أصدرت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني مذكرة رقم 15- 075بتاريخ 16 يوليو 2015، التي اصطلحت عليها بإجراءات استثنائية لتدبير إعادة التوجيه إلى الجذوع المشتركة المهنية برسم 2015/2016. داعية من خلالها إلى اعتماد مختلف أشكال التعبئة، الإعلامية خاصة، وذلك باتجاز حملة إعلامية مكتفة مع بداية الموسم الدراسي الجديد في صفوف تلاميذ مختلف الجذوع المشتركة وأولياءهم للتعريف بالجذوع المشتركة المهنية المتوفرة بالجهة وبآفاقها. طبعا هذه الدعوة ما هي إلا تتمة للمذكرة 15-62 وللمذكرة 14- 091 اللتين تحددان طبيعة هذا التكوين ومسالكه، نظام الدراسة وآفاقها، مجزوءاته ومواده الدراسية، مع توضيح تقنيات التوجيه ومعاييره، بل وحتى مرجعيات التقويم. ربما يبدو الأمر عاديا. لكن العين الناقدة، بمعنى البناء لا الهدم، تستوقفها بعض التساؤلات حول هذا المولود الجديد الذي سيتوطن في النظام التربوي بشكل موسع ابتداء من الموسم الدراسي القادم. ومن بين الأسئلة التي يولدها تأمل الموضوع ما يلي : ما حدود التزام مقتضيات البكالوريا المهنية بالرؤية الاستراتيجية لا صلاح التربية والتكوين : 2030- 2015 ؟ وما هي المعضلات التي تلو ح في الأفق ؟ ما يحير المتتبع هو كثرة الاهتمام الذي أولته الوزارة لهذا المولود الجديد، البكالوريا المهنية. وبالفعل، فالحيرة مشروعة مادمنا نعلم أن الوزارة لم تقم بنفس الإجراء في التعريف بالبكالوريا الدولية. هذه الأخيرة التي لا يلجها، في الثانوي التأهيلي بالتعليم العمومي إلا الحاصلون على معدلات جيدة ومرتفعة، أي المتميزون، لأن عدد المقاعد جد محدود. علما أن الوزارة الوصية شجعت التعليم الخصوصي لاحتضان نفس التكوين. وهذا ما سيفتح المجال لغير المحظوظين لولوج التعليم العمومي، بالتوجه إلى نفس المسلك بالطريق الخصوصي. وهذا يظهر من خلال إقبال الآسر، حتى ذات الدخل المحدود، بإيجاد مقعد لأبناءها في تلك المؤسسات. طبعا لا نتطبق نفس الملاحظة على الإقبال على البكالوريا الدولية. والدليل هو دعوة الوزارة للإقبال على هذا المنتوج، علما أننا نعلم، من خلال أدبيات الإشهار والتواصل، أن كل الإشعار لمنتوج جديد بشكل مكثف رغبة في استمالة الزبون للإقبال عليه واستهلاكه، يطرح شكوكا حوله : جودته وفائدته، منافعه ومضاره. ونفس الشيء ينطبق على ولوج البكالوريا الدولية إلى السوق البيداغوجبة المغربية. فرغم إحراز البضاعة على التأشيرة الحكومية، فإنها لم تنل حظها من الإقبال، كما الشان بالنسبة للبكالوريا الدولية. ويمكن أن تفسير هذه الظاهرة، ظاهرة عدم الإقبال، بالملاحظات التالية : مبرر ثقافي – تاريخي : المعلوم أن المغاربة يستبد بوجدانهم شعور قديم وحكم تاريخي على التكوين المهني بصفة عامة، خاصة بالنسبة لليافعين. ففي سنوات الثمانينات لم يكن يلج هذا التكوين إلا الراسبون في الحصول على شهادة الدروس الإعدادية، بالنسبة لبعض المهن المرتبطة بالصناعة والخدمات، والفاشلون في التفوق في الانتقال إلى المستوى الإعدادي. أو غير الناجحون في الشهادة الابتدائية، هؤلاء الذين كانوا يتوجهون إلى مجال الصناعة التقليدية. طبعا تغيرت الرؤية ابتداء من التسعينات، خاصة بإحداث شعب التأهيل المهني التي تتطلب على الأقل مستوى البكالوريا. فمع كثرة المتخرجين من التعليم العمومي العام، أو ما يعرف ببطالة خريجي الجامعة، حيث تكتف الإقبال على مؤسسات التكوين المهني، حتى للحاصلين على البكالوريا. علما أن المؤسسات المستقبلة نوعت من عروض التكوين خاصة الصناعي، الإعلامي والخدماتي. لكن آفاق هذا التكوين ظلت مغلقة بالنسبة للعديد من لصحاب شواهد التكوين والتأهيل المهني. فلا القطاع العام ولا الخاص احتضن هؤلاء، إذ مباشرة بعد التداريب يتم لفظهم إلى الفضاء العمومي ليخذوا مصيرهم بأيديهم. هنا يمكن الكشف من موطن أول خلل، فالتكوين والتأهيل المهني جمع بين معضلتين، الأولى ترسخت في عقلية ووجدان المغاربة، وهي التصغير من قيمة مؤسسات التكوين المهني والتي لا يلجها إلا غير المتفوقون أو كل من سدت في وجوههم باقي الأبواب. وهذا الحكم منقوش تاريخيا عند المغاربة، بوعي أو بدونه. أما المعضلة الثانية فمرتبطة بكون هذا القطاع غير منتج، أو على الأقل ليس له أفق مضمون، فخريجوه إما يواجهون البطالة أو يستغلون من طرف أرباب المقاولات والفنادق والمطاعم، ويشتغلون بدون حقوق وابخس الآثمان. كل هذا يفسر على الإقبال على هذا المنتوج، فتاريخه معروف. فكيف يمكن للوزارة أن تغير هذا الاعتقاد ؟ وما هي حجيتها في ذلك ؟ وهل من أدلة ملموسة للأقماع غير المعود من أساليب الكلام المنمق والمعسول ؟ 2 – الزواج الأبيض : ظل قطاع التكوين المهني بالمغرب متمتعا بكامل استقلاليته، في موارده البشرية وبنياته وتدبيره وميزانيته، غبر تعاقب السياسات العمومية، وفي سنة 2000 تم اقتراح إلحاقه بالتربية الوطنية, هذا ما تضمنته بعض المرتكزات النابتة للميثاق الوطني للتربية والتكوين. وذلك كإجراء يمكن من التنويع بين طرق التعليم والتعلم واعتماد التعليم بالتناوب والتعليم بالتمرس. لكن هذا الإلحاق ظل مؤجلا حتى النسخة الثانية لهذه الحكومة، حيث ظهرت لأول مرة تسمية جديدة للوزارة الوصية وهي : " وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني "، بل واحدث منصب وزير منتدب يفترض أن يهتم بالتكوين المهني. هذا الإجراء يبدو صحيا مادام عمل على ترجمة إحدى ركائز إصلاح منظومة التربية والتكوين. هذا الطموح الذي أحيته الرؤية الاستراتيجية 2030-2015 ، والتي تبناها المجلس الأعلى للتربية والتكوين كما جاء في تقريره . لكن رغم هذه الإجراءات، فإن عميلة الاقتران والربط والزواج بين قطاعين ظلا منفصلين لأمد بعيد تبين أن ثمة عوائق مسكوت عنها في الربط بين التربية والتكوين المهني. وهذا ما سينعكس سلبا على الحياة الطبيعية لتطور ونجاح البكالوريا المهنية. وهذه بعض الأمثلة , - تكوين هجين : يتبين من خلال المذكرات المنظمة للبكالوريا المهنية، أن التعليم بالتناوب سيتم مع المؤسسات المهنية الشريكة، وهذا كا ظهر من خلال توقيع اتفاقيات مع عدد من الشركاء؛ في السياحة والفلاحة ... علما أن مؤسسات التكوين المهني لها الاستقلالية المادية والمعنوية، وهي لا تخضع لوزارة التربية الوطنية إلا في التسمية ففظ. وهذا ما يطرح عدة استفهامات حول مشروعية التسمية ذاتها. إذ كيف تسمي وزارة نفسها بهذا الاسم، وليس لها فيه أي دخل إلا بالشراكة ؟ الظاهر أن هذا المشكل ينعكس سلبا على طبيعة التكوين، ويجعله هجينا، أشبه بكائن يمشي برأسين، وهذا هذا مشكل التدريب، فالمتكون بمراكز التكوين يجد صعوبات في توفير للتكوين مناسب وفيه كرامة إنسانية، فالغالبية العظمى من المتدربين يعانون من استغلال أصحاب المقاولات والمهن الحرة. يضاف إلى ذلك مشكل الموارد البشرية في مراكز التكوين المهني : قلتها أو كون الكثير منها يشتغلون عن طريق التعاقد. تراجعات خطيرة : تولد نظرة سرعة على مكونات الباكالوؤيا المهنية نوع من الدهشة لدرجة القرف، فالبرنامج الدراسي يتصف بعدة نقائص وعيوب، تناقض التوجه العام للسياسة العمومية المغربية، بل وتغرد خارج سرب إصلاح المنظومة التربوية المغربية بما فيها الرؤية الاستراتيجية 2030-2015، ويمكن رصد هذه الاختلافات في العناصر التالية : أ – هزال التكوين بالتمرس وبالتناوب، وسقم الجانب المهني في الجذع المشرك، حيث لا يتجاوز أربع 04 ساعات في الأسبوع، علما أن معامل هذا المكون هو أربعة، بل هو المعيار الفاصل في الانتقال الر المستوى الأعلى، ألي السنة الأولى بكالوريا. ب – تصور نظام الدراسة مبتور، فهو لم يضع بعد هندسة التعلمات في السنة الثانية بكالوريا. وهذا البتر يبين أن تصور المشروع أصيب بالعجلة. وهذا دليل على الروية الترقيعية لواضعيه. ج – الأكيد أن هذه البكالوريا تضاد توجهات المجتمع والدولة المغربية، فهي حذفت العديد من المواد الدراسية في السنة الأولى بكالوريا، ومن ذلك : التربية الإسلامية والفلسفة والتاريخ والجغرافية. وهذا ما يدل على تراجع الوزارة عن مكتسبات مغربية في التعليم. وإذا كانت الرؤية الإستراتيجية تدعو إلى المدرسة المواطنة، مدرسة القيم الإيجابية، الكونية والإسلامية، وإذا كنا نراهن على العلوم الإنسانية لتكوين وتربية وتنمية هذه القيم، فإن إقصاء هذه المواد الدراسية من هذه البكالوريا، يسير في اتجاه معاكس. إنه يسعى لخلق المواطن الآلة، الخادم العبد الطيع والخبزي. أليس لمواد العلوم الدينية والإنسانية علاقة بالعمل والشغل والمهني ؟ د – يظهر من خلال المذكرات أن الوزارة لم تستوعب المقصود من البكالوريا المهنية، التي نقلتها من التجربة الفرنسية، فمحتويات مواد الدراسة تغيب موادا أساسية في هذا التكوين، مثلا : مدخل للقانون، أبجديات في قانون العقود والالتزامات، أخلاقيات المهنة، سيكولوجيا وسوسيولوجيأ الشغل، التنمية الذاتية ... ه – ما يخلق الاشمئزاز في هذا التكوين هو إقصاء شريحة هامة من أبناء هذا الوطن من هذا التكوين، الذي هو حق دستوري للجميع. فالمذكرات المنظمة لا تعترف بذوي الاحتياجات الخاصة، وذوي الإعاقات الجسدية من هذه البكالوريا. فهي تحتم على كل مترشح أن يحصل على شهادة الأهلية الجسدية من المصالح الصحية . وهذا هو الحيف والاحتقار البين. فمن بين تخصصات البكالوريا المهنية نجد الخياطة والفصالة كما نجد الخدمات. وإذا نعرف في الحياة اليومية حرفيين ممتازين رغم أصابتهم بعاهات جسدية، فإننا نتعجب من هذا الإقصاء. والمضحك هو تشبث الوزارة بحصص التربية البدنية في كل سنوات التكوين وابعاد مواد الإنسانيات-. فما فائدة التربية البدنية لمهنة الخياطة ؟ ربما لعرض الأزياء. و ما جدوى الرياضة للفندقة والمطعمة ؟ ربما للسرعة في المطاعم و خدمة سريعة.