الشارع الذي يحوي معالم تاريخية، فيه من المقاهي، والمطاعم الحديثة، وطيب الجلسة، ما يسحر الزائر، فضلاً عن أنه شهد أحدث ثورة في تاريخ البلاد عام 2011 أطاحت بنظام زين العابدين. مجرد الدخول إلى شارع "بورقيبة" بالعاصمة تونس، يغمرك إحساس عارم بأن صفحات التاريخ تتقلب أمامك، فيكفي أن تحتسي رشفات من الشاي الأخضر بالنعناع في أحد المقاهي المتراصة على جانبي المكان، بينما العصافير الساكنة في الأشجار تشدو من حولك، تتصفح فيما مرّ من هناك. فإذا عدت إلى التسمية، فالشارع كان يُسمى ب"البحرية" خلال فترة الاستعمار الفرنسي (1881- 1956)، ثم تحول اسمه عام 1900 إلى "جول فيري"، ومن ثم إلى "بورقيبة" نسبة للرئيس الحبيب بورقيبة، الذي قاد بلاده نحو الاستقلال، وأصبح عام 1957رئيساً للبلاد، لمدة ثلاثين عاماً، إلى أن تمت الإطاحة به من قبل وزيره الأول آنذاك، زين العابدين بن علي، في 1987، قبل أن يتوفى عام 2000. يمتد الشارع على مسافة نحو 1500 متر، من قوس "باب بحر" غرباً، إلى محطة تونس البحرية للقطارات المتجهة إلى الضواحي الشمالية للعاصمة شرقاً، وتلتقي معه العديد من الشوارع الرئيسية كروما، والجزائر، وباريس، ومرسيليا، والقاهرة، واليونان، وقرطاج، ومحمد الخامس، وجمال عبد الناصر، وابن خلدون. وإذا ما بحثت في معالمه، ستجدها كثيرة بارزة، فهناك تمثال المؤرخ وعالم الاجتماع، عبد الرحمن بن خلدون التونسي، الذي أنجز منتصف السبعينات، في ساحة "الاستقلال"، إلى جانب المسرح البلدي الذي اُفتتح سنة 1902، وكان يسمى ب"كازينو تونس". وأُعيد ترميم ذلك المسرح عدة مرات كان آخرها عام 2001، في إطار الاحتفال بمئويته، ودائماً يكون المكان على موعد مع عروض مسرحية وفنية تجذب محبي هذا اللون من السائحين وأبناء البلد. معالم الشارع لا تنتهي عند ذلك، فهناك أيضاً "كاتدرائية تونس" التي تُعتبر من أقدم تلك المعالم، أنشأها الكاردينال الفرنسي لافيجيري، في 7 نوفمبر/تشرين ثان 1881. كذلك تلك البناية الأقدم من الكاتدرائية، والمُطلة على ساحة "الاستقلال"، وهي مقر السفارة الفرنسية، التي تم البدء في بنائها عام 1859 بمبادرة القنصل ليون روش، وانتهت أعمال البناء بعد عامين، لتصبح فيما بعد مقراً للمقيم العام الفرنسي الحاكم الفعلي للبلاد. تنتقل بنفسك من ذلك التاريخ القديم كله، لتجد نفسك عند الأمس القريب، عندما استيقظ العالم يوم 14 يناير 2011، على حناجر التونسيين تصدح "ارحل" وسط شارع "بروقيبة"، مطالبة بإسقاط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، الذي سرعان ما رحل. العصافير الساكنة في أعشاشها بالأشجار الممتدة على طول جانبي الشارع، تجعل من الصعب الابتعاد عن هذا المكان دون الجلوس في أحد المقاهي لاحتساء فنجان من القهوة، أو الشاي بالنعناع مصحوباً بأنواع مختلفة من المكسرات كاللوز والبندق، ودون الدخول إلى مطعم لاختيار وجبة إفطار أو غذاء أو عشاء بمذاق محلي وعالمي. كما لا تفوتك فرصة مشاهدة أحدث الأفلام في دور السينما المنشرة في المكان. المنصف بوشوشة (68 عاماً)، الذي يعمل في ورشة للخياطة، بالقرب من الشارع، يقول للأناضول إنه يعرف الكثير عن الملامح التي كانت تميز شارع "الحبيب بورقيبة" قبل الاستقلال، منها محطة تونس البحرية التي تنطلق منها القطارات نحو المناطق السياحية، كالمرسي، وسيدي بوسعيد، وحلق الوادي، وقرطاج وغيرها من الضواحي. قبل الاستقلال لم تكن في الشارع، مراكز تجارية كبيرة، باستثناء مركز "الكوليزي" الذي كان يضم بعض المقاهي الفاخرة، وزوراه فقط من الطبقة الغنية، بحسب بوشوشة الذي ذكر أن ستة عائلات كبرى كانت تقطن الشارع كعائلة عبد الجليل، والمسعي، وبوشوشة، والقانونجي. و يرى هذا الرجل أن شارع "بورقيبة" لعب دوراً كبيراً في إسقاط نظام بن علي، عام 2011، ويقول: "أتذكر يوم 14 جانفي (يناير) من ذلك العام، كيف غصّ هذا الشارع بالمتظاهرين، وأطلقوا ذلك الشعار الشهير "ارحل ".. هذا الشارع كان له دور مميز في إنجاح الثورة، وهو روح البلاد وقلبها، كما مصر أم الدنيا، وسوريا قلب الأمة العربية". بدوره يقول لسعد الورتاني، وهو موظف بوزارة التربية، إن هذا الشارع "أصبح رمزاً للحرية، بالنسبة لكل التونسيين"، مضيفاً بأنه "يوحد التونسيين بمختلف شرائحهم من فقراء وأغنياء". ويستطرد: "شارع الحبيب بورقيبة هو شارع تونس بامتياز، يأتيه الناس من مختلف المناطق من الأحياء الشعبية والراقية، إما للتسوق أو السياحة أو للمشاركة في التظاهرات السياسية والثقافية التي تقام بشكل دائم هنا". وعلى امتداد السنة، تُقام في الشارع، تظاهرات ثقافية، ومهرجانات موسيقية، كما تتخذ الأحزاب السياسية، والمنظمات والجمعيات من المكان، ساحة للترويج لأنشطتها وفعالياتها. ويقول حمادي دبيش (52 سنة)، موظف في إحدى الشركات الخاصة، للأناضول إنه يمر منذ سنوات بشكل دائم من المكان الذي عرف تطوراً كبيراً خلال السنوات الأخيرة. ويشير دبيش إلى أن الشارع "لم يكن على هذه الشاكلة، فالبنايات، والهندسة المعمارية تغيرت كثيراً، وأصبحت ملامح الشارع أكثر جمالاً بعد غرس الأشجار، وترميم بعض الطرقات القريبة منه". * وكالة أنباء الأناضول