بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الغر الميامين ومن تبعهم ووالهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد كانت الأمة الإسلامية ولا زالت أمة متفردة في منهجها متميزة في قيمها ومبادئها لا تروم ذات اليمين ولا ذات الشمال وإنما منهجها منهج الحق الذي لا يسايره شك أو ريب أو بهتان ، وذلك لاتصالها بالشريعة الغراء التي جاء بها محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، فكل أعمال وأفعال أفراد أمة الإسلام موزونة بنظر الشرع الحكيم فلا تقوم بعمل إلا وهي عارفة لمقاصده وأهدافه وغاياته مدركة لمعانيه ودلائله ، فإن كان عملا مخالفا لما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام مجانبا لمنهجه ودينه تخلت عنه الأمة دون الالتفات إليه ، وإن كان موافقا للشرع ومقاصده أخذت به وعملت عليه . فمعرفة الأعمال والأفعال والعادات والتقاليد وإدراك معانيها ومقاصدها رهين بمدى تمسك الأمة بشرع الله وحضوره في واقعها ، فإن كانت الأمة قوية في إتباعها وتمسكها بالدين كانت الأعمال والعادات المخالفة للشرع قليلة بل نادرة الوجود ، وإن كان تمسكها بالدين ضعيفا كانت مزاولتها لتلك الأعمال والعادات أمرا مبالغا فيه. ومن العادات التي طفت مؤخرا على أمة الإسلام وانتشرت انتشارا واسعا في أعيادها واحتفالاتها ومناسباتها – كما فعل بعض الإخوة في المولد النبوي غفر الله لهم – وهي حمل الشموع بعد إشعالها والطواف بها . ومن حق الإنسان المسلم أن يسأل عن هذا الفعل ونظر الشرع له ، وعن أصله ومقصده ودلالته وهل قام بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم أو أصحابه أو تابعيهم ؟ وما نظر علمائنا الكرام لهذه العادة ؟ وتحليل هذه العادة ومعرفة أصلها ومقاصدها ودلالتها يستدعي بنا أن نعالج المسألة معالجة شاملة – على حسب الاستطاعة والجهد – فالشمعة : لغة : جاء في مختار الصحاح :[ الشَّمَعُ بفتحتين : الذي يُسْتَصْبَحُ به ، قال الفراء :"هذا كلام العرب والمولدون يسكنونه" – قال بن سيده بعد نقله لكلام الفراء :"وقد غلط لأن الشَّمَع والشَّمْع لغتان فصيحتان" – والشَّمَعَةُ : أخص منه ، والمَشْمَعَةُ : بوزن المَتْرَبة : اللعب والمزاح ، وفي الحديث :"من تَتَبَّعَ المَشْمَعَةَ أصاره الله إلى حالة يُعْبَثُ به فيها" – لم نجده في ما بين أيدينا من المصادر والذي يظهر لي أنه من وضع الشيعة والله أعلم - أي من عبث بالناس] ( ص:146) . وجاء في القاموس :[ الشَّمَعُ : محركة وتسكين الميم مولد ، هذا الذي يستصبح به أو موم – أي شمع – العسل ، وعبد الله بن العباس بن جبريل وعثمان بن محمد بن جبريل ومحمد بن بركة وأحمد بن محمود البغدادي الشَّمْعِيُّون : محدثون ، هكذا ينطقون به ساكنة والصواب تحريكه ، وشَمَعَ كمنع شَمْعاً وشُموعا ومشمعة لعب ومزح ، ومسك مشموع : مخلوط بالعنبر ، وشمعون الصفا أخو يوسف عليهما السلام ، وأشْمَعَ السراج : سطع نوره ، وأشمع الثوب : غمسه في الشمع المذاب ] ( 734-735 ) [ والمُشَمْعَلُ : الناقة النشيطة كالشَّمْعَل والشَّمْعَلَة والرجل الخفيف الظريف أو الطويل ، وشَمْعَلَةُ اليهود : قرائتهم ] ( 1021 ). وشمعون بن يزيد بن خناقة أبو ريحانة الأزدي حليف الأنصار صحابي جليل . واصطلاحا : هي وسيلة للإنارة ، قديمة جدا لم تفقد أهميتها مع مرور الزمن ، وهي عبارة عن عمود من الشمع يمر في وسطه خيط قطني ، وعند إشعال الخيط تأخذ النار بإذابة الشمع من حول الخيط وإضاءة المكان ، الأمر الذي يبطئ من عملية إحراق الخيط بشكل سريع فيتم الاستفادة من شعلة النار أكثر وقت ممكن . وتصنع الشموع بطرق وأشكال وألوان مختلفة حيث يضاف للشمع في بعض الأحيان مواد معطرة تضفي على ما حولها برائحة زكية عند ذوبان الشمع . وينقل لنا التاريخ جرائم عديدة نفذت بواسطة الشموع حيث أضيفت سموم خاصة مع الشمع ينفذ بسمه إلى الشخص المراد اغتياله وذلك عن طريق شم رائحة السم المذاب مع الشمع . وتعد الشمعة أحد معايير قياس شدة الإنارة ورمزها "قند" أي "القنديلة" وهي الشمعة ، وتعريفها العلمي :"مقدار الطاقة المبعوثة من مصدر ضوئي في اتجاه معين من الأمواج الكهرطيسية بمجال معين بحيث تستطيع العين البشرية رؤيته". ولما كانت الشمعة لا تضيء إلا مكانا صغيرا من حولها كانت الاستعانة بأكثر من شمعة أمرا ملحا وضروريا ، لكن الإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يحمل بيديه أكثر من ثلاث شمعات فتم صنع آلة حديدية بسيطة تحمل أكثر من أربع شمعات تسمى "الشمعدان" وتنوع عبر التاريخ شكلها والمعدن الذي تصنع منه فبعضها يصنع من الكرستال أو الفضة أو من الذهب . والشمعدان من أقدم وأهم الرموز الدينية المقدسة لدى الشعب اليهودي والتي تعني لهم الكثير من القيم الدينية ، ويحظى الشمعدان عندهم باهتمام بالغ ، فلا يخلو بيت من بيوت اليهود من شمعدان أو صورته أو نقشه وكذلك في مبانيهم العامة ، وجاء ذكر الشمعدان في كتبهم الدينية المكتوبة باللغة العبرية باسم "Menorah" أما النسخ العربية فيعرف باسم "المنارة" ، وللشمعدان ثلاثة أنواع فهناك السداسي والسباعي والتساعي – أي ذو الأغصان التسعة – لكن المعتمد والمنتشر عندهم هو الشمعدان السباعي ، وكانوا قد استعملوا الشمعدان السداسي لفترة من الزمان وذلك بسبب الاعتقاد الذي تنامى لديهم بعد تدمير الهيكل وهو أنه لا يجوز إعادة صنع الأشياء المماثلة التي دمرت مع دمار الهيكل ، وبسبب ذلك استعاضوا بصنع الشمعدان السداسي واستعملوه بدلا من السباعي لكنهم سرعان ما تركوا السداسي وعادوا إلى السباعي ، وفي عصرنا الحاضر يستخدمون الكهرباء في إضاءته بعكس القديم الذي كانوا يستخدمون الزيت في إضاءته ، أما الشمعدان التساعي فيستخدمونه في عيد الشموع أو عيد الإهداء "Chanukah" كتذكار على نجاح الثورة المكابية ضد الرومان التي قادها "المكابي بن ماتاتيا" ويذكر التاريخ اليهودي هذا الحدث باسم "خانوخاه" أو عيد تدشين المعبد. وفي عيد الشموع يضيئون الشمعدان التساعي لمدة أيام العيد الثمانية ، فالقيمة الدينية عندهم للشمعدان التساعي تتمثل في هذا العيد وهو أقل تعظيما عندهم من الشمعدان السباعي الذي يرمز لأمة إسرائيل في كونها قدوة للسلام ونورا يضئ للأمم حسب زعمهم الباطل . وباختصار فالشمعدان الذي يشار إليه عندهم والمعني بالنبوءات هو السباعي أي ذو الأغصان السبعة . وتستعمل صورة الشمعدان التساعي في الاجتماعات السياسية للحكومة الصهيونية حيث توضع في المنصة الرئيسية في صالة الاجتماع . ويشاع عند اليهود أن الضوء الذي رآه سيدنا موسى في جبل سيناء هو صورة الشمعدان وأن الله أمره أن يصنع واحدة مثلها ( واحرص أن يكون كل ما تصنعه مطابقا للمثال الذي أظهرته لك على الجبل ) ( سفر الخروج 40 : 25 ) ( أما المنارة فكانت مطروقة من ذهب هي وساقها وزهرها وفقا للمثال الذي أراه الرب لموسى ) ( سفر العدد 4 : 5 ) . ويحمل اليهود الشموع في مناسباتهم وفي العديد من أعيادهم كعيد المظال وعيد الفصح وعيد الأسابيع وعيد الكفارة وعيد التكريس وعيد الغفران وعيد النصيب وغيرها كثير إحياء لذكرى القيصر "تيتوس" ( 49 : 81 م ) الذي حمل الشمعدان عام 70 بعد الميلاد إثر عودته من الحرب ظافرا منتصرا إلى روما . (كتاب الحرب اليهودية 6/388 ) . وهو الآن رمز رسمي لدولة إسرائيل ( المجلس اليهودي الأمريكي ) . أما النصارى فدلالة حمل الشموع عندهم وفاء للمسيح المخلص الذي هو محرر الأمم كلها بعد عيد الظهور للرعاة وللمجوس الملوك وكذلك تعبيرا عن طهارة مريم العذراء ، ويتبركون بها في الكنائس ليلة العيد بعد نهاية صلاة المساء لكي توزع في صباح العيد على المؤمنين كما يزعمون ويقولون في صلاتهم :"بارك يا رب هذه الشموع واجعل بها نعمتك الفائضة اصنعها مجرى القداسة ينبوع الطهارة شفاء الأمراض والأوجاع ..."( كتاب المعدعدان ، رتب الأعياد الكنسية ) ويضعون على قوالب الحلوى ثلاث شمعات في الحفلات الرسمية أما في أعياد ميلاد أبنائهم فإن عدد الشموع تكون على قالب الحلوى بعدد سنوات من يراد الاحتفال بعيد ميلاده . وهذا الأمر معتقد نصراني كما هو معتقد بوذي ، وعند البوذيين في أكبر معابدهم في نيبال حيث منشأ البوذية ومعقلها أن اعتقاد إشعال ثلاث شمعات يرمز إلى حرية بوذا التي قتل بها الوحوش في الأدغال ، أما عند النصارى فإن الشموع الثلاث التي تتصدر الموائد والمناسبات فإنما هو رمز لمعتقد راسخ في ديانتهم وهو معتقد التثليث ( الأب ، الإبن ، الروح القدس ) ، ويأتي وضع الشموع وتقديمها كقرابيين في المعابد عند هاتين الملتين كجزء من المعتقد الديني للقربات التي تقدم للإلهة التي يميلون إليها ورمز لطرد الشرور ، ولذا كانت صناعة الشموع والاتجار فيها بجوار المعابد البوذية والكنائس النصرانية وغيرها تحظى بازدهار كبير . ( مجلة البحوث الإسلامية 58/250 ) . ولم يشع عند العرب حملهم للشموع أو رواجها عندهم بل شاع عندهم استخدام السراج ، بل إن عمر بن الخطاب أخذ على نصارى الشام شرطا بالامتناع عن إشعال الشموع فوق المقابر وفي المعابد أو ما يسمى بسرج القبور والمعابد ، وقد طلب أهل الجزيرة من عبد الرحمن بن غنم حينما قدم بلادهم الأمان لأنفسهم ولأهل ملتهم بشروط عديدة من ضمنها عدم إشعال الشموع والخروج بها في تجمعاتهم أو ما يسمونه ب"باعوث" [ فعن عبد الله بن الإمام أحمد قال : حدثني أبو شرحبيل الحمصي عيسى بن خالد قال : حدثني عمي أو اليمان وأبو المغيرة قالا : أخبرنا إسماعيل بن عياش قال : حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا : كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم : إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا : 9 – وألا نخرج باعوثا ( الباعوث يوم يخرجون فيه كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر ) ولا شعانيين ( هي إشعال الشموع في يوم باعوث ، وقد نبه ابن كثير في تاريخه إلى أن الشعانيين هي الشموع التي تتخذ في الكنائس والمعابد ) فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه عمر أن أمض لهم ما سألوا وألحق فيهم حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم ألا يشتروا من سبايانا شيئا ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده. فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط. ]( والشروط مبسوطة في كتاب أحكام أهل الذمة لابن القيم 2/114-115 ) . ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حمل شمعة في عيد أو غزوة أو غير ذلك من أسفاره عليه أفضل الصلاة والسلام بل لم يأت في أحاديثه صحيحها وضعيفها ذكر للفظ "الشمعة" ، وكذلك أصحابه رضوان الله عليهم . وأول من أدخل السراج للمسجد النبوي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم هو تميم الداري فلما وجد النبي صلى الله عليه وسلم المسجد مضاء قال له :"نورت علينا نور الله عليك في الدنيا والآخرة أما إنه لو كانت لي بنت لزوجتكها" وحمل بعض الإخوة للشموع في تظاهراتهم ومسيراتهم وفي احتفالهم بالمولد النبوي وإخراج نسائهم وأطفالهم ليلا دليل على قلة العلم عندهم وندرة العلماء بينهم ، فإن صاحب العلم لا يتشبه بيهودي أو نصراني في عقيدته وعاداته والعالم لا يرشد لذلك . ومخالفة اليهودي والنصارى في عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم أولى منها بمخالفتهم في لباسهم وطريقة مشيهم . والواضح من خلال ما سبق أن دلالة حمل الشموع في الاحتفالات وغيرها من المناسبات لا يخرج عن التالي : 1 – إحياء لذكرى نجاح الثورة المكابية اليهودية ضد الرومان عام 165 قبل الميلاد . 2 – وفاء لذكرى القيصر تيتوس وانتصاره على الرومان وحمله للشمعدان بعد انتصاره . 3 – وفاء للمسيح المخلص بتحريره للأمم كلها من الخطايا والذنوب والآثام . 4 – تعبيرا عن طهارة مريم العذراء . 5 – اشعال ثلاث شمعات إحياء لبوذا وشجاعته في قتل الوحوش الثلاثة في عقيدة البوذيين . 6 – إشعال ثلاث شمعات تأكيد لعقيدة التثليث عن النصارى وهي ( الأب ، الإبن ، الروح القدس ) . 7 – شكر الإلهة على طرد الشرور والأرواح الشريرة . وبعد تبيان ما سبق لا يظهر أي سبب شرعي وعقلي يدفع بالمسلم إلى حمل الشموع في احتفالاته والطواف بها في تجمعاته . والجدير بالذكر هنا أننا لا نتعرض في مقالنا هذا لعملية إشعال الشموع حين انقطاع التيار الكهربائي عنا فإن ذلك أمر يتطلبه الواقع وزوال ظلمة المكان بإشعال الشموع لغرض الإستفادة من نورها ولا شيء في ذلك . إنما نتكلم عن عادة إشعال الشموع والطواف بها في مسيرات لا لانقطاع التيار الكهربائي أو دفعا لظلمة البلاد وإنما إحياء لحفل أو تخليدا لذكرى فهو المقصود بمقالنا هذا. فاللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين