شكل غياب تحكيم موازين العقل والشرع في الحب والبغض، والجمود على حرفية الأقوال والأفعال سمتين بارزتين لاتجاه ظهر في عالم التشيع وهو "الاتجاه الإخباري"، وقد امتاز المنتسبون إليه بالشدة على المخالفين،بالعمل على قطع كل أشكال التواصل مع "العامة"،ويرون أنفسهم الأكثر تمسكا بما كان عليه"الأئمة"،ولذلك لم يروا حاجة للاجتهاد أصلا،ولا يزال أنصار الاتجاه المذكور يخوضون معارك حامية الوطيس، حقيقية في بعض الأحيان، ووهمية أحيانا كثيرة، تكتسي خطورتها من المس بوحدة كيان المسلمين وسلامته، عندما يصبح التكفير – الذي لا يسلم منه حتى المنتمون إلى مذهب المكفر- الأداة المفضلة لإكساب تلك المعارك الشرعية،مما يتطلب التنبيه على جوانب من التفكير "الإخباري" ،وعلى جوانب من الجهود التصحيحية التي قام بها بعض العلماء الشيعة لدحض "مقالات الإخباريين". الإخباريون الشيعة: سد جميع أبواب التواصل مع"العامة"
ظهرت المدرسة الإخبارية وتكونت بفعل الانتشار والذيوع الذي لقيته أفكار و"اجتهادات" الشيخ محمد أمين بن محمد بن شريف الأسترابادي الذي استوطن إيران ثم هجرها في مطلع القرن الحادي عشر الهجري إلى النجف حيث تلقى علوم الفقه وأصوله وعلوم الحديث، ليستقر به المطاف أخيرا بالمدينة المنورة، ومنها طلع على الناس بآرائه ومقالاته التي أثارت جدالا واسعا في الأوساط العلمية الشيعية ،وذلك في كتابه الموسوم ب"الفوائد المدنية في الرد على من قال بالاجتهاد والتقليد أي اتباع الظن في نفس الأحكام الإلهية"، ووافته المنية سن ثلاث وثلاثين وألف للهجرة (1033 ه).[1]
وليس اسم (الإخبارية) جديدا أو متأخرا، إذ ورد ذكره عند بعض العلماء الفرق القدامى، وإنما أكسبه الأسترابادي "باجتهاداته" معاني ودلالات جديدة، فالإمام الشهرستاني عندما تحدث عن الفرق التي تفرعت إليها الشيعة يقول عن الإمامية: "وصارت الإمامية بعضها معتزلة، إما وعيدية وإما تفضيلية، وبعضها إخبارية إما مشبهة وإما سلفية"،[2] وينقل التهانوي في (كشاف اصطلاحات الفنون) هذا القول ويزيده شرحا فيقول: "ثم متأخروا الإمامية اختلفوا وتشعبوا إما إلى وعيدية أو تفضيلية، وإلى إخبارية يعتقدون ظاهر ما وردت به الأخبار المتشابهة، وهؤلاء ينقسمون إلى مشبهة يجرون المتشابهات على أن المراد بها ظواهرها، وسلفية يعتقدون أن ما أراد الله بها حق بلا شبهة كما عليه السلف، وإلى ملتحقة بالفرق الضالة"،[3] وهذا الأسلوب من التعامل مع الأخبار المتشابهة جعل الأستاذ مرتضى المطهري يشبه الإخباريين من الشيعة بالظاهريين وأصحاب الحديث من أهل السنة.[4]
ويفرق أسد الله الكاظمي بين الإخباريين بالمعنى القديم والإخباريين بالمعنى الجديد، فالإخباريون بالمعنى الأول هم المحدثون والمؤرخون "وقد يخص الإخباري بالمستقل بالتواريخ وما شاكلها، ويقابل بالمحدث وهو المشتغل بالسنة النبوية (...) ومنهم طوائف تسمى بالظاهرية والحشوية على اختلاف طرقهم وأحوالهم، وكان جميعهم موجودين في الخاصة والعامة"،[5] أما بالمعنى الثاني فالإخباريون هم الذين يعزون إلى محمد الأمين الاسترابادي ويأخذون باجتهاداته، ويسميهم الكاظمي "الإخبارية الحادثة".[6]
ولاحظ الأمير أرسلان (1869 م- 1946 م) انقسام الشيعة – في زمانه- إلى ثلاثة أقسام: إخبارية، ومجتهدية، وشيخية،[7] وأفاد أن للشيخية صلة بكثير من مبادئ الإخبارية، وإن كانت تناصبها العداء وتنتقدها لتلقيها المرويات والأخبار بالقبول دون تمحيص، أما المجتهدية – أو المدرسة الأصولية- فهم الذين نهضوا بمهمة تصحيح الفكر الإسلامي الشيعي، نظرا لما علق به من سلبيات التفكير الإخباري، وكان أكثر المجتهدين الأصوليين من طبقة القضاء ومأموري الإدارة الذين يشتغلون بالعمل أكثر من النظر،[8] الشيء الذي يعني أن أفكارهم أتت نتيجة أبحاث ميدانية تتعامل وتتفاعل مع المستجدات في حركة الواقع وحياة المسلمين، مما يسر لها مواكبة حركة الاجتهاد والتطور، هذه المواكبة لا تيسرها البحوث المكتبية.
لم يكن الاسترأبادي ولا من وافقه من الإخباريين[9] يرون للعالم في غيبة الإمام الثاني عشر الحكم بالعقل والاجتهاد على ما خلفه الأئمة من أخبار ومرويات لأن الصواب "أن كل ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة عليه دلالة قطعية من قبله تعالى حتى أرش الخدش...وأنه لا سبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام الشرعية النظرية أصلية كانت أو فرعية إلا السماع من الصادقين عليهم السلام"،[10] ولأن تحكيم العقل هو "أصل الاختلافات الواقعة بين علماء الشيعة في أصول الدين وفي الفروع الفقهية"،[11]
ومن ثم صار الاسترأبادي إلى إنكار الاجتهاد مطلقا لأن قدماء الأخباريين ومنهم- حسبه- الكليني وابن بابويه القمي أوردوا نصوصا "صريحة في حرمة الاجتهاد والتقليد وفي وجوب التمسك بروايات العترة الطاهرة"[12]،وتلك النصوص أيضا"متضمنة لقواعد قطعية تسد مسد الخيالات العقلية المذكورة في الكتب الأصولية،والاعتبارات المذكورة في كتب فن دراية الحديث"[13] ،وأولئك القدماء" لم يعتمدوا في فتاواهم وأحكامهم إلا على دلالات واضحة صارت قطعية بمعونة القرائن الحالية أو المقالية،وتلك القرائن وافرة في كلام أهل البيت عليهم السلام لا في كتاب الله ،ولا في ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وآله"[14] وينسب الاسترأبادي إلى الأئمة القول بوجوب التوقف والاحتياط عند انعدام الدلالات القطعية[15].
أما الصحيح الذي يفيد القطع من الروايات فيعطيه الاسترابادي معنى مغايرا تماما لا يعطيه له المتأخرون ويقصد الأصوليين،فهو"ما علم علما قطعيا وروده عن المعصوم ولو كان من باب التقية"[16] ،
وبناء على كل ما ذكره الاسترأبادي اتهم الإخباريون الأصوليين المجتهدين أن الذي حملهم على القول بحجية الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، هو أنسهم بكتب المخالفين وإطلاعهم عليها،فتقسيم الأصولي الشيعي للحديث إلى صحيح وحسن وموثق سببه"ألفة ذهنه بما في كتب العامة"[17] ،ولا يجوز الأخذ بالإجماع لأنه"من معظم تدابير العامة"[18]،ولذلك يجب" سد الأبواب التي فتحتها العامة للاستنباطات الظنية الاستحسانية"[19]،والراجح عندي أن المراد بالعامة هنا هم "أهل السنة"،وبذلك يظهر هذا الإصرار العجيب من الإخباريين القدامى والمعاصرين على قطع جميع أواصر العلاقة مع أهل السنة،ولا عجب إن كانت هذه الشدة على المخالفين لم يسلم منها حتى الذين يشتركون مع الإخباريين في الانتماء لنفس المذهب،فالاسترأبادي يحمل الأصوليين مسؤولية تخريب الدين ،يقول:"وبالجملة وقع تخريب الدين مرتين:يوم توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم،ومرة يوم أجريت القواعد الأصولية والاصطلاحات التي ذكرتها العامة في الكتب الأصولية وفي كتب دراية الحديث في أحكامنا وأحاديثنا"[20]،وتنصب جل تقريعات واتهامات الاسترأبادي على محمد بن إدريس الحلي،فهو الذي " لفق بين طريقة العامة وطريقة أصحاب العصمة"[21] ولذلك"التبست طريق الحق بالباطل،واشتبهت واستصعبت بعد أن كانت منفصلة عنه ممتازة في زمن الأخباريين من أصحابنا"[22]،وبلغ الاسترأبادي شأوا بعيدا في الشدة على مخالفيه فاعتقد"أن إمام الزمان ناموس العصر والأوان ساخط على جمع من أصحابنا الذين اعتمدوا على غير نصوصهم(نصوص الأئمة) في بعض فتاويهم عموما،وعلى المستعجل الجسور محمد بن إدريس خصوصا"[23].
والأخطر من كل ما سبق هو اعتقاد الإخباريين بأن الرجوع إلى القرآن مقتصر على زمان الأئمة، لأنهم هم الذين يعلمون تأويله وتفسيره، فيكفي عند غيابهم الرجوع إلى السنة والحديث لأن القرآن قد تعرض للتحريف.[24]
وبغرض الرد على ما تقدم ذكره من مقالات الإخباريين،ألف بعض علماء الشيعة مصنفات كثيرة منها:
1- مقابيس الأنوار في الرد على أهل الأخبار للشيخ المفيد.[25]
2- الفوائد المكية في مداحض حجج الخيالات المدنية ونقض أدلة الإخبارية لنور الدين العاملي، وقد رد بهذا الكتاب على كتاب (الفوائد المدنية) للاسترابادي.[26]
3- أساس الأصول لعلي الكهنوي.[27]
4- مطارق الحق واليقين لكسر معاول الشياطين لنظام الدين حسين.[28]
5- الحق المبين في تصويب المجتهدين وتخطئة الإخباريين للشيخ جعفر كاشف الغطاء.[29]
6- الآلىء البهية في الرد على الطائفة الغوية أعني الإخبارية للشيخ محمد بن إسماعيل المازندراني.[30]
هذه المصنفات وأمثالها عززت جهود التصحيح داخل المذهب،مما نتج عنه انتصار المدرسة"الأصولية" التي أدارت ردودها التصحيحية على المدرسة"الإخبارية" على محورين اثنين:
المحور الأول:توطيد أهمية العقل والاجتهاد في البحث الفقهي والأصولي:
لقد نقم الكثيرون من الشيعة على الاسترأبادي مزاجه الحاد وشدة طعنه على مخالفيه من العلماء إذ يقول: "إن بضاعتهم في العلوم قليلة، وبينهم وبين تحقيق المباحث الغامضة الدينية والأصولية بون بعيد، وقال: هيهات هيهات أين الثريا من الثرى، وقال أيضا: وللحروب رجال وللثريد رجال، وكل ميسر لما خلق له"،[31] فاشتد الكاظمي في الرد عليه فقال: "فلينظر إلى هذا الجاهل المفسد المتهتك المتجرئ على ما هو فسق بإجماع المسلمين، بل على ما هو من أعظم المعاصي عند العارفين، وليتدبر كيف ابتلي به الدين وأهله وأساطينه ودعائمه، وكيف خفي أمره على كثير ممن أتى بعده حتى اعتنوا بنقل أقواله وآرائه وعباراته في كتبهم، مع أنه من سوء فهمه وغباوته في كتبه لا يكاد يدرك البديهيات فضلا عن النظريات، وهذا لمن تأمل كتبه من أوضح الواضحات".[32]،ونسبه نور الدين العاملي (في كتابه"الفوائد المكية في مداحض حجج الخيالات المدنية") إلى "الغرور والاعتقاد في النفس زيادة الفضل والكمال"[33] ونسبه أيضا إلى"غلبة الهوى وحب الرياسة"[34] .
وتتابعت الردود العلمية على الاسترأبادي والإخباريين من جملة من العلماء منهم:
أولا:نور الدين العاملي بكتاب كامل سماه"الفوائد المكية في مداحض حجج الخيالات المدنية" ،فعمل على نقض المتمسك العام الذي يتشبت به الإخباريون وهو "موافقة العامة" إذ "ليس يلزم أن كل ما اعتبره المخالفون من أصول وفروع لا يكون معتبرا عندنا،لأن العلوم مشتركة،وما فيه الخلاف بين ظاهر لا موافقة لنا فيه،فأي محذور في مشاركتهم في المسائل التي لا خلاف بيننا وبينهم فيها"[35].
ثانيا:أسد الله الكاظمي:انبرى لدحض مقولة إفادة الأخبار التي رواها الكليني والقمي والطوسي للقطع،ودحض نسبة الاسترأبادي هؤلاء إلى الإخباريين وأنه بريئون من تلك النسبة،[36] فالكليني ذكر في أول كتب الكافي كتاب العقل والجهل، فيروي فيه عن محمد بن علي الباقر قال: لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك أثيب".[37]
أما ابن بابويه القمي فله "نحو من ثلاثمائة مصنف، وكلها جيدة ومفيدة معتمدة، ومن تأملها بعين البصيرة لم يشك في أنه لم يكن من الإخبارية الحادثة التي عزيت إليه في شيء"،[38] وأما الشيخ الطوسي "فمن تأمل مصنفاته في أصول الفقه وفروعه، وكتبه في تفسير القرأن وجمع الأخبار المروية في الأحكام، وجد كل ورقة من الأولى، بل ومن الأخرى أيضا تنادي بأعلى صوتها بتبريه مما عزي إليه".[39]
ويلزم- حسب الكاظمي- من القول بقطعية دلالات الأخبار المروية عن الأئمة "كون العلماء والرواة معصومين، أو جواز كون الأئمة مثلهم في ظهور الوثاقة المقتضي للاعتماد عليهم فيما ينقلونه عن النبي – صلى الله عليه وسلم-- وكذا النبي فيما ينقله عن الملك، وفي ذلك بطلان مذهب الإمامية كما هو ظاهر"،[40] ووافقه الشيخ علي الخاقاني (ت 1334 ه) إذ أداه النظر في الكتب الأربعة[41] إلى إبطال القول بقطعية صحة الأحاديث الواردة فيها "بل غلبة ما تدل عليه الظن والوثوق في الجملة".[42]
ويعزى أعظم الفضل في مقاومة المدرسة الإخبارية إلى الشيخ وحيد البهبهاني[43] والشيخ مرتضى الأنصاري (1214 ه- 1281 ه) فالأول كان يلقي دروسه على الطلاب بكربلاء، وبها أيضا كان للمحدث البحراني[44] الإخباري حلقة درس، وانتهى الصراع بين منهجيهما إلى انتصار الشيخ البهبهاني، حتى أن عددا من تلاميذ البحراني قد انصرفوا عنه إلى حلقة البهبهاني.[45]
وأما الشيخ مرتضى الأنصاري فقد ضمن نظراته النقدية للإخباريين في كتابه (فرائد الأصول) الذي ظل لسنين طويلة – وما يزال- المعين الذي يستقي منه الدرس الأصولي مادته في الحوازات العلمية، وخلص من تلك النظرات إلى إثبات "دلالة الأخبار الكثيرة على حجية العقل (...) وعلى كونه حجة باطنة، وعلى أنه ما يعبد به الرحمن، ويكتسب به الجنان"،[46] بذلك كتب الانتصار للمدرسة الأصولية على الاتجاه الإخباري الذي اعتبره الأستاذ مرتضى المطهري "فاجعة أليمة في عالم التشيع"،[47] وشكلا من أشكال فصل التعقل عن التدين.[48]
لكن بقايا التفكير والمنهج الإخباري ظلت موجودة – بدرجات متفاوتة- وممثلة في تيار التحجر والجمود، وخصوم التجديد في أوساط المجتمع، وأروقة الجامعات، وفي رحاب الحوزات العلمية، فاعتبرت – لذلك- مواجهة علماء الشيعة المجتهدين لهذا التيار استمرارا وتكملة لمواجهة المدرسة الإخبارية.
ويعرض علينا الشهيد مرتضى المطهري صورة لذلك الجمود فيقول: "لقد ارتأى المرحوم آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي – أعلى الله مقامه- مؤسس الحوزة العلمية في قم أن يطلب من عدد من الطلبة تعلم اللغات الأجنبية أو بعض العلوم كمقدمات لكي يستطيعوا عرض الإسلام على الطبقات المثقفة الجديدة، ولكن ما إن انتشر الخبر حتى جاء جماعات من العامة وأشباه العامة من طهران إلى قم، وقالوا: إن هذه الأموال التي يدفعها الناس باسم سهم الإمام، لا يقصد بها أن تصرف لتعلم الطلبة لغة الكفار".[49]
ويمهد الأستاذ المطهري لحملته على تيار الجمود بدراسة سياسية ونفسية قيمة للخوارج، لاعتقاده أن "مذهبهم وإن يكن قد انقرض إلا أن روحه ظلت باقية وحلت في الكثيرين"[50] فعرض لسماتهم المتمثلة في استماتتهم في الدفاع عما يعتقدونه حقا، مع زهد وحرص على العبادة إلا أنه غلب عليهم الجفاء والتحجر، والجمود الفكري والغرور، ويعيب المطهري على جامدي هذا العصر عدم اقتدائهم بالخوارج في الصدع بالحق، ولكنهم اقتدوا بهم في التعصب واتباع المظاهر، ولاحظ وجود مدارس فقهية قامت وانتشرت حازت الكثير من صفات الخوارج، وعد من تلك المدارس المدرسة الإخبارية[51] ،ويبرز نظرة المقلدة الجامدين إلى الآخرين فيقول: "فيزعمون أن الجميع لا يفهمون جيدا، أو لا يفهمون إطلاقا، وإنهم قد تجنبوا طريق الصواب فأصبحوا جميعا من أهل النار"،[52] وينعتهم بالخوارج الجبناء "الذين تركوا السيوف في أغمادها وتخلوا عن فكرة تقصد رجال السلطة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنها كانت خطرا عليهم، ولكنهم راحو يسلقون رجال الفضل والفضيلة بألسنة حداد"،[53] ويؤكد "أننا لو أخذنا بأقوال هؤلاء لما وجدنا بين أظهرنا أي عالم إسلامي حقيقي"[54] ويشاركه هذا الرأي الشيخ محمد الغزالي عند حديثه عن أقوام من أهل السنة يريدون - بدعوى الدفاع عن عقيدة السلف- أن يجعلوا الإسلام "بلا تاريخ علمي ولا مفكرين كبار"،[55] مما يعني اشتراك تياري الجمود والتحجر عند الشيعة وأهل السنة في كثير من السمات والصفات.
وقد كان الخميني قد ضاق ذرعا بهم قبل الثورة وأثناءها وبعدها، فقال في البيان الذي وجهه إلى العلماء ومراجع التقليد والحوازات العلمية بتاريخ 22/ 2/ 1989 م: "وما هو بالضئيل خطر المتحجرين والحمقى من المتظاهرين بالقدسية في الحوازات العلمية، فلا يغفل الأعزاء طلبة العلوم الدينية ولا للحظة عن هذه الأفاعي ذات الظاهر المغري والخداع، فهؤلاء هم مروجو الإسلام الأمريكي، وأعداء رسول الله – صلى الله عليه وسلم - (...) وما قطعته هذه الفئة المتحجرة من نياط قلب أبيكم الشيخ هذا، لم تستطع أبدا أن تقطعه كل ضغوط الآخرين والمشاق التي سببوها، وعندما فعل شعار فصل الدين عن الدولة فعله وراج وانتشر،[56] وحينها أصبح التفقه في منطق الجهلة هو الإنغماس في الأحكام الفرعية والعبادية، وعندما لم يعد يحق للفقيه – تبعا لذلك- الخروج عن هذه الدائرة وأسرها، والتدخل في شؤون السياسة والحكم (...) عندما سار هذا المنطق أصبحت معاشرة الناس تعد حماقة كبرى بالنسبة لعالم الدين، وعلى حد زعم بعضهم فإن عالم الدين يكون جديرا بالاحترام والتكريم عندما يكون غارقا في الحمق بشكل كلي (...) وكان تعلم اللغات الأجنبية يعد كفرا، ودراسة الفلسفة والعرفان تعد شركا (...) وإنني على يقين من أنه لو كتب لهذا التيار الاستمرار لأصبح وضع الحوازات العلمية وعلمائها كوضع كنائس القرون الوسطى".[57]
يدل مجموع هذه النعوت والأوصاف التي أثبتها الإمام الخميني لتيار الجمود على رفض هذا الأخير لكل تجديد أو تصحيح، فلا تجديد في الإيمان إذ ينطوي أصحابه (أي التيار) على تدين مغشوش يحتفل بالأشكال والمظاهر على حساب الروح واللباب، ولا تصحيح في الفهم إذ يعيق تطوير مناهج التعليم والتدريس، ويعيب على الفقهاء اهتمامهم بالسياسة، من هنا انتقل العلماء – بعد اندحار المدرسة الإخبارية للرد على تيار الجمود – إلى الخطوة الثانية من التصحيح المتمثلة في تثبيت الفعالية السياسية للعلماء، وهو تصحيح تم داخل المدرسة الأصولية نفسها، إذ ظل علماؤها لمدة طويلة عازفين عن طلب السلطة السياسية، إلى أن شرع الخميني في أوائل الستينيات من هذا القرن في إلقاء دروسه حول الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه.[58]
المحور الثاني:تثبيت الفعالية السياسية للعلماء
كان التيار الغالب في صفوف الفقهاء الشيعة هو التيار الذي اعتزل الممارسة السياسية وتفرغ لشؤون العلم والتعليم والإفتاء، هذا الموقف الحيادي قابله موقف الإخباريين السلبي من السلطة، فكانوا أداة طيعة في أيدي الحكام الصفويين،[59] هؤلاء الذين تم في عهدهم إغراق التشيع في طوفان من البدع،[60] وإذكاء الصراع السياسي والمذهبي مع أهل السنة في شخص الدولة العثمانية.
وقد أثمرت جهود إعادة الفعالية السياسية للعلماء نجاح الثورة في أكبر تجمع للشيعة في العالم (إيران)، الخميني احتج لقوله بوجوب سعي الفقهاء إلى تشكيل الحكومة الإسلامية بأدلة عقلية ونقلية.
فمن الأدلة العقلية:[61]
1- ثبوت الحاجة إلى سلطة تنفيذية، ولا يكفي تفصيل الأحكام والقوانين لإصلاح المجتمع.
2- تبث في التاريخ إنشاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لدولة قائمة الأركان.
3- أحكام الإسلام في المال والدفاع والجهاد والإدارة كلها تستوجب تشكيل الحكومة الإسلامية.
4- ديمومة أحكام الدين وعدم اقتصارها على زمن معين.
5- تشكيل الحكومة الإسلامية أقصر الطريق إلى تحقيق الوحدة الإسلامية.
ومن الأدلة النقلية:
1- قول الله عز وجل: ﴿إن الله يأمركم أن تودوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾،[62] فأبرز أن القصد من الأمانة الإمامة، وأن الخطاب موجه إلى من يمسكون بأيديهم أزمة الأمور، وليس مقتصرا على القضاة.[63]
2- قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "العلماء ورثة الأنبياء"[64] فعلق عليه قائلا: "فإذا أخذنا بهذه الجملة كنا على يقين من أن جميع شؤون رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قابلة للانتقال والوراثة، ومن جملتها الإمارة على الناس وتولي أمورهم".[65]
3- مقبولة عمر بن حنظلة:يروي الكليني بن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله (جعفر الصادق) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممن روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما، قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا واختلفا فيما حكما؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر"،[66] والشاهد عند الخميني في النص "أن المنصب الذي منحه الأئمة للفقهاء لا يزال محفوظا لهم، لأن الأئمة كانوا على علم بأن هذا المنصب لا يزول عن الفقهاء من بعدهم بمجرد وفاتهم".[67]
وهكذا جد الإمام الخميني في حشد الأدلة والحجج لنظرية "ولاية الفقيه" التي أعادت الفعالية السياسية للعلماء والفقهاء، وشكلت تجديدا وتصحيحا مهما على صعيد العقل السياسي الشيعي في عصور "الغيبة".[68]
وإن كان من شيء مهم بقي لم تمتد له يد التصحيح فهو الإصرار على لوك مقالات الرفض وسب الصحابة من المهاجرين الأولين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهو(أي الرفض) ما يأزم العلاقة مع أهل السنة، ولم تستطع المدرسة الأصولية اقتلاعه حتى الآن،ولعل الفتوى الأخيرة لقائد الثورة الإسلامية الإيرانية،التي تحظر التعرض بالسب أو الشتم لرموز أهل السنة تمثل خطوة مهمة في الاتجاه التصحيحي الصحيح.
الهوامش
1. انظر: رضا كحالة، معجم المؤلفين، 9/ 79.
2. الشهراستاني، الملل والنحل، 1/ 166.
3. التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، 1/ 133.
4. انظر: مرتضى المطهري، الإمام علي في قوتيه الجاذبة والدافعة، ص: 183
5. الكاظمي، كشف القناع، ص: 202.
6. المصدر نفسه، ص: 209.
7. انظر شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي، 1/ 180.
8. انظر، المصدر نفسه، 1/ 181- 182.
9. منهم نعمة الله الجزائري (1050 ه- 1112 ه)، ويوسف بن أحمد البحراني (1107 ه- 1186 ه)، ومحمد بن الحسن الحر العاملي (1033 ه- 1104 ه)، صاحب كتاب "تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة".
10. محمد أمين الاسترأبادي، الفوائد المدنية، ص: 104
11. انظر المصدر نفسه.
12. الفوائد المدنية ص91
13. المصدر نفسه ص 92
14. المصدرنفسه
15. المصدر نفسه
16. م.ن ص 109
17. الفوائد المدنية ص 173
18. م.ن 267
19. م.ن ص 265
20. م.ن ص 369
21. م.ن ص 273
22. نفسه
23. نفسه ص 91
24. انظر مرتضى المطهري، مبدأ الاجتهاد في الإسلام، ص: 31- 32.
25. انظر: الكاظمي، كشف القناع، ص: 203.
26. انظر: إحسان إلهي ظهير، الشيعة والتشيع، ص: 324- 325.
27. انظر: المصدر نفسه
28. انظر: المصدر نفسه
29. انظر هدية العارفين، 1/ 256.
30. انظر المصدر نفسه، 2/ 353.
31. نفسه ص 359
32. المصدر نفسه.
33. الفوائد المكية(بهامش الفوائد المدنية) ص 28.
34. نفسه ص 44
35. نفسه ص 38
36. المصدر نفسه، ص: 207 وما بعدها.
37. الكليني، أصول الكافي، كتاب العقل والجهل، 1/ 10.
38. الكاظمي، كشف القناع، ص: 209.
39. المصدر نفسه، ص: 207.
40. الكاظمي، كشف القناع، ص: 209.
41. الكتب الأربعة: هي الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه لابن بابويه القمي، والتهذيب والاستبصار وكلاهما لمحمد بن الحسن الطوسي.
42. علي الخاقاني، الرجال، ص: 81.
43. هو محمد باقر بن محمد أكمل الأصبهاني الفارسي الشهير بالشيعي نزيل كربلاء توفي سنة 1208 ه انظر هدية العارفين، 2/ 350.
44. جاء عنه في هدية العارفين: "يوسف بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني من جزيرة البحرين في بحر فارس، من علماء الشيعة الإمامية، نزيل كربلاء، ولد سنة 1107 هوتوفي سنة 1186 ه، وصنف من الكتب المدارك في فقه الشيعة، والحدائق الناضرة في الفقه، هدية العارفين 2/ 569.
45. مرتضى المطهري، الاجتهاد في الإسلام، ص: 16.
46. غلام علي المحمدي، دروس في المسائل، ص: 80
47. مرتضى المطهري، مبدأ الاجتهاد في الإسلام، ص: 30.
48. انظر: مرتضى المطهري، الإمام علي في قوتيه الجاذبة والدافعة، ص: 183 (الهامش).
49. مرتضى المطهري، الاجتهاد في الإسلام، ص: 65- 66، وقد وقع ما يشبه هذه الحادث عند متحجري أهل السنة، يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله "وجرح نفسي أن سمعت في إحدى الإذاعات: إن تعلم اللغات الأخرى يجوز للضرورة، هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية... قلت: إن ابن تيمية ليس جاهلا ليقول هذا الكلام"، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص: 14.
50. مرتضى المطهري، الإمام علي، ص: 141.
51. انظر مرتضى المطهري، الاجتهاد في الإسلام، ص: 65- 66.
52. مرتضى المطهري، الإمام علي في قوتيه، ص: 170.
53. المصدر نفسه، ص: 172.
54. المصدر نفسه.
55. محمد الغزالي، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص: 86.
56. إذا كان الإمام الخميني يلاحظ أن الفكر العلماني وتيار الجمود والتحجر يلتقيان في التصور، فإن عالما من علماء أهل السنة وهو الدكتور محمد سعيد رضمان اليوطي يبرز كيف عمل الفكر اليساري على استغلال ظهور تيار سلفي متحجر لإثبات أطروحاته المادية، فوجد في ظهور هذا التيار ما يزكي مقولته في وجوب ظهور التناقض في كل مجتمع بين أنصار القديم والجديد، انظر السلفية، مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي، ص: 247 وما بعدها.
57. الإمام الخميني، البيان التاريخي، في: محسن أجنبي، الالتقاط الفكري والتحجر العقائدي، ص: 109- 110، طهران منظمة الإعلام، ط.1. 1992م.
58. انظر: د.كليم الصديقي، عمليات الخطأ والانحراف والتصحيح والإلتقاء في الفكر السياسي الإسلامي، ص: 5-6.
59. انظر: د.كليم صديقي، عمليات الخطأ، ص: 10.
60. انظر: د.موسى الموسوي، الشيعة والتصحيح، ص: 9، وما بعدها.
61. انظر المصدر نفسه، ص: 23 وما بعدها.
62. النساء: 57.
63. الخميني، الحكومة الإسلامية، ص: 81.
64. الكليني، الكافي، كتاب فضل العلم، باب صفة العلم وفضل العلماء، 1/ 32. ورواه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب العلم قبل القول، 1/ 45.
65. الخميني، الحكومة الإسلامية، ص: 97- 98.
66. الكليني، أصول الكافي، 1/ 67- 68.
67. الخميني، الحكومة الإسلامية، 1/ 67- 68.
68. إن نظرية ولاية الفقيه على التفصيل الذي أورده الإمام الخميني، والقائل بولاية الفقيه العامة والشاملة للحسبة والقضاء والفتوى والحكم، قد أثارت نقاشا واسعا بين علماء ومراجع التقليد الشيعة، فلم تحظ بالقبول من جميعهم، فعمن انتقدها: المرجع الكبير آية الله شريعتمداري، الذي اعترض على انفراد شخص واحد أو طبقة واحدة بالحكم. (انظر" د.محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، ص: 227)، وعلى إثر صدور كتاب (الحكومة الإسلامية) للخميني أصدر الشيخ محمد جواد مغنية كتابه (الخميني والدولة الإسلامية) رد فيه الرأي القائل بالولاية العامة للفقيه، وأكد على أن ما ورد به الإجماع من علماء الإمامية هو القول بالولاية الخاصة المقتصرة على الفتوى والقضاء والاوقاف العامة وأموال الغائب وفاقد الأهلية مع عدم الولاية الشخصية وإرث من لاوارث له، ولم ير من شرط الحكومة الإسلامية أن يتولاها الفقهاء، (انظر: محمد جواد مغنية، الخميني والدولة الإسلامية، ص: 60 ومل بعدها).