعجاب بهم. وأكّدت أرملة بورخيس أنّ زوجها ظلّ يقتني الكتب بنوعٍ من الهوَس حتى بعد مرحلة إصابته بالعَمى، بل إنّه خلّد إسمَ المكتبة فى إحدى أشهر قصصه القصيرة وهي بعنوان "مكتبة بابل"، ولقد كتب العديد من النصوص عن الكتب،والكتّاب، والمكتبات طول حياته، وأشاد غيرُ قليل من النقّاد من مختلف بلدان العالم بإبداع هذا الكاتب الرّائع الذي بدأ حياته " كُتْبيّاً " بسيطاً ،وعلى الرّغم من عاهة العَمى التي أصابته فى شرخ عمره فقد أمكنه أن يزيد عوالمَ العديد من المُبصرين نوراً،الذين إستضاؤا به، وبأدبه، وإبداعاته الفريدة الوضّاءة. البصر والبصيرة وتؤكد الناقدة "فيكتوريا أسوردوي" من جهة أخرى إلى :" أنّ غاية كوداما من نشاطها المتواصل على رأس مؤسّسة بورخيس الدولية هي الإستمرار فى إعلاء الشّعار الذي سبق أن رفعته وتبنّته منذ رحيل زوجها، وهو إخلاصها الدائم لهذا الرّجل الذي لا تفتأ تصفه فى كل مناسبة بأنه كان ذا حساسية مفرطة ، حيث عانى بسبب ذلك الكثير ،إلاّ أنه أمكنه دائماً إنقاذ أعماله من المشاكل اليومية، ومن صروف الدهر ونوائبه ، وضنك الحياة ومكابداتها " . لم يفتأ العالمُ حتى اليوم يعمل على إكتشاف، وإستكناه، وإستغوار، وإستنباط، وتقييم أعمال ذلك المبدع الأرجنتيني صاحب البصيرة النافذة،والفكر الثاقب، والذي يذكّرنا عندما نقرأ له بالعديد من الأدباء، والفلاسفة، والمبدعين من فاقدي البصرالذين قهروا الظلام ،ولم يُحرَموا من نعمة البصيرة، والذين يحفل التاريخ الإنساني بأعمالهم، وإبداعاتهم التي لا حصر لها ..تقول كوداما : إنّ عفّة بورخيس وخفره وإحترامه للآخرين جعل أدبه يتّسم بالعمق والشفافية والصدق حيث جعل من أعماله الإبداعية بحثاً دائماً عن كنه الإنسان وماهيته، وقد أدخلت أعماله السّرور، والجذل ،والفضول، والمتعة، والتطلّع فى قلوب وعقول القرّاء فى مختلف أنحاء العالم على تفاوت أعمارهم ، وما يزال تأثيرها يتعاظم،ويتزايد على مرّالسنين ليس فقط فى اللغة الإسبانية التي كتب بها هذه الأعمال، بل فى مختلف اللغات التي نقل إليها هذا الأدب، وفي طليعتها اللغة العربية،وعليه فهو معاصر لنا ،وحاضر معنا إلى اليوم بإستمرار. *عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- (كولومبيا).