شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    الدورة الثانية للمعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب 2024.. مشاركة 340 عارضا وتوافد أزيد من 101 ألف زائر    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    "وزيعة نقابية" في امتحانات الصحة تجر وزير الصحة للمساءلة    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صَاحِبُ " الأَلِف" الذي أنارَ العَالَمَ وَهُو بَصِير..!
بقلم: محمّد محمّد الخطاّبي

فى الرابع عشر من شهر يونيو الفارط 2015 مرّت الذّكرى التاسعة والعشرون لرحيل الكاتب الأرجنتيني المعروف خورخي لويس بورخيس، أحد أقطاب الأدب الأمريكي اللاّتيني الكبار،الذي وُلد فى 24 أغسطس 1899 ، والمتوفّى عام 1986 عن سنٍ تناهز 87 سنة ،أكبر إحتفاء نُظّم فى إسبانيا لهذا الكاتب الفذّ كان قد أقيم ضمن أشغال، وفعاليات ندوة دولية إنعقدت بالعاصمة الإسبانية مدريد فى ذكرى رحيله قبل الأخيرة ، تحت عنوان "الكتاب مثل الكون" كانت أرملة الكاتب الرّاحل ماريا كوداما قد شاركت فيها بعرضٍ ضافٍ قامت خلالها بتحليل دقيق لعلاقة بورخيس الحميمية بالكتب والمكتبات، نظراً لمزاولته مهنة مدير للمكتبة الوطنية ببوينوس أيريس فى مقتبل عمره، كما سلّطت الأضواءَ على المعايشات التي تسنّى لزوجها من جرّائها خلق" عوالم مكتبيّة " فسيحة خاصة به فى العديد من أعماله حتى أصبح هذا الهاجس عنده رمزاً كلاسيكيّاً للثقافة المعاصرة، وتعرّضت كوداما (التي هى كذلك رئيسة "المؤسّسة الدولية خورخي لويس بورخيس") خلال هذه الندوة إلى مذكّراتها التي تفصح فيها عن حياتها الخاصّة مع بورخيس وسفرياتها معه، كما تتضمّن المذكّرات العديد من الأخبار، والأ سرار التي لم يسبق نشرها أو ذيوعها حول بورخيس من قبل .وتعتب كوداما فى كل مناسبة على النقّاد الذين تطاولوا أو تهجّموا عليها أو على زوجها بعد رحيله ، وقالت إنّ مذكّراتها تسلّط الأضواء على كل ما كان مبهماً ومجهولاً فى حياة بورخيس، ذلك أنّ العديد من الناس، والكتّاب، والنقاد قد نشروا غيرَ قليل من الأكاذيب والإفتراءات،والإدّعاءات، والمبالغات حوله. كما أكّدت ماريا كوداما فى هذا القبيل كذلك :" إنّ نشر هذه المذكّرات جاء نتيجة المعاناة التي كانت تشعر بها حيث سبّب لها كلّ ما نُشر حول بورخيس حزناً عميقاً،وقلقاً مفرطاً وصل بها حدّ الإكتئاب ، بل إنّ كلّ تلك الأكاذيب الملفّقة قد أصابتها بالدهشة، والشدوه من هؤلاء الذين يطلقون الكلام على عواهنه، حتى ولو لم يتعرّفوا قطّ على بورخيس ، على الرّغم من أنّ بورخيس لم ينظر قطّ بعين الإزدراء أو الإحتقار أو الإستصغار نحو أيّ كاتب أو أيّ عمل أدبي، بل إنّه كان يكنّ الإحترام للجميع، حتى وإن لم يتعاطف مع بعض هؤلاء الكتّاب الذين كان لا يتورّع من إنتقاد بعضهم ، ذلك أنّ النقد عنده كان يعني ضرباً من " اللّعب" نظراً لطبعه المرح الذي يميل إلى السّخرية والتسرّي، حيث كان يطبّق ذلك حتى على نفسه وأعماله".!.
إن خبا ضِياءُ العينِ فالرّأيُ ثاقبُ..!
تعرّضت ماريا كوداما على وجه الخصوص إلى المرحلة التي كان فيها بورخيس مديراً للمكتبة الوطنية فى العاصمة الأرحنتينيّة (بوينوس أيريس) وعلاقته الحميمية مع مكتبته الخاصّة، ومع الكتب بشكل عام ، فضلاً عن صلاته وآرائه حول العديد من المؤلفين والكتّاب أمثال "كيبلينغ"، "وايلد" ،"سيرفانتيس"، "كيبيدو" ،"شكسبير"،"شوبنهاور" وسواهم من الكتّاب، والمُبدعين الآخرين الذين كان بورخيس يبدي نوعاً من التعاطف معهم، والإعجاب بهم.
وأكّدت أرملة بورخيس أنّ زوجها ظلّ يقتني الكتب بنوعٍ من الهوس حتى بعد مرحلة إصابته بالعَمى، بل إنّه خلّد إسمَ المكتبة فى إحدى أشهر قصصه القصيرة وهي بعنوان "مكتبة بابل"، ولقد كتب العديد من النصوص عن الكتب،والكتّاب، والمكتبات طول حياته، وقد أشاد غيرُ قليل من النقّاد من مختلف بلدان العالم بإبداع هذا الكاتب الرّائع الذي بدأ حياته " كُتْبيّاً " بسيطاً ،وعلى الرّغم من عاهة العَمى التي أصابته فى شرخ عمره أمكنه أن ينير عوالمَ المُبصرين ،وأن يستضيئ القومُ به، وبأدبه وإبداعاته الوضّاءة . ويذكّرنا هذا الوصف بالبيت العربي الشهير لأبي عليٍّ البصير(الأعمى) الذي يقول فيه :
لئنْ كان يَهديني الغلامُ لوِجهتي / ويقتادني فى السّيرِ إذ أنا رَاكِبُ
فقد يستضيئ القومُ بي فى أمورهم / ويخبُو ضياءُ العينِ فالرّأيُ ثاقبُ.
وقالت ماريا كوداما :"إنّ بورخيس أشاد فى كتابه (المتآمرون) بطيبة الناس، وسجاياهم الفطرية، خاصّة بعد الفترة التي عاش فيها بجنيف التي أقام بها عندما إندلعت الحرب العالمية الأولى، وكان بورخيس يؤكّد أنّ هذا البلد كان مثالاً فريداً للإحترام،والتعايش، والتسامح لتعدّد اللغات التي يتحدّثها الناس به، وكثرة دياناته ، ففي هذا البلد تُحترم الفوارق دون مَحْوها أو العمل على إذابتها، لقد لمس بورخيس بنفسه فى هذا البلد كيف يحترم الناس اللاّجئين،والمُغتريبين حيث ترك ذلك فيه أثراً بليغاً.
كُتبٌ مُلتهبة
وكانت أرملة بورخيس ماريا كوداما قد صرّحت فى نفس السياق :" أنّ بورخيس لو كان على قيد الحياة اليوم لحظي بنفس التقدير الذي أولاه إيّاه قرّاؤه، والمعجبون به وبأدبه فى حياته، فبالإضافة إلى عبقريتة الإبداعية كان رجلًا وفيّاً لمبادئه ، مخلصاً لأفكاره.وتضيف كوداما : " إنّ هذا ناتج عن كون الناس يعترفون بجانب الصّدق فى إبداعاته الأدبي أو بالنسبة لمسيرة حياته".
فبورخيس تعرّض لهجوم عنيف لمناهضته للبيرونية،وقد حرموه من عمله الوظيفي خلال العهد البيروني، أي خلال حكم خوان دومينغو بيرون(1955-1945)، كما أنّ آراءه فى بينوتشيه قد جعلت الأكاديمية السويدية تحرمه كذلك من جائزة نوبل فى الآداب ، وهو الأديب العالمي الذي يحظى باحترام مختلف الأوساط الأدبية فى مختلف أنحاء المعمور . وتضيف كوداما : "هذه الصّراحة التي تميّز بها بورخيس حرمته من العديد من الفرص المماثلة".
تعرّفت كوداما على بورخيس فى سنّ المراهقة، إذ لم يكن عمرها يتجاوز الثالثة عشرة،ذلك أنّ أباها وهو كيماوي ياباني كان صديقاً للكاتب ، وعندما ماتت والدة بورخيس حلّت كوداما محلّها ، حيث تفرّغت إلى نسخ، وكتابة ما يمليه عليها بورخيس من أعمال أدبية حيث كان قد أصيب بالعمى منذ 1950 وصارت ترافقه فى رحلاته وسفرياته وتجواله .
وفى شهر أبريل 1985 تمّ زواج بورخيس بماريا كوداما حيث كان عمره 85 سنة، فى حين لم يكن عمرها يتجاوز الواحدة والأربعين، وفارق السنّ بينهما أفسح المجال للعديد من التعليقات من كلّ نوع ليس فقط من طرف الناس، أو الكتّاب أو النقّاد، بل حتى من طرف وسائل الإعلام ،إلاّ أنّ بورخيس وكوداما كانا يستقبلان هذه التهجّمات بنوع من الهدوء، واللاّمبالاة، والتهكّم وقد وقفا بالمرصاد لألسنة السّوء التي تحوّلت عند موت الكاتب إلى "كتب ملتهبة" حول العلاقة التي تجمع بينهما ، كما كانت هناك خلافات، ونزاعات بشأن إرث بورخيس، حيث ما فتئت الإنتقادات اللاّذعة ، والتهجّمات الشديدة توجّه إلى ماريا كوداما إلى اليوم من مختلف الجهات داخل بلدها الأرجنتين وخارجا .
توابع وزوابع بورخيّة
وتتميّز هذه المرأة التي لا تستقرّ بمكان ، والتي لم تفتأ تسافر من بلد إلى آخر بحماس متوقّد ونشاط متواصل وهي تلقي المحاضرات بدون إنقطاع حول أعمال زوجها الواسعة والغزيرة،بسحر خاص، وجاذبية لا تقاوم ،فبالإضافة إلى نشاطها ككاتبة ،فقد قامت بالإشراف التام على بناء حديقة فى بوينوس أيريس أطلق عليها " متاهات بورخية" حيث كانت قد تلقت "مؤسّسة بورخيس" فى شكل هدية تصميما لهذا المشروع المستوحى من أعمال بورخيس وهو من وضع "راندال كواطي"الذي كان يعمل دبلوماسياً لبريطانيا فى بوينوس أيريس، كما قامت ماريا كوداما بدون كلل بإجراء إتصالات مع بلدية العاصمة الأرجنتينية فى هذا الشان، وعملت بنشاط منقطع النظير على غرس الاشجار التي أحيطت " بمنتزه بورخيس" كما عملت أيضاً على إعداد، وتنظيم، ندوات كبيرة متعدّدة لعلماء اللغة الإسبانية سلطت فيها الأضواء على أعمال بورخيس الإبداعية والتي تمّ تنظيمها فى الأرجنتين وفى بعض بلدان أمريكا اللاتينية، وأوربّا، كما عملت على إصدار الأعمال الكاملة لبورخيس بعد أن أضيفت إليها جميع التعديلات والتنقيحات التي قام بها الكاتب نفسه قبيل رحيله. كما قامت مع العديد من الجهات التى تُعنى ببورخيس وبأعماله على إعداد مشاريع وأنشطة أدبية أخرى موازية كوضع باقات من الورود، والقصائد على واجهات السيارات فى مناسبات عيد ميلاد بورخيس الذي يصادف 24 أغسطس من كلّ عام . وتنظيم ندوات دراسية فى تواريخ متفاوتة،وأماكن مختلفةحول بورخيس وأدبه، بمشاركة العديد من الأساتذة الجامعيين، والباحثين، والمهتمّين، والمتتبّعين لأعمال هذا الكاتب الكبير .
وتشير كوداما أنّ هذه الأعمال من الأهمية بمكان بالنسبة للدارسين المتخصّصين فى بورخيس حيث سيتسنّى لهم الإطّلاع على الطريقة التي كان يعمل بها هذا الاديب الذي كان يشذب، ويهذب أعماله بدون إنقطاع بعناية فائقة كصانع محنّك،أو فنّان مُلهم .كما عملت كوداما فى العديد من المناسبات على تنظيم معارض لرسّامين مشهورين أرجنتينيين إستوحوا لوحاتهم من أعمال بورخيس، ومن توابعه وزوابعه، خاصّة قصيدته القمرية التي يحكي فيها قصّة وصول الإنسان إلى القمر، وتشير كوداما فى هذا الصدد: "إنني أتذكّر جيّداً حماس بورخيس وفضوله من اليوم الأوّل لوصول الإنسان إلى القمر، حيث رأيناه بواسطة التلفزيون ، كان بورخيس يبدو كالطفل حيال هذا الحدث، "وتضيف" :"إنني أقول رأينا لأنه كان عليّ أن أحكي له أدقَّ التفاصيل،والجزئيات عمّا كان يجري فى الشاشة الصغيرة".
على زورقٍ من ورق
وتشير أرملة صاحب "الألف" :" لقد صنّفوا بورخيس كسيد فيكتوري، يتحدّث عن متاهات، ونُمر، ومرايا، إلاّ أنه كان شخصاً لطيفاً خفيفَ الرّوح ومغامراً."وتضيف": كانت أمنيته وحلمه أن يعيش فى زورق من ورق البردى ،أومركب مصنوع من خشب بمجرى غياب نهر التامسيس، إلاّ أنه عندما تزوّجها جعلته يتخلّى عن هذه الفكرة بعد أن حدّثته عن المخاطر التي قد تعتريها، كما أنه كان يستقبل العديدَ من الكتّاب، والنقاد، والطلبة، والمعجبين به.
وتشير الناقدة "فيكتوريا أسوردوي" إلى أنّ غاية كوداما من نشاطها المتواصل على رأس مؤسّسة بورخيس هي الإستمرار فى إعلاء الشّعار الذي سبق أن رفعته وتبنّته منذ رحيل زوجها، وهو إخلاصها الدائم لهذا الرّجل الذي لا تفتأ تصفه فى كل مناسبة بأنه كان ذا حساسية مفرطة ، حيث عانى بسبب ذلك الكثير ،إلاّ أنه أمكنه دائماً إنقاذ أعماله من المشاكل اليومية و من صروف الدهر والحياة" . لم يفتأ العالمُ حتى اليوم يعمل على إكتشاف، وإستكناه، وإستغوار، وإستنباط، وتقييم أعمال ذلك المبدع الأرجنتيني الذي حُرم نعمة البصر ولكنّه وُهب بالمقابل ببصيرة نافذة ثاقبة ، والذي يذكّرنا عندما نقرأ له ببشّار، والمعرّي، وأبي عليّ البصير، وطه حسين،ويوسف الدجوى، وإبراهيم الإيباري، ومحمد المعداوي، ومحمد حسنين البولاقي (والد أحمد حسنين باشا) وسواهم.تقول كوداما : إنّ عفّة بورخيس وخفره وإحترامه للآخرين جعل أدبه يتّسم بالعمق والشفافية والصدق حيث جعل من هذه الأعمال بحثاً دائماً عن كنه الإنسان وماهيته، وقد أدخلت هذه الاعمال السّرور والفضول، والمتعة والتطلّع فى قلوب وعقول القرّاء فى مختلف أنحاء العالم على تفاوت أعمارهم ، وما يزال تأثيرها يتعاظم على مرّالسنين ليس فقط فى اللغة الإسبانية التي كتب بها هذه الأعمال، بل فى مختلف اللغات التي نقل إليها هذا الأدب وفي مقدّمتها اللغة العربية.
آخر تقديم لبُورخيس
ما هي آخر الكلمات التي أملاها الكاتب خورخي لويس بورخيس قبيل وفاته فى جنيف؟ لقد كان الجواب عن هذا السؤال حتى الآن سرّاً محفوظاً من طرف أرملة الكاتب الراحل ماريا كوداما. إلاّ أنّ مطبوعاً تحت عنوان " آخر تقديم لبورخيس" كان قد صدر فى بوينوس أيريس أثار جدالاً حادّاً بين قرّاء بورخيس ،ونقاده، والمعجبين به.
بادرت ماريا كوداما على إثر ذلك إلى توجيه مجموعة من الرّسائل إلى مختلف الجرائد والمجلات الارجنتينية توضّح فيها ما يلي:"أريد ان أنبّه القرّاء إلى مدى الزّيف الذي ينطوي عليه هذا العنوان:"آخر تقديم لبورخيس" إذ حسب أرملة الكاتب فإنّ آخر تمهيد أو تقديم كان قد كتبه الكاتب هو المتعلق بالطبعة الفرنسية لأعماله الكاملة ضمن السلسلة "بليار"عن دار النشر الفرنسية المعروفة "غاليمار".
وتؤكّد كوداما أنّ بورخيس كان قد أملى عليها هذا التقديم ،إلا أنه لم يتمكّن من إنهائه وإتمامه ، وتضيف كوداما:"إن ناشر هذه الأعمال الكاملة وهو الفرنسي "جان بيير بيرنيس" شرح كيف أنّ هذا هو بالفعل آخر تقديم كتبه بورخيس فى حياته، والذي ظهر أو أدرج فيما بعد ضمن الأعمال الكاملة إياها.لماذا إذن وكيف ظهر النصّ الأرجنتيني الذي سبّب فى إثارة هذا النقاش بين النقاد، والمثقفين، والمعجبين، والمتخصصين فى بورخيس ؟ الواقع أنّ هذا الكتاب يضمّ 11 قصة لبورخيس وفى التقديم المختصر الذي وضعه لهذا الكتاب يشير أنّ 9 من الأعمال المُدرجة فى هذا الكتاب هي من أجمل منتقيات إنتاجه الأدبي، و من ثمّ تشكّ ماريا كوداما بالتالي فى صحّة ومصداقية هذا التقديم الذي يشير بورخيس فيه: "لقد خامرني الشكّ ذات يوم بكون الأعمال الكاملة إنمّا هي خطأ ذو أصل تجاري أو إحترافي، فأيّ رجل له الحقّ فى أن يستمع إلى حكم النقاد حول أنصع صفحاته ، وليس فقط حول تسليات وشطحات قلمه أو رسائله العرضية، إنّني أريد أن أتصوّر أحكام النقاد حول النصوص التسعة بالذات الموالية وليس حول صدى تلك القصص فى الذاكرة".
صفحاتٌ طالها النّسيان
قال بورخيس :
ليس من حقّ أحدٍ
أن ينتقصَ بالدّموع أوالعتاب
من شأن هذا الإعتراف البارع
بالتفوّق والمهارة
حيث منحني الله
بسخريةٍ رائعة
وفى الوقت ذاته
الكتبَ والليلَ..! *
عيّن بورخيس عام 1955- كما أكّدت ذلك ماريا كوداما- مديرا للمكتبة الوطنية لبوينوس أيريس ،كان هذا المنصب حلم يراوده فى تلك الأيام ،ومن غريب الصّدف ومفارقات الأقدار أنّ إثنين من الكتّاب المرموقين فى الأرجنتين تولّيا كذلك هذا المنصب ،وكانا هما الآخران قد فقدا النظر مثل بورخيس وهما "خوسيه مارمول"و"بول غروساك". وقد عمل بورخيس على إعادة إصدار مجلة "المكتبة" التي كان قد أنشأها "غروساك". كان بورخيس كُتْبيّاً عاشقاً للكتب ،وقد ظهر ذلك جيّداً فى مختلف أعماله وإبداعاته ، وقد كتب بضعة فقرات كتقديم للمجلة المذكورة ، والواقع أنّ ما كتبه بورخيس فى هذا التقديم ظلّ صفحة مجهولة أو منسيّة للكاتب الأرجنتيني العالمي. وقد عنون بورخيس هذه الصفحة ب "النوايا"، وعلى الرّغم من قصرها فإنّ القارئ واجد فيها مميّزات هذا الكاتب ، بل لابدّ أنه سوف يشمّ فيها ما أبرزته أعماله الأدبية من قيم، وأفكار،ومواضيع، إذ تترى فيها معاني النسيان ،الخلود، الأحلام، المجد، جلال الآداب القديمة ،الشّرف، الكرامة،الصّبر،هندسة المعمار، الفلسفة،وبالجملة يجد فيها القارئ نموذجاً رائعاً " للأسلوب البورخي" المميّزالذي أصبح شعاراً للآداب الإسبانية المعاصرة.
من جملة ما جاء فى هذا التقديم :"المكتبة لا حدود لها ،إنّها مطاوعة ، كريمة ،معطاء ،تعلّمُ الصّبرَ، وتلقّنُ الأناة،إنها تضمّ وتحفظ جميع الكتب ،إن أيّ كتاب فى يوم مّا قد يكون نافعاً، وذا جدوى لأحد،وقد يجد فيه القارئ ما ليس نافعاً، ولا مجدياً له، تسعى المكتبة بأن تصبح جميع الكتب، بمعنى آخر تسعى بأن تصبح كلّ الماضي دون تنقية أو تصفية أو تبسيط النسيان. المكتبة مثل الكون،بل إنّها الكون ذاته بكلّ معارفه ،وقوانينه ،ونواميسه ،وأنظمته،أمّا المجلة بخلاف المكتبة فهي ذات نزعة إنسانية ، وهي معرّضة للإطراء والخلافات ، ذلك أنها تمثّل وتقدّم المكتبة، لذا فهي تثير الفضول مثل هذه الأخيرة،بل إنها ليست أقلّ منها تجانساً وتغايراً،إنها دائرة المعارف وجميع العلوم وليس التاريخ وحده ، ذلك أننا نعرف اليوم أنّ التاريخ ليس بعيداً عن شحذ السّيوف القديمة والنصوص الجيّدة ، وهو ليس أمراً مصنوعاً أو جاهزاً بل إنّه يصنع فى الأحلام وفى جنح الليل . فى مرحلتها الثانية تتطلّع هذه المجلّة بألاّ تكون مصدر حنق لمؤسّسها الأوّل "بول غروساك" ولا للأزمان العسيرة الصّعبة التي قيّض الله لها أن تعيش فيها كلّ مجلّة ، كما أنّ كلّ كتاب إنمّا هو حوار"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.